الثورة











الثورة



الفتنة تنمو، ويتسع سلطانها، ويزيد شيئاً فشيئاً عدد السّاخطين عليها: من أبنائها الذين نبذتهم بعد أن استغنت عنه، ومن الصّفوة الذين قامت في أساسها ضدهم، ومن أولئک الذين لم يکن يعنيهم الإمر في شي ء، ولکنَّهم اکتشفوا- بعد انتصار الفتنة التي لم يحاربوها أوّل الإمر- أنهم قد غدوا من ضحاياها... هؤلاء جميعاً الّذين تجملهم کلمة أميرالمؤمنين في تصويره لمعاناة الناس من الفتنة بقوله: «... وحتَّي يقومَ الباکِيان يَبکِيان:بَاک يَبکي لِدِينِه، وبَاک يَبکِي لِدُنياهُ».[1] .

ويري هؤلاء جميعاً أن النظام، نظام الفتنة، ظالم. وکل فريق يري ظلم هذا النظام من منظوره الخاص: بعضهم يري ظلم النطام من منظوره النفعي الخاص، أو الفئوي، أو القبلي، دون أن يبالي بانتهاک الثورة لحقوق أشخاص آخرين أو فئات أخري، ودون أن يبالي بتجاوز النظام للشريعة وتعطيل دور الأمة الرّسالي في العالم، وتحويلها إلي فئات محتربة متخاصمة فقدت وحدتها الداخلية.

وبعضهم الآخر يري ظلم النّظام من منظور رسالي وشرعي يتجاوز مصالحه الشّخصية ومصالح فئته وقبيلته.

کلّ الفئات السّاخطة علي النّظام تري ظلم هذا النّظام... هذا الظّلم الّذي هوحصيلة التّعارض بين القانون کما يراه کلّ فريق من منظوره الخاص وبين سياسة الدّولة.

وتتأهب کلّ فئة- بوسائلها الخاصّة- للعمل من أجل تصحيح الوضع القائم برفع التعارض بين الواقع السّياسي للدّولة وبين القانون، بإرغام الدّولة علي أن تعود في سياستها إلي القانون، أو بتغيير الفئة الحاکمة نفسها.

والوسيلة إلي إنجاز عملية التّصحيح هذه هي الثّورة.

إذن، عملية الإحتجاج بالعنف علي واقع نظام الفتنة وممارساته قد تکون ثورة عادلة، وقد تکون أزمة في داخل الفتنة نفسها. نعني: فتنة جديدة تولّد من فشل الفتنة الحاکمة في إرضاء قوي سياسيّة في المجتمع تحمل نفس المفاهيم الّتي تحملها الفتنة الحاکمة.[2] .

إن الإحتجاج بالعنف علي واقع نظام الفتنة له فائدة إيجابية کبري وهامّة سواء أکان القائمون بالإحتجاج عادلين أو مفتونين.

هذه الفائدة هي إدخال الإضطرابات والقلق علي هذا النّظام وحرمانه من فرص الإستقرار والشّعور بالأمن الّتي تتيح له المضي في تزوير الشّريعة وإفساد القيم. وتتيح لقوي الخير والحقّ الصّامدة في الأمّة أن تتنفّس قليلاً، وتمارس دورها في توعية الأمّة بحرّيّة نسبيّة لم تکن لتتاح لها لو أنّ نظام الفتنة نعم بالسّلام والإستقرار.

وقد کان موقف الإمام إيجابياً من حرکات الإحتجاج علي نظام الفتنة الّذي سيقوم من بعده، لأنه إذا لم يکن من المتاح- نظراً لما تقضي به حرکة التاريخ- انتصار الشّرعية الکاملة في المدي المنظور، فان من الخير ألا تتاح لنظام الفتنة فرصة للتمکن والإستقرار، ومن الخير أن يبقي نظام الفتنة في أجواء الخوف والحذر، وحالة الدفاع.ومن هنا کان توجيهه بشأن الخوارج الّذين تمظهرت فيهم الفتنة بمظهر الرّفض المطلق للأنظمة القائمة، ومن ثمّ فهم مؤهلون لأن يشکلوا قوّة مزعجة لنظام الفتنة المنتصر.

