الامل











الامل



الإنسان يعيش في الحاضر مشدوداً بين وترين: الماضي والمستقبل، فهو لا يني يحمل الماضي في وعيهِ، وفي ذاکرته، وفي ترکيب جسده، مثقلاً بأحزانه وأفراحه، ومخاوفه وآماله، مندفعاً بها نحو المستقبل، يضي ء عينيه نور الأمل الّذي يغمر قلبه بالحياة الأفضل. ولکنّه أمل معذب بالحيرة، والقلق، والمخاوف من خيبات الأمل.

وهذه الحقيقة بارزة في تکوين وحياة الإنسان الفرد بوضوح، وهي لا تقلّ وضوحاً في حياة الأمم والشّعوب والجماعات.

وقد وقف الإسلام في تعليمه التّربوي الإيماني للأفراد في وجه الميل إلي الإغراق في الأمل، لأنه حين يشتدّ ويغلب علي مزاج الإنسان يجعله غير واقعي، ويحبسه في داخل ذاته، وينمي فيه الشّعور ب «الأنا» علي نحو لا يعود الآخرون موضوعاً لاهتمامه وعنايته أو يجعله قليل الإهتمام بهم، وهذا أمر مرفوض في دين يجعل الإهتمام الشّخصي بالآخرين أحد المقوّمات الأساسيّة للشّخصيّة الإنسانية السّليمة، ولأنّ الاغراق في الأمل يحول بين الإنسان وبين کثير من فرص کثيرة للتّکامل الرّوحي والأخلاقي.

والنّصوص القرآنيّة في هذا الشّأن کثيرة، کذلک النّصوص النّبويّة الواردة في السّنّة. وقد حفلت مواعظ الإمام عليّ في نهج البلاغة بالتّحذير من الإسترسال مع الآمال.[1] .

وهذا لا يعني- بطبيعة الحال- أنّ تأميل الإنسان في مستقبله- باعتدال وواقعية-ممارسة غير أخلاقية في الإسلام، کيف وقد حذّر اللّه تعالي في القرآن الکريم من اليأس ونهي عنه في آيات تذکر برحمة اللّه ورَوح اللّه، ومن ذلک تعليم يعقوب سلام اللّه عليه لبنيه حين أمرهم بالبحث عن يوسف واخيه، وذلک کما ورد في قوله تعالي: «يا بنِيَّ اذهبُوا فتحسَّسُوا مِن يُوسُف وأخيِه ولا تيأسُوا مِن روحِ اللّه. إنَّهُ لا ييأسُ مِن روحِ اللّه إلا القومُ الکافِرُون».[2] .

فإنّ يعقوب طبق مبدأ مشروعيّة الأمل العام المطلق علي حالة فردية هي حالته وحالة بنيه.

وإذن، فالأمل، في نطاق الواقع، حقيقة کيانيّة في الإنسان، قد يکون فقدانها ظاهرة مرضيّة نفسيّة وليس علامة عافية.

هذا علي الصّعيد الفردي.

وأمّا علي الصّعيد الجماعي في الأمم والشّعوب والجماعات فان الأمل عامل هامّ جداً وأساسي في تنشيط حرکة التّاريخ وتسريعها، وجعلها تتغلب بيسر علي ما يعترضها من صعوبات ومعوّقات.

والأمل الموضوعي القائم علي اعتبارات عملية تنبع من الجهد الإنساني، واعتبارات عقيديّة وروحيّة... هذا الأمل يشغل حيزاً هامّاً وأساسيّاً في تربية اللّه تعالي للبشريّة السّائرة في حياتها علي خط الإيمان السّليم.

وقد اشتمل القرآن الکريم علي آيات محکمات تتضمن وعد اللّه تعالي بالنّصر والعزّة لأهل الإيمان وقادتهم من الأنبياء والتّابعين لهم بإحسان.

