المعاناة
وهي غير أخلاقية، لأنّ قادتها يتبعون في سياسة الناس منطق الغريزة، لا منطق القانون والعدالة. ومن هنا وهناک فلا بدّ أن يکون لها ضحايا کثيرة. ومن ضحاياها خصومها السّياسيون الذين حاربوها في الماضي، وغلبوا علي أمرهم في النّهاية. ومن ضحاياها خلفاؤها الّذين ساندوها في أيّام ضعفها، واستغنت عنهم في أيّام قوّتها. ومن ضحاياها الغافلون عن شرورها وأخطارها، الّذين کانوا محايدين في المعرکة الدّائرة بينها وبين أهل الحقّ، ثم دهشوا عند انتصارها، فاحتجوا أو أظهروا معارضتهم لها. وأکبر ضحاياها الأمّة کلّها حين تحولها الفتنة المنتصرة إلي موضوع للتّسلط، ومصدر لصنع الثّروات، وتوفير أسباب التّرف واللّهو لنخبتها، وجهازها القمعي، وحلفائها. وهکذا تبدأ معاناة الأمّة من الفتنة، من ظلمها وتسلطها، من عدوانها الّذي ينتشر کالوباء فيصيب کلّ فئة من المجتمع المغلوب علي أمره بشتّي ألوانه: العدوان الأخلاقي، والعدوان السّياسي، والعدوان الإقتصادي. وقد صوّر الإمام عليّ وجوهاً من معاناة الأمّة وعذاباتها بعد انتصار الفتنة في لوحات معبّرة تکاد تنطق بالحرکة الحيّة. من ذلک قوله عليه السّلام: «... وايمُ اللّه لتجِدُنَّ بني اُميَّةَ لَکُم اربَابَ سوءٍ بَعدِي،کالنَّاب الضَّروس[1] تعذِمُ بفيهَا،[2] وتخبطُ بيدِها، وَتزِبنُ بِرجلهَا[3] وتمنع درَّها».[4] . «لا يزالونَ بِکُم حَتي لا يَترُکُوا مِنکُم إلا نافعاً لَهُم، أو غيرَ ضائر بِهم. ولا يَزال بَلاؤُهم عَنکُم حتَّي لا يکُون انتِصارُ أَحَدِکُم مِنهُم إلا کَانتِصارِ العَبدِ من رَبِّه والصّاحبِ من مُستَصحِبِهِ. تَرِدُ عَلَيکُم فتنتهم شَوهاء[5] مخشيَّةً، وقطعاً جاهليَّة، لَيسَ فيها مَنَارُ هُدي وَلا عَلَم يُري».[6] . وهکذا يعاني النّاس من الفتنة بعد انتصارها ألواناً من الشّرِّ 1- حکم الطّغيان الّذي يقضي علي کلّ معارضة له بالرّأي والمذهب، وهو لا يقضي عليه بهوادة ولين، وإنّما بالعنف والقسوة. 2- والإذلال الّذي يمحق کرامة الإنسان ويشوّه روحه، فيحوّله إلي عبد لا يجرؤ علي رفع صوته والتّعبير عن رأيه، وإنّما يخضع بالطّاعة العمياء الصّمّاء الّتي لا خيار فيها ولا تنبثق من قناعة وإنّما يفرضها الخوف من العذاب. ومن ذلک قوله عليه السلام: «واللّه لا يزالُون حتَّي لا يدعُوا لِله مُحرَّماً إلا استَحلّوهُ، ولا عقداً إلا حلُّوهُ، وحتَّي لا يبقي بيتُ مدرٍ ولا وبرٍ[7] إلا دخلهُ ظُلمُهُم ونبا بِهِ سُوءُ رعيهِم،[8] وحتَّي يقُوم الباکيانِ، يبکيانِ: باکٍ يبکِي لدينِهِ وباکٍ يبکي لدُنياهُ، وحتَّي تکُون نُصرةُ أحدِکُم مِن أحدِهم کنُصرةِ العبدِمِن سيِّدهِ، إذا شهِد أطاعهُ وإذا غاب اغتابهُ، وحتَّي يکُون أعظمکُم فيها عناءً أحسنُکُم بِاللّه ظنّاً، فإن أتاکُم اللّه بعافيةٍ فاقبلُوا، وإن ابتُليتُم فاصبِرُوا، فإنَّ العاقبِةَ للمُتَّقين».