التاريخ و حركة التقدّم البشري و نظرة الإسلام











التاريخ و حرکة التقدّم البشري و نظرة الإسلام



التّاريخ حرکة الکائن في الزّمان والمکان.

والکائن جماد، ونبات، وحيوان، وإنسان.

وتاريخ کلّ من الجماد والنّبات والحيوان يسير وفق قوانين ثابتة، وموضوعة خارج هذه العوالم.

إنّ الجماد لم يضع قوانين حرکته، ومن ثمّ فإنّه لم يضع قوانين تاريخه، وکذلک النّبات والحيوان.

إنّ هذه العوالم الثّلاثة خاضعة في جميع حالات وجودها لمبدأ الضّرورة، ومن ثمّ فتاريخها من جميع وجوهه خاضع لمبدأ الضّرورة، إنّه حصيلة حرکتها الضّرورية في الزّمان والمکان، ومن ثمّ ف (الخطأ) غير وارد في تاريخ هذه العوالم، إنّها لا تصنع تاريخها ولذا فهي لا تقع في أخطاء العمل.

أمّا تاريخ الإنسان فشي ء آخر.

إنّ الإنسان يتعامل مع الکون علي أساس مبدأ الإختيار لأنّه کائن حرّ لا يخضع لمبدأ الضّرورة إِلا في نطاق العمليات البيولوجية في جسمه، ومن ثمّ فإنّه يشارک في وضع قوانين حرکته في الزّمان والمکان، فإنّ الإنسان يکيّف نفسه لتنسجم مع الطّبيعة حين يعجز عن تکيّف الطّبيعة لتنسجم معه.

والإنسان يحب ويبغض، ويأمل وييأس، ويتألم ويحلم، والإنسان يخاف...

يخاف من المجهول، ويخاف من المستقبل... والإنسان، قبل کلّ شي ء وبعد کلّ شي ء، يفکّر: يحلّل المواقف والمشکلات الّتي تواجهه، ويرکّبها، ويوازن بين احتمالاتها،ويرجّح ويختار، ويتحرّک وفقاً لاختياره، فهو إذن يستجيب في حرکته لعالمه الخارجي ولعالمه الدّاخلي من موقع الإختيار باعتباره کائناً حراً لا من موقع الضّرورة.

ومن هنا فإنّ الخطأ في التّحليل والتّرکيب والإختيار، والرّجوع إِلي الوراء في حرکته، وما يؤدّي إِليه ذلک من خيبات الأمل في خططه ومشاريعه- أمور حدثت للإنسان دائماً في حرکته التاريخيّة.

ولذا فإنّ تاريخ الإنسان کما هو سجل مشرق ومشرّف لانتصاراته وإِنجازاته في الطبيعة والمجتمع هو کذلک سجل کئيب حافل بأخطائه، وانتکاسات حرکته نحو المستقبل، وخيبات أمله.

ومن أسوأ ما يمکن أن يقع فيه الإنسان من أخطاء: حسبانه في کثير من الحالات أنّه کان دائماً علي صواب، وأنّ تاريخه يمثل خطاً صاعداً باستمرار، وأنّ حرکته نحو المستقبل- لذلک- تقدميّة دائماً، خيرة دائماً، صائبة دائماً، لا يتخللها خطأ ولا انحراف.

ومثل ذلک في السوء حسبانه أنّ کلّ ماضيه خطأ وتخلف، ومن ثمّ فهذا الماضي لا يستحقّ منه الإلتفات والمراجعة، وأنّه اهتدي إِلي النّظرة الصّائبة في حاضره، وأنه في حرکته نحو المستقبل حليف الصّواب والتّوفيق باستمرار.

إِنّ هذا الحسبان وذلک يحملان الإنسان علي ارتکاب مزيد من الأخطاء، والوقوع في کثير من المآسي وخيبات الأمل.

ذلک بأنّ الإنسان حين يخال حرکة التّاريخ دائماً علي صواب فإنّه يلغي جميع المؤثّرات الإنسانية، ويسلم نفسه لحرکة التّاريخ الإنساني کما لو کان هذا التّاريخ خاضعاً لمنطق الضّرورة کتاريخ الجماد والنّبات والحيوان. ومن ثمّ فإنّه يرتکب الأخطاء الکبري وهو يحسب أنّه علي صواب، ويصحِّح أخطاءه بأخطاء أخري

تسبّب للإنسانية مزيداً من التخلف علي کلّ صعيد، ومزيداً من المآسي الفرديّة والجماعيّة.