قال اللّه تعالي: «إنَّا لننصُرُ رُسُلنا والَّذينَ آمنُوا في الحياةِ الدُّنيا ويوم يقُومُ الأشهادُ».[3] .

وقال تعالي: «ولقد کتبنا في الزَّبُور من بعدِ الذِّکرِ أنَّ الأرض يرِثُها عباديَ الصَّالِحُون».[4] .

وقال تعالي: «إنّ الأرض للّه يُورِثُها من يشاءُ مِن عبادِهِ والعاقِبةُ للمُتَّقينَ».[5] .

وقد وجّه اللّه تعالي في القرآن الکريم رسوله محمداً (ص) والمسلمين إلي أنّ الأمل بالنّصر والحياة الأفضل يجب أن يبقي حيّاً نابضاً دافعاً إلي العمل حتّي في أحلک ساعات الخذلان والهزيمة وانعدام النّاصر... لقد کانت الآمال بالنّصر تتحقّق في النّهاية علي أروع صورها حين يخالج اليأس قلوب أهل الإيمان، وحين يصل الرّسل الکرام إلي حافة اليأس: «ومَا أرسلنَا مِن قبلِک إلا رِجالاً نُوحي إليهِم مِن أهلِ القُري أفلم يسيرُوا في الأرضِ فينظُرُوا کيف کان عاقِبةُ الذينَ من قبلِهم. ولدارُ الآخِرةِ خير للذَّينَ اتقوا، أفلا تعقِلُونَ. حتَّي إذا استيئس الرُّسُلُ، وظنُّوا أنَّهُم قد کُذِبُوا جاءهُم نصرُنا، فنُجِّي من نشاءُ، ولا يُردُّ بأسُنا عنِ القومِ المُجرِمينَ. لقد کان في قصصِهِم عِبرة لأُولي الألبابِ، ما کان حدِيثاً يُفتري، ولکِن تصدِيق الذي بين يديِه. وتفصيلَ کُلِّ شي ءٍ، وهُديً ورحمةً لِقومٍ يؤمِنُونَ».[6] .

إن الأمل الجماعي بمستقبل أکثر إشراقاً وأقلّ عذاباً، أو مستقبل مترع بالفرح خال من المنغصات... إنّ هذا الأمل يستند إلي «وعد إلهي»، فهو، إذن، ليس مغامرة في المستقبل، وإنما هو سير نحو المستقبل علي بصيرة.

وهو أمل يرفض الواقع التّجريبي الحافل بالمعوّقات نحو مستقبل مثالي مشروط «بالعمل» المخلص في سبيل اللّه، وفي سبيل اللّه بناء الحياة، وعمارة الأرض، وإصلاح المجتمع. کما أنّ هذا المستقبل مشروط «بالصّبر» علي الأذي في جنب اللّه،و«الصدق» في تناول الحياة والتعامل معها ومع المجتمع و«الرّضا» بقضاء اللّه تعالي.

والسّنّة حافلة بالنّصوص الّتي تغرس في قلب الإنسان روح الأمل، وتملأ وعيه ببشائر المستقبل الأفضل، استناداً إلي وعد اللّه تعالي.

والتّأمّل العميق الواعي في نصوص الکتاب الکريم والسّنّة الشّريفة الّتي تفصح عن العلاقة بين اللّه والإنسان، وتکشف عن طبيعة هذه العلاقة... کذلک التّأمّل في الفقه المبني علي هذين الأصلين... إنّ هذا التأمّل يکشف عن أنّ العلاقة بين اللّه والناس مبنيّة علي ثلاث حقائق ربّانيّة يقوم عليها وجود المجتمع البشري، وديمومته، ونموّه وتقدّمه:

1- الحقيقة الأولي هي الإنعام المطلق غير المشروط بشي ء علي صعيد الشّروط المادّيّة للحياة بما يکفل لها الدّيمومة والنموّ التّصاعدي نحو الأفضل، فقد خلق اللّه الإنسان، وزوّده بالمواهب العقليّة والنّفسيّة والرّوحيّة، الّتي تتيح له أن يتعامل مع الطّبيعة المسخّرة له، وتمکنه من اکتشاف خيراتها وکنوزها، ومعرفة قوانينها وتوجيه هذه الإکتشافات والمعارف لخدمة نفسه ونوعه.

