التاريخ في مجال الوعظ
وکشفنا النّقاب هناک عن أنّ الإمام لم يکن في مواعظه داعياً إلي مذهب زهدي يقف موقفاً سلبياً من الحياة الدنيا والعمل لها والإستمتاع بها، وإنّما کان، في مواعظه وتوجيهه الفکري بوجه عام، يدعو إلي مواجهة الحياة بواقعية وصدق، محذّراً من اللّهاث المجنون وراء الآمال الخادعة والأحلام الکاذبة الّتي ليس لها في واقع الحياة سند ولا أساس. وکشفنا النّقاب أيضاً عن أن النّظرة الشّائعة إلي مواعظ الإمام في نهج البلاغة قد تأثرت بالتّيار الزهدي السّلبي الّذي طبع المجتمع الإسلامي بطابعه في عصور الإنحطاط، وهو دخيل علي الفکر الإسلامي وعلي أخلاقيات الإسلام وتشريعه، ولذا فإنّ هذه النظرة خاطئة لا تمثل مقاصد الإمام وأهدافه من المواعظ الّتي کان يوجّهها إلي مجتمعه. والمواعظ الّتي استخدم الإمام فيها عنصر التّاريخ کغيرها من مواعظه في أنه لا يدعو فيها إلي مذهب زهدي سلبي من الحياة الدنيا، وإنّما يعالج بها حالة خاصة في مجتمعه الّذي بدا غافلاً عن مصيره التعس، مهملاً لواجباته في جهاد النفس وجهاد العدو، متلهفاً علي المتع والثراء اللّذَين لا يستحقهما الا مجتمع مستقر أحکم وضعه الأمني والسّياسي والإجتماعي، وقطع دابر الطامعين فيه المتآمرين عليه، وهذا ما لم يکنه مجتمع العراق في عهد الإمام عليه السلام، بل کان مجتمعاً قلقاً يعاني من اضطراب أمنه الخارجي وتدهور أمنه الداخلي، کما يعاني من التمزّق السياسي، وکان- نتيجة لذلک- يؤجّج مطامع الحکم الأموي في الشام ويدفع به نحو التآمر عليه. ونقدّم فيما يلي نموذجاً من النّصوص الوعظية الّتي يکون التاريخ عنصراً بارزاً وأساسيّاً فيها. قال عليه السّلام: «أمّا بَعْدُ، فَإنِّي أُحَذِّرُکُمُ الدُّنْيَا، فَإنَّهَا حُلوَة خَضِرَة، حُفَّتْ بِالشَّهواتَ، وَتحبَّبت بِالعاجِلةِ، وراقت بِالقليلِ، وتحلَّت بِالآمالِ، وتزيَّنت بِالغُرُور، لا تدُومُ حبرتُها،[2] ولا تُؤمَنُ فجعتُها، غرَّارة ضرَّارة، حائلة[3] زائلة نافدة بائدة،[4] أکَّالة غوَّالة،[5] لا تعدُو- إذا تناهت إلي أُمنيَّةِ أهلِ الرَّغبةِ فِيها والرِّضاءِ بِها أَن تکُون کما قالَ اللهُ تعالي سُبحانهُ «کماءٍ أَنزلناهُ مِن السماءِ، فاختلط به نباتُ الأرضِ، فأَصبح هشِيماً[6] تذرُوهُ الرِّياح وکان اللهُ علي کُلِّ شي ء مُقتدراً»،[7] لم يکُنِ امرُؤ مِنها فِي حَبرةٍ اِلا أعقبتهُ بعدها عبرةً، ولم يلقَ فِي سرَّائها بطناً إلا منحتهُ مِن ضرَّائَها ظهراً،[8] ولم تطُلَّهُ فيها دِيمة[9] رخاءٍ إِلا هتنت[10] عليهِ مُزنةُ بلاءٍ. وحرِيّ إذا أَصبحت لهُ مُنتصرةً أن تُمسِيَ لهُ مُتنکِرةً، وإن جانِب مِنها اعذوذبَ واحلولي أَمرَّ مِنها جانِب فأَوبي[11] لا ينالُ امرُؤ مَن غضاريها رغباً[12] إلا أرهقتهُ مِن نوائبِها تعباً، ولا يُمسِي مِنها في جناحِ أمنٍ إلا أصبحَ علي قوادِمِ خوفٍ.[13] غرَّارةُ ما فِيها، فانية، فانٍ مَن عليها، لا خيرَ فِي شي ءٍ مَن أزوادِها إلا التقوي. «مَن أقلَّ مِنها استکثرَ مِمَّا يُؤمِنُهُ، ومَنِ استکثرَ مِنها استکثرَ مِمّا يُوبِقُهُ،[14] وزال عمَّا قلِيلٍ عنهُ». «کم مِن واثقٍ بِها قد فجعتهُ، وذِي طُمَأنِينَةٍ إليها قد صرعتهُ، وذِي أُبهةٍ قد جعلتهُ حقِيراً،[15] وذِي نخوةٍ قد ردَّتهُ ذلِيلاً».