وعي التّاريخ











وعي التّاريخ



من المؤکّد أن الإنسان العربي الجاهلي- قبيل الاسلام- کان يعوزه الوعي التاريخي بالمعني الّذي عرفته الشعوب المتحضرة ذات الثقافة المدوّنة، وذات المؤسّسات السياسيّة والإدارية الرّاسخة العريقة. هذا فضلاً عن أن يکون الوعي التاريخي بالمعني الّذي عرفه إنسان العصور الحديثة قد وجد لدي الإنسان العربي الجاهلي قبيل الإسلام.

وهذا الحکم ينطبق بوجه خاص علي عرب الشّمال، وإن لم يکن عرب الجنوب- کما سنري- أفضل حالاً منهم بکثير.

فقد کان العربي الجاهلي- قبيل الاسلام- يعيش حياة البداوة بما يلزمها من تنقل وارتحال طلباً للکلأ وللماء، ومن ثم لم يکن لدي العربي مؤسسات ثابتة، ونظم سياسية وإدارية.

وکانت الأمّية غالبة علي هذا المجتمع، ومن ثم فلم يُنشئ ثقافة مدوّنة بأيّ نحو من الأنحاء إلا نقوشاً نادرة لا تبلغ أن تکون ثقافة مدوّنة تسهم في تکوين الشخصية الثقافية للإنسان- لا نستثني من ذلک عرب الجنوب الّذين کانوا قد فقدوا قبيل الإسلام- بانهيار نظام الرّي عندهم- الکثير من سماتهم کشعب متحضر له ماضٍ عريق، وغدوا أقرب إلي البداوة والأميّة.

وکانت الحياة من البساطة والسذاجة بحيث أن أحداثها البارزة کانت نادرة جداً، ومحدودة المدي جغرافياً وبشرياً، وهذه الأحداث هي الّتي شکّلت مادة ما يسمي «أيام العرب» الّتي سنعرض للحديث عنها بعد قليل.

کما لم يکن لدي العربي الجاهلي شعور بالزمن المستمر کمفهوم حضاري، کان الزمن عنده مجرّد تعاقب للظواهر الفلکية والفصول. ومن المعلوم أنّه لم يکن لدي العربي الجاهلي تقويم.

ونتيجة لکل هذه العوامل لم تتکوّن لدي العربي أية خبرات تاريخية ماضية ذات شأن، ناشئة من وقوع الأحداث نفسها من ناحية والشعور بها من ناحية أخري- لا أحداث مشتتة غير مترابطة- بل في نطاق نظام للتعاقب الزّمني وللعلاقات الداخلية فيما بينها.

وبعبارة أخري: لم يکن لدي العربي الجاهلي شعور بأستمرار الأحداث وديمومتها، وتفاعلها الداخلي، وعلاقاتها بحاضره، وإمکانات تأثيرها في المستقبل علي النحو الذي يصح أن يسمّي وعياً تاريخياً. لقد کان وعي الماضي علي هذا النحو لدي العربي الجاهلي قبيل الإسلام معدوماً.

نعم، لقد کان ثمّة وميض من الشّعور بالماضي لدي العربي الجاهلي.

کانت الذّاکرة تحمل صوراً غامضة، هلاميّة الشّکل ومشوّهة لهذا الماضي ناشئة من القصص الّتي کانت تسمّي «الأيام»، ومن العناية بالأنساب. لقد کانت «الأيام» والأنساب کما «البعد التّاريخي» للإنسان العربي.

إنّ هذا الوميض من الشّعور بالماضي لا يرقي، بالتأکيد، إلي أن يکون وعياً تاريخياً بالمعني الّذي نفهمه الآن.

فقصص الأيام نادراً ما تملئها الأحداث الکبري ذات الشّأن السّياسي والإنساني وهو ما يعطي التاريخ حقيقته ومعناه. وغالب أحداثها يتکوّن من معارک صغيرة بين مجموعات قبلية، ويعطيها الخيال الشعري والنصوص الشعرية المرافقة لها وهجاً وحجماً غير واقعيين.

کما أنّها تفقد عنصر الترابط فيما بينها، ولا تأخذ في جميع الأحوال بنظر الاعتبار عنصر السببيّة، ولا تقوم بينها علاقات داخليّة.