2- الحقيقة الثّانية هي الرّحمة الّتي «کتبها اللّه علي نفسهِ»[7] والّتي «وسعت کلّ شي ء»،[8] وإقالة العثرات- علي صعيد الأمم والجماعات والمجتمعات، والأفراد -، والتّجاوز عن الخطايا والسّيئات، ومنع الفرص المتجدّدة لتصحيح السّلوک، وتقويم الإعوجاج، والتّوبة والإنابة إلي اللّه تعالي والعمل بقوانينه وشرائعه.

وهذه الحقيقة نابعة من معادلة تقابل بين حقيقتين کونيّتين:

أ- خيرية اللّه الشّاملة المطلقة.

ب- الحقيقة الموضوعيّة الثّابتة في الفکر الإسلامي، وهي أنّ الإنسان خُلِق ضعيفاً.[9] .

وما يخالف هذه الحقيقة من الآلام والکوارث فهو علي قسمين:

الاوّل- ناشئ عن عمل الطّبيعة وقوانينها، وهي قوانين تعمل، في غرضها الأقصي، لخير الجنس البشري بصورة شاملة وغير مقيّدة بزمان أو رقعة جغرافيّة، وهذا ما يجعلها قوانين عادلة وإن أصابت بالآلام بعضاً من البشر في زمان بعينه أو مکان بعينه.

وهذا بالنّسبة إلي الکوارث الطّبيعية الّتي تحصل بغير تدخل من الإنسان أو تقصير منه. أمّا ما يحدث في الطّبيعة نتيجة لعمل الإنسان نفسه أو سلبيّته، أو عدم التزام بالقوانين (في عصرنا الحاضر: ثلويت البيئة، مثلاً، أو روح الإستغلال والعدوان في المجتمعات الصّناعيّة ضدّ العالم الثّالث، مثلاً)... هذا النّوع من الکوارث يدخل في القسم الثّاني التّالي.

الثّاني- ناشئ عن سوء اختيار الإنسان، واستعجاله الخير قبل توفّر شروطه ونضجها، ومن عدوان بعضه علي بعض.

3- الحقيقة الثّالثة هي البشارة من اللّه تعالي بأن أمور الحياة والمجتمع تصير إلي أفضل وأحسن ممّا عليه في الحاضر. ولکن هذه البشارة لا تتحقّق بطريقة إعجازيّة محضة. إنّ تحقيق البشارة يتمّ وفاء بالوعد الإلهي، ومن ثمّ ففيها عنصر غيبي غير تجريبي، ولکن تحقيقها مشروط بالعمل البشري: «إنَّ هذا القُرآن يهدي للَّتِي هي أقومُ ويُبشِّرُ المُؤمِنين الّذين يعملُون الصَّالِحاتِ أنَّ لهُم أجراً کبيراً».[10] .

«والَّذِين اجتنبُوا الطَّاغُوت أن يعبدُوها وأنابُوا إلي اللّه لهُمُ البُشري، فبشِّر عِبادِ الَّذين يستمِعُون القولَ فيتَّبِعُون أحسنهُ، أُولئک الَّذين هداهُمُ اللّه،وأولئکَ هُم أُولُو الألبابِ».[11] .

«... وبشِّرِ المُؤمِنينَ بأنَّ لهُم من اللّه فضلاً کبيراً».[12] .