وکذلک الحال حين يحکم الإنسان علي ماضيه بأنّه مجموعة أخطاء قاد أسلافَه إِليها الجهلُ وسوء الفهم وسوء التّوجيه، ولذا فلا شي ء من هذا الماضي يصلح للحاضر وللمستقبل. وأنّه کان ضالاً فاهتدي، وأنّه امتلک الحقيقة التّاريخيّة وکانت ضائعة منه بسبب هذا الّذي غلّه وشلّ قواه.

إِن الإنسان باتخاذه لهذا الموقف يحکم علي جميع تجارب الماضي بالفشل والبطلان، وهو حکم لا شکّ في أنّه جائر عن قصد السّبيل، لأنّ الحقيقة هي أنّ في تجارب هذا الماضي الکثير الکثير من الصّواب الّذي تکبّدت الإنسانيّة أنواعاً شتّي من الآلام والتّضحيات وتحمّلت کثيراً من المصاعب في سبيل الوصول إِليه والإهتداء إِلي معالمه.

کِلا هذين الموقفين يؤدّي بالإنسان إِلي أن ينظر إِلي نفسه وعقله في حاضره و مؤسساته السياسيّة وغيرها وسائر نظمه بثقة مطلقة لا مبرّر لها. ولنقل إِنّه في هذه الحالة الّتي يرفض فيها جميع الماضي أو في تلک الحالة الّتي يخال فيها حرکة التّاريخ دائماً علي صواب- ينظر إِلي نفسه وموقفه بغرور أجوف ولعل هؤلاء وأُولئک ممّن عناهم اللّهُ تعالي بقوله: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُکُمْ بِاْلْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أُولئِکَ الّذِينَ کَفَرُوا بِآيَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً. ذَلِکَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا کَفَرُواْ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوا».

إنّ هذا الغرور الأجوف، وتلک الثّقة المطلقة الّتي لا مبرّر لها تؤدّيان بالإنسان إلي الوقوع في أخطاء کبري تعرض المجتمعات بل وجانباً کبيراً من الإنسانيّة لکوارث عظمي ومتنوّعة لم يعرف لها التّاريخ مثيلاً.

1- سورة الکهف (رقم18 مکّية) الآيات:.106-103 والآيات تومئ إِلي النّظرة الّتي تعتبر حرکة التّاريخ خاضعة للإعتبارات المادّيّة وحدها، والنّظرة الّتي تقيس التّقّدَم البشري بالمقياس المادّي وحده.

وهذا ما وقع فيه إنسان الحضارة الحديثة، والويل له مما صنعت يداه في المقبلات من الأيام.

وقد ولّدت هاتان النّظرتان المتطرفتان إلي التّاريخ وإلي المستقبل مفهوماً للتّقدّم البشري غير متکامل ومِن ثمّ دافع بالإنسان إلي ارتکاب المزيد من الأخطاء الکبري في شأن نفسه وفي شأن عالمه.

لقد اعتبر التّقدّم في الحضارة الحديثة بالمقياس المادّي وحده. فيقاس التّقدّم في أيّ مجتمع وفي ظل أيّ نظام سياسي بحجم الإنتاج والإستهلاک بالنّسبة إلي أشياء الحياة المادّية: الطّعام، والملابس والمساکن وأدوات الزّينة، ووسائل النّقل والطّاقة والطّرق، ووسائل اللّهو ووسائل تيسير الحياة اليومية المنزلية وغيرها، والمصانع والأسلحة وما إلي ذلک من أشياء، يضاف إلي ذلک المؤسسات الحکومية والأهلية الّتي تنظّم کلّ هذه العمليات..

ولا يقيم هذا المفهوم عن التّقدّم البشري وزناً لوضعية الإنسان الأخلاقيّة وللقيم الّتي ينبغي أن توجّه سلوکه مع الطّبيعة المادّية، والعالم، والمجتمع والأسرة.

وهذا المفهوم هو الدّليل الّذي يوجّه أفکار وخطط وعمليات المؤسسات الوطنية والدّولية المعنية بقضايا التّنمية، فالوکالات المتخصّصة للأمم المتّحدة، والجامعات، ومراکز الأبحاث الّدولية والوطنية تعتبر حرکة التقدم والنموّ بهذا المقياس.