[16] . «سُلطانُها دُوَّل[17] وعيشُها ريق،[18] وعذبُها أُجاج،[19] وحُلوها صَبِر،[20] وغِذاؤُها سِمام[21] وأسبابُها رِمام».[22] . «حيُّها بِعرضِ موتٍ، وصحِيحُها بِعرضِ سُقمٍ، وموفُورُها منکُوبٍ[23] وجارُها محرُوب».[24] . «ألستُم فِي مساکِنِ من کان قبلکُم أطولَ أعماراً وأبقي آثاراً، وأبعدَ آمالاً، وأعدَّ عدِيداً. وأکثف جُنُداً؟ تعبَّدُوا لِلدُّنيا أيَّ تعبُّدٍ، وآثرُوها أيَّ إيثارٍ، ثُمَّ ظعنُوا عنها بِغيرِ زادٍ مُبلغٍ، ولا ظهرٍ قاطِعٍ».[25] . «فهل بلغکُم أنَّ الدُّنيا سخت لهُم نفساً بِفِديةٍ[26] أو أعانتهُم بِمَعُونةٍ، أو أحسنت إليهِم صُحبَةً..؟ بل أرهقتهُم بالقوادِحِ[27] وأوهقتهُم بِالقوارِعِ[28] وضعضعتهُم بِالنَّوائبِ،[29] وعفَّرتهُم لِلمناخِرِ،[30] ووطِئتهُم بِالمناسِمِ،[31] وأعانت عليهِم ريبَ المنُون». «فقد رأيتُم تنکُّرَها لِمن دان لها[32] وآثرها وأخلدَ إليها[33] حِين ظعنُوا عنها لِفِراقِ الأبدِ... أفهذِهِ تُؤثِرون؟ أم إليها تطمئنُّونَ؟ أم عليها تحرِصُون؟ فبِئستِ الدَّارُ لِمن لميتَّهِمها، ولم يکُن علي وجلٍ مِنها». «فاعلمُوا- وأنتُم تعلمُون- بِأنکُم تارِکُوها وظاعِنُون عنها، واتَّعظوا فِيها بِالَّذِين قالُوا (من أشدُّ مِنّا قُوَّةً..[34] حُمِلُوا إلي قُبُورِهِم فلا يُدعون رُکباناً.[35] وأُنزِلُوا الأجداث فلا يُدعَونَ ضِيفاناً،[36] وجُعِل لهُم مِنَ الصَّفِيحِ[37] أجنانُ[38] ومِن التُّرابِ أکفان...استبدَلُوا بِظهرِ الأرِضِ بطناً، وبِالسَّعةِ ضِيقاً، وبِالأهلِ غُربةً، وبِالنُّورِ ظُلمَةً...».[39] . رکّز الإمام عليه السّلام في هذه الخطبة الوعظية- کما هو شأنه في معظم مواعظه-علي عاملين ثابتين في طبيعة الحياة علي هذه الأرض: 1- عامل التغيّر والتقلّب في الحياة: الحياة بما هي حرکة، وبما هي تفاعل، وبما هي طاقات وقوي تتفاعل فتتکامل أو تتقاتل في داخل کل شي ء ومن حول کل شي ء في الکون المادي کلّه- الحياة بما هي کل هذا متقلّبة متغيّرة متحوّلة باستمرار- هي في حالة صيرورة دائمة لا تستقر علي حال ولا تثبت علي وتيرة واحدة. 2- عامل الزّمن : أثر الزمن في الأشياء والأعمار ظاهر لکلّ ذي بصيرة، فالزّمن يفتت الحياة باستمرار، فما أن يبدأ وجود الحياة في شي ء، بل ما أن يبدأ وجود شي ء، حيّاً کان أو غير حيّ حتي يبدأ هذا الوجود بالذّوبان والتّفتّت والضّياع. إنّ الحياة تولد في الزّمن. ولکنّ الزّمن يغتالها باستمرار. وهذان العاملان- التّغيّر والزمن- لا يختصان بعالم الإنسان وحده، إِنّهما يعملان في کلّ شي ء ويحُولانِ دون ثبات کل شي ء: الجماد، والنّبات، والحيوان، والإنسان. ويتميّز الإنسان- بالنسبة إليهما- عن العوالم الأخري بأنّه- لما أوتي من عقل وإدراک- يستطيع أن يعي الوجه المأساوي لعمل هذين العاملين، وأثرهما في حياته وفي الوجود من حوله. ووعيُ الإنسان لهذين العاملين وأثرهما في الحياة والأشياء يجعله قادِراً علي مواجهة الحياة ومباهجها