من هذا المنطلق الثّابت في الفکر الإسلامي، ومن البشائر المحدّدة في الکتاب الکريم والسّنة النّبويّة بفرج شامل آت في «النهاية» يملأ عدلاً بعد ما ملئت ظُلماً وجوراً... من هذا المنطلق، ومن هذه البشائر کان أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يري نور الأمل في المستقبل، وکان يبشّر بأنّ فرجاً آتياًلا ريب فيه: إنّ حرکة التاريخ تقضي به، وإنّ وعد اللّه يقضي به، واللّه لا يخلف الميعاد.

وقد کانت رؤية الإمام لحرکة التاريخ في المستقبل لا تقتصر علي رؤية النّکبات والکوارث- کما توحي بذلک کثرة النّصوص الحاکية عن ذلک في نهج البلاغة- وإنّما تشمل البشائر أيضاً، وقد تقدّم في الحديث عن (المعاناة) وعن (الثورة) بعض النّصوص الدّالّة علي ذلک.

وکانت رؤية الإمام دقيقة، محدّدة، مضيئة، واضحة المعالم، في نطاق الخطوط الکبري والتّيّارت الأساسيّة لحرکة التاريخ، وإن لم تشتمل علي التّفاصيل، من ذلک هذا الشاهد علي رؤيته لحرکة الثّورة العادلة الّتي لا تنطفئ مهما تکالبت عليها الرّياح الهوج، فقد قال له بعض أصحابه، لما أظفره اللّه بأصحاب الجمل: «وددت أنّ أخي فلاناً کان شاهدنا ليري ما نصرک اللّه به علي أعدائک» فقال له الإمام (ع): «أهوي أخِيک معنا؟[13] فقال: نعم. قال: فقد شهِدنا في عسکِرنا هذا أقوام في أصلاب الرِّجال وأرحامِ النِّساء سيرعفُ بهِمُ الزَّمانُ[14] ويقوي بهمُ الإيمانُ».[15] .

هذا الأمل الکبير الآتي الّذي يبشّر به الإمام عليه السّلام يتمثّل في قيام ثورة عالميّة تصحّح وضع عالم الإسلام، ومن ثمّ وضع العالم کلّه، يقودها رجل من أهل البيت هو الإمام المهدي. وقد وردت في نهج البلاغة نصوص قليلة نسبيّاً تحدّد بعض ملامح هذا الأمل، فمن ذلک قوله عليه السّلام: «... حتَّي يُطلِع اللّه لکُم من يجمعُکُم، ويضُمُّ نشرَکُم»[16] [17] .

والعقيدة بالمهدي عقيدة إسلاميّة ثابتة أجمع عليها المسلمون بأسرهم، ودلّ عليها القرآن الکريم في جملة آيات، والسّنّة الشّريفة في مئات الأحاديث المتواترة عن رسول اللّه (ص) وأئّمة أهل البيت. قال ابن أبي الحديد في التّعليق علي النّصّ الآنف: «ثم يطلع اللّه لهم من يجمعهم ويضمهم، يعني من أهل البيت عليه السّلام. وهذا إِشارة إلي المهديّ الّذي يظهر في آخر الوقت. وعند أصحابنا إنّه غير موجود الآن وسيوجد، وعند الإمامية إنّه موجود الآن».[18] .

وقال ابن أبي الحديد في التّعليق علي نصّ آخر مماثل للنّصّ الآنف: «فإن قيل: ومن هذا الرّجل الموعود الّذي قال عليه السّلام عنه (بأبي ابن خيرة الإماء)؟ قيل: أمّا الإمامية فيزعمون أنّه إمامهم الثّاني عشر، وأنه ابن أمة اسمها نرجس، وأمّا أصحابنا فيزعمون أنّه فاطمي يولد في مستقبل الزّمان لأم ولد[19] وليس بموجود الآن».[20] .

ومن النّصوص الّتي اشتمل عليها نهج البلاغة في هذا الشأن قول الإمام: «ألا وفي غدٍ- وسيأتي غد بما لا تعرِفُون- يأُخُدُ الوالي من غيرِها عُمَّالها علي مساوئ أعمالِها، وتُخرِجُ لهُ الأرضُ أفاليذ کبدِها،[21] وتُلقي إليه سِلماً مقاليدها، فيُريکُم کيف عدلُ السِّيرةِ، ويُحيِي ميِّتَ الکِتابِ والسُّنَّةِ».[22] .