وهي خالية من عنصر الزمن، وخلوّها من عنصر الزمن ليس ناشئاً من إهمال، بل ناشئ من عدم إدراک العربي الجاهلي لعامل الزمن التاريخي کما أشرنا آنفاً.

وکانت قصص الأيام في حلقات السّمر الّتي تعقد أمام الأخبية والخيام للتسلية والمتعة، وللمفاخرة في بعض الحالات. ولم تکن تتداول کمادة علمية. والرأي الراجح أنها لم تدوّن علي الإطلاق.

والأنساب وإن کانت تدلّ علي شعور بالماضي من خلال وعي الإنتماء إلي الآباء الّذين تشتمل علي ذکرهم شجرة النسب القبلية، إلا أنّ علمنا بأنّ شجرات الأنساب کانت تقتصر علي مجرّد ذکر الأسماء فقط دون أن تحتوي علي أية مادة تاريخية، علمنا بهذا الوضع لشجرات الأنساب التي کانت تتداول عن طريق الرّوايات الشّفوية يجعل قيمتها کمصدر لتکوين الوعي التاريخي معدومة.

ومن المؤکدّ أنّ شجرات الأنساب في العصر الجاهلي لم تعرف أيّ شکل من أشکال التدوين ليتيح فرصة إضافة مادّة تاريخيّة إليها. ولم تدوّن شجرات الأنساب في کتب إِلا في عصر إسلامي متأخّر نسبيّاً.

ويظهر لنا هذا الوميض من الشعور بالماضي لدي العربي الجاهلي في الشعور الّذي يصور مواقف أخلاقية للشاعر في مجالات الحرب، والکرم، والوفاء، وما إلي ذلک، حيث تدفع الشاعر خشيته من (أحاديث الغد) الّتي تعکس مسلکية غير نبيلة إلي أن يجعل سلوکه منسجماً مع قيم النبالة کما تقضي بها أخلاقيات المجتمع الجاهلي فيکون وفياً، وشجاعاً حتي الموت، وکريماً... هذا الشعور يمکن أن يکون نواة للوعي التاريخي، ولکنّه لا يرقي، بطبيعة الحال، إلي أن يکون وعياً تاريخياً بالمعني الّذي حدّدناه آنفاً. إنّه وعي ناشئ عن قيم أخلاقية بدوية الطابع، وليس عن وجود تاريخ يستوعبه الشعور والوجدان، وهو مقصور علي حالات فردية لم تبلغ أن تکون وعياً عاماً. وهو شعور بالخشية من تصرّف شخصي أو موقف شخصي قد يدفع الآخرين إلي إدانته، وليس شعوراً بإنجازات الآخرين وتفاعلاً معها.

کان هذا حال العربي الجاهلي

ولکن الحال تغيّر بعد ظهور الإسلام تغيّراً کاملاً.

إنّ القرآن الکريم والسّنّة الشريفة قد کشفا للعربي تدريجاً عن عمقه في الزمان باعتباره مسلماً. وغدا القرآن والسّنّة يغذيان علي مهل وعي المسلم بعمقه التاريخي من خلال القصص الّتي تؤرخ للأمم الماضية، وأنبيائها، ومواقفها منهم باعتبارهم أنبياء، وحالات ازدهارها، وانحطاطها، وفنائها.

ومن خلال هذا الوعي أدرک المسلم أنّه بإسلامه، وجهاده اليومي- بالسيف والکلمة- في داخل الجماعة الإسلامية الّتي تبني نفسها بعين اللّه وعلي يد رسول اللّه، وفي مواجهة المشرکين... أدرک بوضوح کامل أنّه بعمله اليومي هذا يصنع تاريخاً موصولاً بما وعاه من تاريخ الأمم الماضية کما تعلّمه من الکتاب والسنة. وهکذا وجد الوعي التاريخ لدي الإنسان المسلم.

وللتّاريخ وظيفة تتعدي شعورنا بالإستمرار والديمومة. وهذه الوظيفة تربوية أخلاقية. لا يعني هذا أنّ التاريخ يتحوّل إلي مادّة وعظية فقط، فإنّ البحث والنقد غرضان من أغراض التاريخ بلا شک، ولکن الوظيفة النهائية بعدهما هي، کما قلنا، تربوية أخلاقية.