[9] . في هذا النّصّ يکشف الإمام عن وجوه أخري من المعاناة والعذاب : 1- سقوط حرمة القانون عند الطّغمة الحاکمة الّتي يفترض فيها، وهي تحکم باسم الدّين، أن تحافظ عليه من حيث التّطبيق. 2- انتشار الظّلم، وعدم اقتصاره علي الحواضر والمدن، بل يشمل جميع مستويات الأمّة فيعاني منه سکّان المدن وبدو الصحراء. 3- الإذلال، وهدر کرامة الإنسان الّذي يتحوّل، لطول ما يعاني من الإذلال، إلي ما يشبه أخلاق الرّقيق. إنّ هذا الواقع يجعل المعاناة شاملة في قضايا الدّين وقضايا الدّنيا، ويکون أشدّ النّاس بلاء ومعاناة أکثرهم وعياً، وأصلبهم عوداً في مواجهة إغراء الفتنة وإرهابها. ولکن الإمام يوصي هذه الفئة المستنيرة الّتي لم تستهلکها الفتنة بالصّبر، لأنّ الفتنة في هذه المرحلة لا تقاوم، وکل جهد يبذل في مقاومتها جهد ضائع مهدور يزيد الشَّرعيّة ضعفاً ووحدة وعزلة دون أن يؤثّر علي الفتنة، وهي في أوج انتصارها شيئاً. ومن ذلک قوله عليه السّلام: «رايةُ ضلالٍ قد قامت علي قُطبِها[10] وتفرَّقت بِشُعبِها[11] تکيلُکُم بِصاعِها،[12] وتخبطُکُم بباعِها،[13] قائدُها خارج مِن الملَّةِ، قائم علي الضِّلَّةِ، فلا يبقي يومئذٍ مِنکُم إلا ثُفالة کثُفالةِ القدرِ[14] أو نُفاضة کنُفاضةِ العِکمِ[15] تعرُکُکُم عرک الأديِم،[16] وتدُوسُکُم دوسَ الحصِيدِ[17] وتستخلِصُ المؤمِنَ من بينِکُمُ استخلاصَ الطَّيرِ الحبَّةَ البطينةَ[18] من بينِ هزيلِ الحبِّ».[19] . في هذا النّصّ يتابع الإمام الکشف عن وجوه المعاناة: سيادة حکم الطّغيان بسبب أنّ الشريعة مهملة من حيث التّطبيق لأنّ الرّاية راية ضلال، ولذا فإنّ هذا الحکم يتصرّف بوحي الغريزة لا علي ضوء القانون، ونتيجة ذلک أنّ الحکم يدوس الأمّة ويسحقها، ويذهب بکلّ صلابة وعنفوان فيها ليحوّلها إلي کيان مطواع لا إرادة له ولا اختيار، کالجلد الّذي سحق وعرک حتي لان ففقد کلّ صلابة، وکالحصيد الّذي ديس حتّي تفتت. ولکنّ الفتنة، مع ذلک، لا تفلح في القضاء علي کلّ شي ء، فرغم الظّلم المادّي والمعنوي، والتّشويه الثّقافي تبقي نخبة النخبة محافظة علي ذاتها، إنّها تکون قليلة العدد حقّاً، ولکنّها أصيلة، صافية، منيعة علي الطّغيان، والتّشويه والإغراء والإرهاب. ومن ذلک قوله عليه السّلام: «تغِيضُ فيها الحِکمة،[20] وتنطِقُ فيها الظَّلمةُ، وتدُق أهل البدو بمسحلِها[21] وترُضُّهُم بکلکلِها[22] يضيِعُ في غبارِها الوُحدانُ،[23] ويهلِکُ في طريقِها