هذا الأمل المضي ء في الظلمات ليس أملاً قريباً إذا نظرنا إليه بمنظار آمال الأفراد- کل واحد بخصوصه-، فقد يمضي الموت بالأفراد دون أن تکتحل عيونهم بفجر هذا الأمل... إنّه بالنّسبة إليهم- کأفراد- بعيد... بعيد. کذلک هو أمل بعيد بالنّسبة إلي کلّ مجتمع بمفرده وخصوصه، فقد تمضي القرون علي مجتمع دون أن يحقّق في نظامه، ومؤسّساته هذا الأمل العظيم... ولکنّ هذا الأمل علي مستوي النّوع البشري کلّه أمل قريب، لأنّ الأحداث الّتي تغيّر مسار الجنس البشري کلّه لا تقاس بأعمار الأفراد أو الجماعات أو المجتمعات ولا بالحرکة التاريخيّة في هذا النّطاق أو ذاک أو ذيّاک، وإنّما تقاس بما تناسب مع حجم النّوع الإنساني کلّه، ومع حرکة التّاريخ العالمي کلّها... إنّ ألف سنة، مثلاً، في عمر فرد زمن کبير طويل... کذلک الحال بالنّسبة إلي عمر حرکة تاريخيّة في مجتمع من المجتمعات، ولکن ألف سنة في عمر البشرية کلّها زمن قصير بالنّسبة إلي فترات التّحوّل التّاريخيّة الکبري الّتي أدخلت تغييراً أساسيّاً علي المسار التّاريخي للجنس البشري کلّه، فنقلته من مستوي معين إلي مستوي أعلي منه مرتبة ونوعيّة. إنّ فترات التّحوّل التّاريخيّة الکبري- کما نعلم- تستغرق أُلوف السّنين، أو- بالأحري- عشرات الأُلوف من السّنين... إنّها حرکة التّاريخ الکبري.[23] .

وفي انتظار أن تنجز حرکة التّاريخ الکبري عملها في نقل الإنسانيّة إلي مستوي أعلي لم تفلح في بلوغه من قبل.. في انتظار ذلک تستمر حرکة التاريخ في دوائرها الصّغري في العمل علي تغيير حال البشر: أفراداً، وجماعات، ومجتمعات، ومجموعات إقليميّة.

إنّ حرکة التّاريخ في دوائرها الصّغري تغيّر الإنسان نحو الأفضل علي الصّعيد المادّي کما يثبت ذلک الواقع التّجريبي، ولکنّها لا تغيّره نحو الأفضل دائماً علي الصّعيد المعنوي والأخلاقي، بل قد تعود به إلي الوراء کما يثبت الواقع التّجريبي أيضاً، وبالنّسبة إلي کثير من مظاهر حضارة عصرنا بشکل خاص.

والمسؤول عن التّخلف المعنوي للبشر ليس القدر، إنّه إرادة البشر أنفسهم، فإنَّ العالم الأخلاقي لدي الفرد والمجتمع ليس عالماً معطي وجاهزاً يأخذه الناس کما يستعملون الوصفات الطّبيّة أو المعادلات الرّياضيّة، إنما يتم بناؤه بالمعاناة اليوميّة للناس مع شهواتهم ورغائبهم الشّرّيرة، ومجاهدتهم لأنفسهم من أجل التغلب عليها. إنّ العالم الأخلاقي ليس سهل البناء کالعالم المادي التّجريبي، لأنّه تجاوز الإنسان لنفسه باستمرار نحو إنسانيّة أغني وأعلي، ومن هنا فإنّ العالم الأخلاقي يبني التّعامل مع المستحيل، وکأنّه ممکن، إنّه في التکوين دائماً، لأنّ الإنسان کلّما بلغ ذروة جديدة في تکامله المعنوي لاحت لعينيه ذروة أسمي وأعلي.