وهذه الوظيفة تستمدّ معالمها وطبيعتها من طبيعة النهج الّذي تسلکه الأمة في بناء نفسها، ومن طبيعة الدور الّذي تعد نفسها للقيام به في محيطها الإقليمي أو علي المستوي العالمي، ولذا نري أنّ کلّ أمّة ذات نهج فکري مميّز لشخصيتها تجعل التاريخ مادة بانية لهذا النهج الّذي ارتضته.

وهذا لا يعني- بطبيعة الحال- أن يحرّف التاريخ ليکون أداة دعائية وسياسيّة. إنّ الأمانة للحقيقة يجب أن تکون دائماً مرعيّة، وإنّما يعني أنّ التاريخ ليس مادة ترف فکري وتسلية. إنّه مادة شديدة الخطورة إذا تولّي استعمالها في الشأن العام رجال لا يقيمون للأخلاق وزناً ولا تحرکهم روح رسالية، وأجهزة کذلک... رجال وأجهزة يحرکهم التعصب والغرور القومي والعنصري... في هذه الحالة قد يوجّه التاريخ ليکون مبرّراً نظرياً وعاملاً نفسيّاً لدي الجماهير يخدم الطّغيان والإتجاهات العدوانيّة لدي السّياسيّين ورجال الحرب ضد أمة أخري، وفي هذه الحالة يعرض التّاريخ للتّزوير والتّحريف.

والتّاريخ حافل بأمثلة عن تسخير التاريخ لغايات غير أخلاقية وغير رسالية في العصور القديمة وفي العصر الحديث.

وللتاريخ في الإسلام- انطلاقاً من هذا الفهم- وظيفة تتّصل بطبيعة الإنسان المسلم وطبيعة المجتمع الإسلامي.

إنّ الإنسان المسلم إنسان أخلاقي يعتنق رسالة عالمية، والمجتمع الإسلامي مجتمع أخلاقي وذو رسالة عالمية.

وإذن فالتاريخ ينبغي أن يخدم الرّسالية والأخلاقية في علاقات المسلم الداخلية والخارجية، کما ينبغي أن يخدم الرّسالة والرّوح الرّسالية في العالم.

وکلّما حدث في سلوک المسلم أو سلوک الجماعة الإسلامية انحراف عن الأخلاقية أو انحراف عن الرّوح الرّسالية في ممارسة الحياة والتعامل مع الآخرين فإنّ التاريخ يستعمل، إلي جانب الوسائل التربوية الأخري والتنظيمية لتصحيح النظرة الخاطئة، وتقويم مسار الفرد والمجتمع.

والقرآن الکريم حافل بالشواهد علي هذه الحقيقة نذکر منها شاهداً مميّزاً لأنّه يتضمن تعبيراً غدا مصطلحاً إسلامياً في الشّأن التاريخي، هو مصطلح «أيام اللّه» الّذي يعني الأحداث الکبري في تاريخ کلّ أمّة سواء أکانت نجاحات کبري وانتصارات باهرة أو نکبات عظمي وانهيارات مأساوية.

وقد ورد هذا التعبير (أيام اللّه) في القرآن الکريم مرة واحدة فقط، ذلک في سياق الآيات الکريمة الّتي تضمنت بيان تربية وتوجيه نبيّ اللّه موسي بن عمران سلام اللّه عليه لبني إسرائيل وهدايتهم إلي الإيمان الصحيح، ورفع مستوي إدراکهم من حالة الجهالة والبدائية والماديّة إلي المستوي الإيماني- الحضاري. قال اللّه تعالي: «ولَقد أرسلنا مُوسي بِآياتِنَا أن أخرِج قومکَ مِن الظُّلُماتِ إلي النُّورِ، وذکِّرهُم بِأيَّامِ اللّه. إنّ فِي ذلِک لآياتٍ لِکُلِّ صبَّارٍ شکُورٍ».[1] .

وورد ذکر هذا المصطلح في نهج البلاغة في موضعين: أحدهما في کلام للإمام عند تلاوته قوله تعالي (يُسَبِّحُ لهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ رِجال لا تُلهِيهِم تِجارَة ولا بيع عن ذِکرِ اللهِ...)[2] قال في وصفهم: «... وما برحَ لِلهِ.. عِباد ناجاهُم[3] فِي فِکرِهِم، وکلَّمهُم فِي ذاتِ عُقُولِهم، فاستصبحُوا:[4] بِنُورِ يقظةٍ في الأبصارِ والأسماعِ والأفئدةِ، يُذکِّرُون بِأيَّامِ اللهِ، ويُخوِّفُون مقامه...».[5] .