الرُّکبانُ، ترِدُ بِمُرِّ القضاءِ، وتحلُبُ عبيط الدِّماءِ[24] وتثلِمُ منار الدِّينِ[25] وتنقُضُ عقد اليقين. يهرُبُ منها الأکياسُ[26] ويُدبِّرُها الأرجاسُ[27] مرعاد مبراق کاشِفة عن ساقٍ، تقطعُ فيها الأرحامُ، ويُفارقُ عليها الإسلامُ، بريُّها سقيم، وظاعِنُها مُقِيم... بين قتيلٍ مطلُولٍ،[28] وخائفٍ مُستجيرٍ، يختلُون بعقدِ الأيمانِ...».[29] [30] . يبرز الإمام في هذا الفصل- کما في النّصّ الثّاني من هذا الفصل- شمول الظلم لأهل البدو، وهذا يعني- بملاحظة التّرکيب الإجتماعي، والوضع الثّقافي للمجتمع الإسلامي في ذلک الحين- أقصي درجات الشّمول للظّلم والطّغيان، فأهل البدو- بسبب طريقة حياتهم- بعيدون عن متناول السّلطة وأجهزتها ومن ثمّ فهم يتمتعون بفرص أکثر من أهل المدن للنجاة من کثير من شرور الطّغيان السّياسي. ولکن هذه الفتنة المنتصرة يبلغ من قوّتها وعنفها أنّ هؤلاء البدو- أهل الوبر- لا يسلمون منها، بل تسومهم سوء العذاب. کما أبرز الإمام في هذا الّنصّ الوجوه الأخري للمعاناة: الإذلال، وسياسة القمع، وتجاوز الشّريعة والقانون، وانحطاط العلاقات الإنسانية. وقال عليه السّلام: «... فعِند ذلِک لا يبقي بيتُ مدرٍ ولا وبرٍ إلا وأدخلهُ الظَّلمةُ ترحةً،[31] وأولجُوا فيهِ نقمةً، فيومئذٍ لا يبقي لهم في السَّماء عاذِر، ولا في الأرض ناصِر. أصفيتُم بالأمر غير أهله[32] وأوردتُمُوهُ غير موردِهِ، وسينتقِمُ اللّه مِمَّن ظلمَ، مأکلاً بمأکلٍ، ومشرباً بمشربٍ، من مطاعِمِ العلقمِ، ومشارِب الصَّبِرِ والمقرِ،[33] ولِباسِ شِعارِ الخوف ودثارِ السَّيفِ،[34] وإنَّما هُم مطايا الخطِيئاتِ وزوامِلُ الآثام».[35] [36] . في هذا النّصّ بيّن الإمام أيضاً طابع الشّمول لهذه الفتنة. وذکّر جمهور النّاس في کلّ عصر بالسّبب الموضوعي الّذي ولّدها، ومکن لها، وهو تجاوز الشّرعيّة في الحاکم والنظام، والإنسياق وراء المصالح الخاصّة، والأنانيّات الفرديّة والقبلية، وعدم تحمّل مسؤوليّات الصّراع ضدّ الباطل وأهله. ومن ذلک قوله عليه السّلام مخاطباً الخوارج، مخبراً لهم بما سيکون عليه حالهم في نظام الفتنة الآتي حيث لا يجدون الإنصاف والعدل، والتّفهّم لأوضاعهم وآمالهم الّتي يجدونها في نظام العدل الّذي يقوده الإمام. «أما إنَّکُم ستلقُون بعدي ذُلاً شامِلاً، وسيفاً قاطِعاً، وأثرةً[37] يتَّخذُها الظَّالِمُون فيکُم سُنَّةً».