وکانت عاقبة ذلک تقدّماً مذهلاً في مجال المادّيات... تقدّماً تجاوز أکثر الأحلام جموحاً في بداية النّهضة الصّناعية الحديثة. ولکنه تقدّم ترافق مع تأخر مأساوي في مجال المعنويات بدأت بعض البصائر المستقبلية في العالم الغربي و (الشرقي ؟؟) تکتشفه وتعي خطورته، وتحذر من عواقبه الوخيمة.

وعلي ضوء هذا المفهوم للتّقدّم قُسِّم الجنس البشري في الخمسينات من هذا القرن الميلادي إلي عوالم ثلاثة:

العالَم الأوّل: (أمريکا الشّماليّة، وأوربّا الغربيّة، واليابان) بلغ أعلي مستوي عرفه الإنسانُ في التّقدّم المادي والتّنظيم.

العالَم الثّاني- (الإتّحاد السّوفياتي وأوربّا الشّرقيّة، والصّين «أخيراً») يلي العالم الأوّل في الرّتبة من هذه الحيثيّة ويجهد لِلّحاق به في شتّي الميادين.

العالَم الثّالث- (آسيا، وأفريقيا، وأمريکا اللاتينيّة)، ويسمّي هذا القسم من البشريّة (العالم المتخلّف أو العالم النّامي).

وهکذا يحمل العالَم الثالث وصمة التخلّف وفقاً لهذا المفهوم، وفقاً لمقاييس التّقدّم المبنية علي هذا المفهوم- هذه المقاييس الّتي فرضها فکر الحضارة الحديثة وسطوتها، اندفعت شعوب آسيا وأفريقيا وأمريکا اللاتينيّة في تيّار هذه النّظرة إلي معني التّقدّم البشري لتحقّق لنفسها اللّحاق بالعالَم الأوّل الّذي يحول بينها وبين ذلک مستغلاً تفوّقه الهائل وضعفها الکبير في نهب ثرواتها وبلبلة حياتها السّياسية، ولکنّها في سبيل التخلّص من وصمة التخلّف العالقة بها وفقاً لهذا المفهوم تمضي قدماً في ما تحسب أنّه يضعها علي طريق التّقدّم مضحّية في سبيل ذلک بالکثير من قيمها وأخلاقها متخلّية عن اصالتها، طامحة إلي أنْ يکون إنسانُها نسخةً دقيقةً من إنسان العالَم الأوّل.

ولکنّ هذا المفهوم عن التّقدّم البشري ناقص ومبتور لأنّه يمثّل جانباً واحداً من الوضعيّة الإنسانية، وقد کان من أکبر الأخطاء الفکريّة الّتي وقع فيها إنسان الحضارة الحديثة نتيجة لخطأ نظرته إلي التاريخ وإلي المستقبل، فإنّ الوضعية الأخلاقيّة للإنسان ذات صلة وثيقة وأساسيّة بکونه متقدّماً أو متخلّفاً. وهذه حقيقة وجدت سبيلها أخيراً إلي الإدراک في داخل الحضارة الحديثة، وهذا، علي الرّغم من أنّه لا يزال في نطاق ضيّقٍ نسبيّاً، باعث علي الأمل.

لقد بدأت ترتفع، هنا وهناک، داخل الحضارة الحديثة، أصوات بعض ذوي العقول النيّرة والبصائر النّافذة من النخبة في العالم الغربي من علماء وشعراء ومفکرين محذرة من الإنسياق وراء هذه النظرة الخاطئة، محذّرة من عواقبها المهلکة، داعية إلي اعتماد نظرة أخري تقيم التّوازن في السّعي نحو التّقدّم بين حاجات الإنسان الرّوحية ووضعيّته الأخلاقية من جهة وبين حاجاته وطموحاته المادّية من جهة أخري، منذرين بأنّ استمرار الحضارة في مادّيتها الخالصة سيؤدّي إلي خرابها ودمار الإنسانيّة أو جانب کبير منها.

إنّ نظرة هؤلاء المستقبليين من ذوي العقول النّيّرة في العالم الغربي (والشّرقي؟) قريبة من نظرة الإسلام إلي مسألة التقدّم والتخلّف مع تأکيدنا علي وجود اختلافات جمّة تعود إلي تفاصيل النّظرة وإلي الوسائل والأساليب.