لقد نهي الإمام عن قتال الخوارج من بعده، مع إنّه، هو، قاتلهم في خلافته،- لأنّهم- حين قاتلهم وقتلهم في النّهروان بعد أن رفضوا کلّ عروض السلام، وبعد أن رفضوا التّخلّي عن مواقفهم- کانوا يمثّلون قوّة هادمة لنظام عادل، أمّا في نطام الفتنة فإنّهم يمثّلون قوّة شالّة وشاغلة لهذا النّظام الجائر المنحرف عن أن يمارس طغيانه المادّي والسّياسي، وينفذ خطط التّحريف العقيدي والشّرعي. قال عليه السلام: «لا تُقاتِلُوا الخوارج بعدي، فليسَ من طلبَ الحقَّ فأخطأهُ کمن طلب الباطِل فأصابهُ».[3] .

وقد کان عليه السّلام يري الثّورة آتية.

إنّه لا يصف هذه الثّورة بأنّها عادلة مستقيمة، أو ظالمة مفتونة، وإنّما يري أنّ نظام الفتنة المنتصر لا يتمتّع طويلاً بانتصاره واستقراره، بل ستسلب منه لذّة النّصر وحرّيّة الحرکة الّتي يتيحها النّصر والإستقرار السّياسي والإجتماعي، ثورات دامية تتوالي فتقضي في النّهاية علي فتنة بني أميّة، وتزيل ملکهم.

قال، وهو يحدّث جمهوره عن الفتنة وانتصارها، والمعاناة من ويلاتها وشرورها: «... ثمُّ يُفرِّجُها اللّه عنکُم کتفرِيج الأديم،[4] بِمن يسُومُهُم خسفاً،[5] ويسُوقهُم عُنفاً، ويسقِيهِم بکأس مُصبَّرة،[6] لا يُعطيهِم إلا السَّيف، ولا يحلِسُهُم إلا الخوف[7] فعِند ذلک تودُّ قُريش- بالدُّنيا وما فيها- لو يرونني مقاماً واحِداً، ولو قدر جزر جزُورٍ، لأقبل منهُم ما أطلُب اليوم بعضهُ فلا يُعطُونيه».[8] .

والإمام يري أنّ من الهموم الکبري لنظام الفتنة المنتصر تشتيت القوي السّياسيّة والعقيديّة المناهضة له، سواء أکانت هذه القوة أو تلک قد حافظت علي نقائها الإسلامي أو تلوّثت بغبار الفتنة بشکل أو بآخر.

ولکنّه يري أيضاً أنّ محاولات نظام الفتنة لتشتيت القوي المضادّة له لن تستمر في النّجاح، فانّ حرکة التاريخ تعمل علي تجميع هذه القوي من جديد وفقاً لصيغ سياسيّة جديدة، ويکون ذلک إيذاناً بنهاية الإستقرار لنظام الفتنة الأموي.

قال عليه السلام: «... وايمُ اللّه لو فرَّقُوکُم تحتَ کُلِّ کوکبٍ، لجمعکُمُ اللّه لِشرِّ يومٍ لهُم».[9] .

وقال عليه السلام: «افترقُوا بعد أُلفتهِم، وتشتَّتُوا عن أصلِهِم، فمنهُم آخِذ بِغُضْنٍ أينما مال مال معهُ علي أنَّ اللّه تعالي سيجمعُهُم لِشرِّ يومٍ لبني أُميَّةَ، کما تجتمعُ قزعُ الخريفِ،[10] يُؤلِّفُ اللّه بينهُم، ثُمَّ يجمعُهُم رُکاماً کرُکامِ السَّحابِ،[11] ثُمَّ يفتحُ لهُم أبواباً يسيلُون من مُستشارهِم کسيلِ الجنَّتينِ، حيثُ لم تسلم عليهِ قارة، ولم تثبُت عليهِ أکمة،[12] ولم يرُدَّ سننهُ رصُّ طودٍ ولا حدابُ أرض،[13] يُزعزعُهُم اللّه في بُطُونِ أوديتهِ[14] ثُمَّ يسلُکُهُم ينابيعَ في الأرضِ، يأخُذُ بِهم من قومٍ حُقُوقَ قومٍ، ويُمکِّنُ لقومٍ في ديارِ قومٍ وايمُ اللّه ليذُوبنَّ ما في أيديهم بعد العُلُوِّ والتمکينِ کما تذُوبُ الأليةُ علي النَّارِ».[15] .

