التاريخ في مجال السّياسة والفكر











التاريخ في مجال السّياسة والفکر



تمهيد

إستخدام الإمام التّاريخ في مجال الفکر کما استخدمه في مجال السّياسة.

کان رجل رسالة هي الإسلام، رسالة استوعبت الحياة کلّها: تنظيماً وتشريعاً ومناهجَ. وهي رسالة ذات طابع عالمي، ممتدة في الزّمان إلي آخر الزمان، أراد اللّه تعالي لها أن تکون ديناً للإنسان کلّ إنسان، تقوده نحو التکامل الّذي يحقّق له التّوازن والتّسامي.

وهي رسالة تقوم علي العلم والمعرفة، وترفض الجهل لأنه يتيح لأعدائها أن يتسلّلوا في ظلماته إلي قلوب أتباعها المؤمنين بها وعقولهم فيشوهون ويحرفون عقائدها وشرائعها ومناهجها، ويضلّلون بعد ذلک أتباعها المؤمنين بها وذلک حين يلبسون لهم الحق بالباطل والصواب بالخطأ.

ومن هنا کان من أکبر هموم رجل الرسالة الإستعداد الدائم في هذا المجال، لأجل أن يجعل المسلمين علي معرفة کاملة بالإسلام، وفي حالة وعي متجدّد ونام لحقيقة الإسلام وجوهره ومناهجه وغاياته ليکون المسلم المستنير بالمعرفة في حصانة من الحيرة والتضليل، علي بيّنة من أمره، وليکون الإسلام بمنجاة من التشويه والتحريف، ويکون کل مسلم مستنير ديدباناً علي دينه الّذي هو معني وجوده وشرف وجوده.

ومن هنا کان عليّ عليه السلام في حرکة تعليمية دائمة لمجتمعه وخواصّ أصحابه الذين کانوا علماء ينشرون علمهم ووعيهم بين الناس بالحديث والخطابة وحلقات الدرس والتعليم.

وکان الإمام عليه السلام يختار ولاته وعمّاله علي البلدان من ذوي المعرفة ومن أهل البصائر.[1] الّذين يتمتعون بالمعرفة والوعي والصلابة في العقيدة ليکونوا- الي جانب عملهم الإداري- معلّمين ورجال رسالة، وکان يوجههم نحو هذه المهمة التعليمية والتوجيهية. من ذلک ما کتب به إلي قثم بن العباس عامله علي مکة: «أمَّا بَعدُ، فَأقِم للِنّاس الحَجَّ، وَذَکِّرهُم بِأيامِ اللهِ،[2] وَاجلِس لَهُم العَصرَينِ،[3] فَأَفتِ المُستَفِتَي، وَعَلِم الجاهِلَ، وَذاکِرِ العالِمِ».[4] .

وفي عمله الفکري علي صعيد التعليم والتوعية استعان الإمام عليه السلام بعنصر التاريخ ليعطي للفکر حرارة وحياة وحرکة، وعمقاً في الزمان وفي الإنسان، وليجعل، بهذا، من القضية الفکرية بضعة من الحياة المعاشة تحمل في ثناياها رائحة المعاناة الإنسانية.

وکان الإمام رجل سياسة.

کان سياسيّاً علي مستوي رجل الدولة ورجل العقيدة والرسالة طيلة حياته. ملأ العمل السياسي حياته في عهد النبي (ص) بتکليف منه، وفي عهود الخلفاء الذين تقدّموه لحاجتهم إِليه أو لحاجة الناس إِليه. وکان- بالإضافة إِلي ذلک- حاکماً ورئيس دولة في السّنين الأخيرة من حياته.

وکان الإمام بهذين الإعتبارين في حاجة دائمة إِلي أن يُعطي لأمته ولأعوانه التوجيهات السّياسيّة اللاّزمة. وکان في بعض هذه التّوجيهات يستعين بعنصر التاريخ لُيضي ء الفکرة السّياسّية الّتي يقدّمها، وليُعطي توجيهه السياسي صدقاً واقعياً إضافة الي الصدق النظري... صدقاً واقعياً يوفّر للتوجيه السياسي حرارة ووهجاً. إِنه بهذا العمل «يؤنس» التوجيه السياسي، ويجعله بحيث يخالط القلب کما يوجّه العقل.







  1. «أهل البصائر» تعبير إسلامي يعود إلي صدر الإسلام، يعني به المومنون الواعون الّذين يتخذون مواقفهم السّياسّية وغيرها نتيجة لقناعات مستوحاة من المبدأ الإسلامي، ولا تتصل بالإعتبارات النفعية.

    ومن المؤکد أنَّ هذا التعبير غدا في وقت مبکر جداً مصطلحاً ثقافياً إسلامياً يعني:الفئة المؤمنة الواعية للإسلام علي الوجه الصحيح، والملتزمة بالإسلام في حياتها بشکل دقيق، بحيث أنّها تتخذ مواقف مبدئية من المشاکل الاجتماعية والسّياسّية الّتي تواجهها في الحياة والمجتمع، فلا تصغي إلي الإعتبارات الشخصية والقبليّة کما أنها لا تقف علي الحياد أمام هذه المشکلات، وإنّما تعبّر عن التزامها النظري بالممارسة اليومية للنضال ضد الإنحرافات.

    راجع بحثاً مفصلاً عن هذا الموضوع في کتابنا «أنصار الحسين: الرّجال والدلالات»- الطّبعة الأولي- دار الفکر- سنة/1975 فصل «النخبة» ص170-165.

  2. «أيام اللّه» مصطلح ثقافي إسلامي، يغلب استعمالُه للدّلالة علي الکوارث الکبري الّتي أصابت الشعوب والجماعات نتيجة لانحرافها في العقيدة والشريعة والأخلاق، وقد يستعمل للدّلالة علي الإنتصارات الکبري التي أحرزها المؤمنون فغيّرت مجري التاريخ أو مجري تاريخ جماعة مؤمنة أو شعب مؤمن.
  3. العصران: هما الغداة والعشي.
  4. نهج البلاغة- باب الکتب/ الکتاب رقم67.