فالإسلام- ممثلاً بالقرآن الکريم، والسّنّة الشّريفة، والفقه- إذ يدفع بالإنسان نحو المستقبل الأفضل من حاضره وماضيه، يرکّز علي أنّ هذه الأفضليّة تقوم علي مقياس مرکّب يعطي لکلّ واحد من المادّة والمعني دوراً حاسماً وأساساً في إنجاز التّقدّم المتکامل المعافي، فلا بدّ أنْ تحقق حرکة الإنسان في الزّمان والمکان تقدّماً وتکاملاً علي صعيد المادّة وعلي صعيد الوضعيّة الأخلاقيّة والصّفات الإنسانيّة لتکون حرکته تقدّميّة.

قالَ اللّهُ تعالي: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاکَ اللّهُ الدَّار الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَکَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَحْسِنْ کَمَا أَحْسَنَ اللّهُ إلَيْکَ، وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفسِدِينَ».[1] .

وقالَ تعالي: «يَا بَنِي آدَم خُذُواْ زيِنَتَکُمْ عِندَ کُلِّ مَسْجِدٍ، وَکُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفينْ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة اللّهِ الَّتي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ؟ قُلْ: هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، کَذلِکَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يِعْلَمُونَ. قُلْ: إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَالإثْمَ، والْبَغْيَ بِغَيْرِ الحقِ، وَأَنْ تُشْرِکُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً، وَأَنْ تَقُولُواْ عَلَيَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ».[2] .

أمّا تحقيق التّقدّم المادّي وحده مع إهمال العناية بالوضعيّة الأخلاقيّة والمعنويّة للإنسانيّة أو مع التّضحية بها فإنّه کقصر العناية علي الوضعيّة الأخلاقيّة والرّوحية مع إهمال شؤون التّقدّم المادّي- کلاهما لا يمثّلان النّظرة المتوازنة الّتي يجب أن تقوم عليها حرکة الإنسان التّاريخيّة وتبني علي هديها مؤسّسات الحضارة. إنّ کلّ واحد من الإتجاهين يمثّل انحرافاً معيّناً لا يخدم الإنسانيّة ولا يبني الحضارة.

إننا- وفقاً لهذه النّظرة المتوازنة- کما نعتبر النقص في إنتاج السّلع والخدمات المادّيّة بدرجة تکفي أکبر عدد من الناس وتحقّق لهم الرّفاهيّة واللّذة- کما نعتبر هذا النقص وما يتصل به تخلفاً، کذلک نعتبر من أسوأ مظاهر التّخلّف: تزايد الجرائم في المجتمع بشتّي أنواعها، وتصدّع الأسرة، وجفاف العلاقات الإنسانية النّظيفة، ونموّ روح الحرب والعدوان داخل المجتمعات وبين الجماعات القوميّة والوطنيّة، وهو أنّ الحياة البشرية عندما تکون خارج الإطار القومي والعنصري للمعتدي... وغير ذلک من مظاهر فساد الوضعيّة الأخلاقية للإنسان فرداً وجماعة ومجتمعاً ودولةً.

ووفقاً لهذه النّظرة المتوازنة يکون من الخطأ تقسيم عالم اليوم إلي عالم متقدّم وعالم متخلّف. إنّ عالم اليوم کلَّه- وفقاً لهذه النّظرة- متخلّف، فإنّه إِذا کان العالم الثالث متخلّفاً علي مستوي المادّة وأساليب التّنظيم والإدارة، فإنّ العالم الآخر متخلّف من حيث الوضعيّة الأخلاقية والعلاقات الإنسانية والصّفات الإنسانية في أفراده وجماعاته ومجتمعاته.

وسنري، خلال هذا البحث، أنّ منطلق أميرِالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في فهمه للتّاريخ وحرکة الإنسان في الحاضر نحو المستقبل هو هذه النّظرة المتوازنة الّتي اشتمل عليها الإسلام، وعبّر عنها القرآن الکريم، والسّنّة الشّريفة، والفقه المستمدّ منهما المبني عليهما.







  1. سورة القَصص (رقم28 مکَيّة) الآية:77.
  2. سورة الاعراف (رقم7 مکيّة) الآيات: 33-31.