ومن أروع رؤاه لحرکة التاريخ في المستقبل رؤيته لحرکة الخوارج التّمرّديّة، وکيف أنّها ستنمو وتتشعب علي رغم ما يبدو في الحاضر من مظاهر اندثارها وانقطاع أصلها، وذلک أنّه لمّا قتل الخوارج قيل له: يا أميرالمؤمنين: هلک القوم بأجمعهم، فقال: «کلاَّ واللّه. إنَّهُم نُطف في أصلابِ الرِّجالِ وقراراتِ النِّساءِ[16] کُلَّما نجم منهُم قرن قطِع[17] حتَّي يکُون آخِرُهُم لُصُوصاً سلاَّبين».[18] .

وهکذا تأتي الثّورة في أعقاب انتصار الفتنة فتحول بينه وبين الإستقرار، وتحول بين أدواته وبين أن تمکن لمفاهيمها في الأمّة، وتتيح بذلک فرصاً لقوي الخير الباقية أن تنعم بشي ء من الأمان، وأن تقدر علي شي ء من الحرکة يتيح لها إبقاء النّور الصّافي متألقاً في ظلمات الفتنة، في عقول وقلوب کثيرةٍ، بانتظار الأمل الکبير، والنّصر النّهائي الکبير.







  1. نهج البلاغة، الخطبة رقم: 98.
  2. نحن نعبّر بمصطلح (ثورة)في التاريخ الإسلامي عن العمل السّياسي الّذي يتمتع بالشّرعية، وما عدا ذلک لا نسمّيه ثورة،وإنّما نسمّيه تمرداً، أو خروجاً، أو فتنة.

    وإنّما جعلنا عنوان هذا الفصل (الثورة)- مع أنّ البحث فيه يشمل الإحتجاج بالعنف بجميع ألوّانه (الشّرعيّة وغير الشّرعيّة) لغرض بياني فقط. هو إيثار بساطة العنوان علي تعقيده.

  3. نهج البلاغة، رقم النّصّ-61.
  4. الأديم الجلد، وتفريجه سلخه: يعني أنّ اللّه يسلخ سلطان بني أميّة عن الأُمّة مع شدّة رسوخه ولصوقه.
  5. الخسف: الذّل. يعني أنّ الثّورة الآتية تعاملهم بالإذلال.
  6. مصبّرة مملوءة إلي أصبارها بمعني حافتها، يعني لا يرحمهم ولا يخفف عنهم.
  7. حلس البعير: کساء يوضع علي ظهره، يعني أنّ الثّورة الآتية تلبس بني أُمية الخوف.
  8. نهج البلاغة- رقم النّصّ:93.
  9. نهج البلاغة- رقم النّصّ: 106.
  10. القزع: القطع المتفرقة من السّحاب.
  11. رکام السّحاب:السّحاب المتراکم. والمستشار مکان تجمعهم وانطلاقهم ثائرين، وسيل الجنتين السّيل الّذي دمّر اللّه به قوم سبأ وحضارتهم عندما طغوا وبطروا.
  12. القارة: ما اطمأنّ من الأرض. والأکمة: ما ارتفع من الأرض، يعني أنّ الکارثة ستکون شاملة عليهم لا يفلت منها أحد منهم ولا مؤسّسة من مؤسّسات دولتهم.
  13. السّنن: الجري، والطّود: الجبل العظيم، والحداب: المرتفعات. والمراد هنا هو المراد في رقم: 3.
  14. يزعزعهم: يفرقهم في بطون الأودية حيث يختفون، کناية عن أماکن اختفائهم، ثم يجمعهم.
  15. نهج البلاغة- رقم النّصّ:166.
  16. قرارات النّساء: أرحام النّساء.
  17. نجم: ظهر. قرن: رئيس أو جماعة.
  18. نهج البلاغة- رقم النّصّ:60.