وثانيهما في کتاب له إلي عامله علي مکّة قثم بن العبّاس،[6] قال فيه: «أمَّا بعدُ، فأَقِم لِلناسِ الحجَّ، وذکِّرهُم بِأيَّامِ اللهِ».[7] .

من هذا المنطلق، وعلي هذا الأساس کان الإمام عليه السّلام يتعامل في توجيهه الفکري، وفي وعظه، وفي تعليمه وتوجيهه السّياسي مع التاريخ، وکان يوجّه المسلمين إبي أن يعُوا التاريخ علي هذا الأساس، وأن يتعاملوا مع التاريخ من هذا المنطلق الّذي يخدم الأخلاقية والرّسالية.

ولعلّ الخطبة القاصعة[8] أفضل مثال علي طريقة تعامل الإمام علي مع التاريخ بهدف التربية وتقويم سلوک المجتمع أخلاقياً، وتوعيته بمسؤوليته الرّسالية، وسندرس في فصل آتٍ جوانب من هذه الخطبة.

ويمکن أن نکوّن فکرة مقاربة للحقيقة عن جهود الإمام الفکرية في حقل التوعية بالتاريخ إذا لاحظنا أن الکثير مما ورد في نهج البلاغة- وهو قليل من کثير من کلام الإمام وخطبه- إن لم يکن أکثر ما ورد في کلامه في النهج من المواد التالية (و. ع. ظ/ ح. ذ. ر/ ز. ج. ر/ ع. ب. ر)... کان الإمام قد خاطب به الناس في حالات شتّي وأزمان شتّي، موجهاً تفکيرهم نحو التاريخ بهدف التربية وتقويم السّلوک الفردي والإجتماعي في شؤون الحياة عامة من روحيّة واجتماعية وسياسيّة. ولا يختصّ ما رُوي عنه في هذا الشأن بالوعظ وحده کما ربما يتوهّم البعض.

ومن أمثلة ما أشرنا إليه آنفاً قوله عليه السّلام في مواضع من نهج البلاغة: «وعظتم بمن کان قبلکم...» «... فاتعظوا عباد اللّه بالصبر النّوافع...» «...واحذروا ما نزل بالأمم قبلکم من المثلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذکّروا في الخير والشرّ أحوالهم، واحذروا ان تکونوا أمثالهم» «... واتَّعِظّوا فِيها بِالّذِين قالُوا (من أشدُّ مِنّا قُوَّةً)».[9] .

إلي أمثال هذه العبارات الّتي ورد کثير منها في خطبه وکتبه.

فقد کان الامام يقاتل بکل سلاح نزعه الشرّ والإنحراف وتيّار الفتنة الّتي بدأت تجتاح المجتمع الإسلامي. وکانت توعية المجتمع بالتّاريخ أحد هذه الأسلحة.







  1. سورة إبراهيم (مکيّة-14) الآية: 5.
  2. سورة النّورة (مدنيّة- 24) الآية: 36 و37.
  3. ناجاهم: خاطبهم بالإلهام.
  4. استصبح: أضاء مصباحه.
  5. نهج البلاغة: رقم النص222.
  6. قثم بن العباس بن عبدالمطلب. کان من مساعدي الإمام علي (ع) في تجهيز رسول اللّه (ص) ودفنه، وهو آخر من خرج من القبر الشريف، ولاهُ أميرالمؤمنين علي مکة، فلم يزل والياً عليها إلي أن استشهد الإمام، واستشهد قثم بسمرقند، کان خرج إليها مع سعيد بن عثمان بن عفان زمن معاوية، وقبره في سمرقند مشهور. وقد زرناه أثناء مشارکتنا في المؤتمر الدّيني.
  7. نهج البلاغة: (باب الکتب) رقم النص67.
  8. الخطبة القاصعة رقمها في نهج البلاغة: 192.
  9. سورة فصّلت (مکّيّة-) 41 الآية: 15 فأمَّا عاد فاستکبرُوا فِي الأرضِ بِغيرِ الحقِّ وقالُوا: مَن أشدُّ مِنَّا قُوَّةً.