وإذن، فالبشر، بانتظار أن يتحقّق هذا الأمل العظيم، لا يجوز أن يجمدوا وإنّما عليهم أن يتحرکوا في أطر دوائر التاريخ الصّغري نحو بلوغ ذري إنسانيّة جديدة أعلي مما بلغوه في کفاحهم الدّائب نحو مزيد من الکمال والنّور.

وإذن، فالمسلمون، باعتبار أنّ هذا الأمل العظيم سيتحقّق بإذن اللّه في نطاقهم بما هم جماعة بشريّة عقيديّة ومن خلال الإسلام نفسه بما هو دينهم،... المسلمون ينتظرون هذا الأمل العظيم قبل غيرهم من الجماعات العقيديّة في المجتمع البشري.

وقد ارتکز في أذهان الکثيرين ممّن عالجوا موضوع المهديّ والمهدويّة أنّ هذا المعتقد... هذا الأمل العظيم الثّابت بمقتضي وعد اللّه في الکتاب والسّنّة، والثّابت بمقتضي حرکة التاريخ الکبري... أنّ هذا المعتقد عامل سلبي في حرکة التّقدّم والنّموّ يعوّقها، ويبعث علي السکون، ويقعد بالناس عن الحرکة والسّعي نحو التّکامل المادي والمعنوي في انتظار أمل آتٍ ينقذ البشر بالمعجزة، ينقذ البشر بغير جهد البشر.

وربّما تکون بعض المظاهر في تاريخ عالم الإسلام تعزز هذا الإتهام ولکنّ الحقيقة هي أنّ هذا اللون من الإنتظار السّلبي المريض دخل علي ذهنيّة الإنسان نتيجة لانتکاس حضاري تسلّل إليه من بعض الثّقافات الأجنبيّة عن الإنسان، فشلّ قدرته علي العمل، لأنّه شلّ إرادته وفعاليته وحولّه إلي حياة التّأمّل والقناعة والإستسلام.

أمّا الحقيقة فهي علي خلاف ذلک، إنّ الإنتظار- نتيجة لهذا المعتقد- هو انتظار إيجابي فعّال، هو تهيّؤ واستعداد، هو کدح دائم ومستمر يجب أن يطبع حرکة تاريخ الإنسان المسلم نحو توفير أفضل الشّروط الّتي تهيِّئ لهذا الأمل العظيم أحسن ظروف النّجاح والتّحقّق.

لقد رأينا أنّ حرکة التّاريخ في دوائرها الصّغري لا تتوقّف، ونوع هذه الحرکة- تقدّميّة صاعدة أو رجعيّة هابطة (علي صعيد المعنويّات والأخلاق)- يتوقف علي إرادة البشر أنفسهم، فهم الّذين يبنون عالمهم الأخلاقي الأمثل وهو لا يبني إلا بالعمل الإيجابي الّذي يحرّکه الطموح نحو إنسانيّة أفضل.

سلام اللّه علي محمّد وآله الطاهرين، وصحبه الّذين اتبعوه بإحسان إلي يوم الدّين. وسلام اللّه علي أشهر المؤمنين الإمام عليّ أميرالمؤمنين.

والحمد للّه ربّ العالمين.