الموقتة، ووعودها السّخيّة، وآمالها اللامعة. بعقل صافٍ خالٍ من الأوهام، ويعزّز فيه النّزعة الواقعية في أخذ الحياة والتعامل مع الدّنيا- هذه النّزعة الّتي من شأنها أن تجعل الآمال أقل بريقاً وجذباً واستهواءً، والإنتصارات أقل مدعاة للغرور والصلف، والمآسي أقل إيلاماً. ويعزّز مناعة الإنسان أمام تکالب صروف الدهر، وخيبات الأمل وضياع الجهود، ونوازل المرض والموت... فلا ينهار بسبب ذلک ولا ييأس ولا يستسلم، ولا يستکين ولا يهرب من العمل، وإنّما ينبعث للعمل والکفاح في سبيل نفسه وأهله ومجتمعه وعالمه من جديد لأنّه لم يفاجأ بالخيبة والإخفاق، بل کان مهي ء النفس لتقّبلهما ومن ثم فقد کان مهي ء النفس لتجاوزهما، واستئناف العمل مرة أخري بأملٍ واقعي جديد. بالإجمال: إنّ وعيَ الإنسان لهذين العاملين، وإدراکهُ لأثرهما العميق والمصيري في حياته وفي الوجود من حوله يجعله قادِراً علي مواجهة الحياة بکلّ وجوهها وما فيها من حسن وقبح، وألم ولذّة، وواقع وخيال، ونجاح وإخفاق... يواجهها بروح واقعية. وحين يدخل الإمام عليه السّلام في وعظه عنصر التاريخ فيتحدّث عن الماضين وما حلّ بهم من کوارث وآلام وما انتهت إِليه حياتهم علي عظمة توهجها من انطفاء فإنه يقدّم لتحليله النظري الّذي تناول واقع حياة معاصريه الّذين يخاطبهم- يقدّم نماذج تطبيقيّة من حياة أقوام آخرين.. إنّه يقدّم لمعاصريه تجربة الآخرين الّتي يعرفونها، ويبعثون حياتهم في ساحاتها، ويرون آثارها الباقية من الماضي في هذه الساحات. فهذه المدن والمساکن، وهذه الضياع والمزارع، وهذه القلاع والحصون عمرها في عصور سابقة أناس تقلبت بهم صروف الحياة وأفراحها وأحزانها، والآمال الّتي سعدوا بإنجازها وخيبات الأمل، ثم ماتوا وانقطعوا عن کل ما کان يملأ عليهم حياتهم من أحلام وأماني. ومطامح ومطامع، وحب وبغضاء، وصداقات وعداوات...وکان هؤلاء أطول أعماراً، وأکثرُ قوةً.. «وأعد عديداً»، وقد وجّهوا کل ما أوتوا من قدرة وذکاء ومعرفة لدنياهم، فأعدوا لها واستعدوا، ولم يشغلهم عنها تفکير بالآخرة أو عمل لها، ولکن کلّ ذلک لم ينفعهم ولم يعد عليهم بطائل، لأنَّ عامل التغيّر والتقلّب من جهة وعامل الزمن من جهة أخري، عملا دائماً- کما لا يزالان يعملان، وکما سيعملان في المستقبل- علي تفتيت حياة أولئک الناس، وکانت حياتهم- کما هي الحياة الآن، وکما ستبقي الحياة- تحمل في جوهرها وفي أعماقها أثناء ولادتها ونموها وازدهارها بذور تقلصها وذبولها وأنطفائها في آخر المطاف. هذا نموذج من وعظ الإمام عليّ الّذي يدخل فيه عنصر التاريخ باعتباره يُضي ء الحاضر لأنه يضيف إِليه تجربة الماضي ويجعله- بذلک أکثر غني، ويجعل الإنسان أکثر قدرة علي مواجهته بروح واقعية وبعقل خالٍ مِنَ الأوهام، فلا يهن ولا يستسلم تحت وطأة الکارثة، ولا يطغي ولا يطوّح به الغرور وهو في ذري النجاح.
حلّلنا في فصل (الوعظ) من کتابنا «دراسات في نهج البلاغة»،[1] مواعظ أميرالمؤمنين علي (ع) في نهج البلاغة علي ضوء الظروف السياسية والإجتماعية والنفسية الّتي کانت تسيطر وتوجه مجتمع العراق بوجه خاص في أيام خلافة الإمام عليه السّلام.