  1. راجع دراسة موسّعة ومعمِقة عن هذا الموضوع في فصل الوعظ من کتابنا، دراسات في نهج البلاغة- الطّبعة الثّالثة.
  2. سورة يوسف مکّيّة-12 الآية:87.
  3. سورة المؤمن مکّيّة-40 الآية: 51.
  4. سورة الأنبياء مکّيّة-21 الآية: 105.
  5. سورة الأعراف مکّيّة-7 الآية: 128.
  6. سورة يوسف مکّيّة-12 الآيات:111-109.
  7. قال تعالي: «قُل لِمن ما في السماواتِ والأرضِ؟ قُل للّه، کتب علي نفسِهِ الرحمَة» سورة الأنعام مکّيّة-6 الآية 12 وقال تعالي: «وإذا جاءک الّذينَ يُؤمِنُون بَآياتِنا فقُل سلام عليکُم کتب ربُّکُم علي نفسِهِ الرَّحمةَ، أنهُ من عمِل مِنکُم سُوءاً بِجهالةٍ، ثُمَّ تاب من بعدِهِ وأصلح فأنَّهُ غفُور رحِيم» سورة الأنعام مکّيّة- 6 الآية: 54.
  8. قال تعالي «... ذُو رحمةٍ واسِعةٍ، ولا يُردُّ بأسُهُ عن القوم المُجرمين» سورة الأنعام مکّيّة- 6 الآية: 147 وقال تعالي: «قال عذابي أُصيبُ به من أشاءُ ورحمتي وسعت کُلَّ شي ءٍ، فسأکتُبُها لِلَّذِينَ يتَّقُون، ويُؤُتُون الزَّکاة والَّذِين هُم بآياتِنا يُؤُمِنُون» سورة الأعراف مکّيّة- 7 الآية: 156.

    وقال تعالي «ربَّنا وسِعت کُلَّ شي ءٍ رحمةً وعِلماً، فاغفر للَّذِين تابُوا واتبّعوا سبيلک وقِهِم عذاب الجحيم» سورة المؤمن مکّيّة-40 الآية: 7.

  9. قال اللّه تعالي: «يُريدُ اللّه أن يُخفِّف عنکُم، وخُلِق الإنسانُ ضعِيفاً،» سورة النّساء مدنيّة- 4 الآية: 28.
  10. سورة الإسراء مکّيّة-17 الآية: 9.
  11. سورة الزّمر مکّيّة-39 الآية: 18-17.
  12. سورة الأحزاب مدنيّة-33 الآية: 47.
  13. الهوي: الميل والرّغبة، يعني هنا الموقف السّياسي.
  14. يرعف بهم.. يوجدون في المجتمع من غير أن يتوقّع وجودهم لاختلافهم النّوعي الأساسي عن الأخلاقيّة والذّهنيّة السّائدة في المجتمع، فيفاجأ المجتمع بوجودهم. کما يفاجئ الرّعاف صاحبه.
  15. نهج البلاغة- رقم النّصّ: 12.
  16. يضم نشرکم: يجمع شتاتکم ويوحد مواقفکم في حرکة تاريخيّة واحدة.
  17. نهج البلاغة- رقم النّصّ: 100.
  18. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة- 94:7.
  19. أمّ ولد: کناية عن الأمة المملوکة.
  20. المصدر السابق: 9:7.
  21. الفلذة: القطعة. والکبد في المعتقد الطّبّي القديم من أشرف أعضاء الإنسان وأکثرها أهمّيّة في بقائه وصحته، فهي تخرج الأرض: أفضل کنوزها وثرواتها.
  22. نهج البلاغة- رقم النّصّ: 138.
  23. لعلّ ابن ابي الحديد قد طافت بذهنه هذه الفکرة حين قال معلّقاً علي احد نصوص نهج البلاغة بهذا الشّأن: «ثم وعدهم بقرب الفرج، فقال: إنّ تکامل صنائع اللّه عندکم، ورؤية ما تأملونه أمر قد قرب وقته، وکأنّکم بعد قد حضر وکان، وهذا علي نمط المواعيد الإلهية بقيام السّاعة، فإن الکتب المنزلة کلّها صرّحت بقربها، وإن کانت بعيدة عنّا، لأنّ البعيد في معلوم اللّه قريب،وقد قال سبحانه إنَّهُم يرونهُ بعِيداً ونراهُ قرِيباً «شرح نهج البلاغة 95.