[38] . تنتصر الفتنة، وتسود مفاهيمها، وتفرض علي المجتمع قيمها، وتمضي علي ذلک السّنون، والفتنة تزداد قوّة ومناعة وتسلّطاً، ويمتدّ سلطانها لينفذ في کلّ زاوية وعلي کلّ صعيد في المجتمع، ويسود الإعتقاد بأنّ کلّ شي ء قد انتهي، وبأنّ التّاريخ قد استقر علي هذه الصّيغة إلي النّهاية، وتنشأ علي هذا الإعتقاد أجيال بعد أجيال. ولکنّ هذا الإعتقاد خاطئ، فحرکة التاريخ لا تتوقف عند صيغة بعينها، بل هي دائبة التّقلب والتّغيّر، وسيکون لانتصار الفتنة واستقرار سلطانها نهاية قد لا تنتهي بها الفتنة، ولکنّها تواجه مقاومة جديدة. تنشأ هذه المقاومة من حقّ استعاد بعضاً من حيويّته فهو لا يطيق السّکوت، فيعبّر عن نفسه بالثّورة، لا لينتصر، فقد يکون انتصار الحق بعيد المنال في هذه المرحلة من التّاريخ، ولکن ليکسر من غلواء الفتنة، ويعطّل جانباً من عملها التّخريبي في عقيدة الأمّة وشخصيتها، وذلک حين يسلب الفتنة الشّعور بالإستقرار والأمان، فيحملها علي اتخاذ موقف الدّفاع عن نفسها والتّخلّي عن بعض مناهجها التّخريبيّة، ويحملها علي أن ترتدّ ولو قليلاً إلي الصّواب. أو تنشأ هذه المقاومة من أزمات داخل الفتنة نفسها، تولّد فتناً تزعج أهل السّلطان القديم، وتأتي إلي سدّة السّلطان بقوم آخرين، ويکون بين أولئک وهؤلاء فرج لأهل الإيمان، ونهضة لأهل الحقّ في غفلة أهل السّلطان. قال عليه السّلام: «حتّي يظُنَّ الظَّانُّ أنَّ الدُّنيا معقُولة علي بني أُميَّةَ،[39] تمنحُهُم درَّها،[40] وتُورُدُهُم صفوَها، ولا يُرفعُ عن هذه الأُمّةِ سوطُها ولا سيفُها، وکذب الظَّانُّ لذلِک، بل هي مجّة[41] من لذِيِذ العيشِ يتطعَّمُونها بُرهةً، ثُمَّ يلفظُونها جُملةً».[42] . وقال عليه السّلام في نص آخر يخاطب بني أميّة: «فما احلولت لکُمُ الدُّنيا في لذَّتها، ولا تمکَّنتُم من رضاعِ أخلافِها[43] إلا مِن بعدِ ما صادفتُمُوها جائلاً خِطامُها،[44] قلِقاً وضينُها،[45] قد صار حرامُها عِند أقوامٍ بِمنزلةِ السِّدرِ المخضُودِ،[46] وحلالُها بعيداً غير موجُودٍ، وصادفتُمُوها واللّه، ظلاً ممدُوداً إلي أجلٍ معدُودٍ. «فالأرضُ لکُم شاغِرة،[47] وأيديکم فيها مبسُوطة وأيدي القادةِ عنکُم مکفُوفة، وسُيُوفُکُم عليهِم مُسلَّطة، وسُيُوفُهُم عنکُم مقبُوضة. ألا وإنَّ لِکُلِّ دمٍ ثائراً، ولِکّلِّ حقٍّ طالبِاً. وإنَّ الثَّائر في دمائنا کالحاکِمِ في حقِّ نفسهِ، وهُو اللّه الذي لا يُعجزُهُ من طلبَ، ولا يفُوتُهُ من هربَ. فاُقسُمُ باللهِ يا بني أُميَّةَ: عمَّا قليلٍ لتعرفُنَّها في أيدي غيرِکُم، وفي دارِ عدُوِّکُم...».[48] . وقال عليه السّلام: «.. فاُقسِمُ ثُمَّ اُقسِمُ لتنخمنَّها اُميَّةُ من بعدِي کما تُلفظُ النُّخامةُ،[49] ثُمَّ لا تذُوقُها ولا تطعمُ بِطعمِها أبداً ما کرَّ الجديدان».[50] [51] . وهکذا يري الإمام ببصيرته الّتي تضي ء آفاق المستقبل الملفّح في ظلمات الزّمان إلا في حرکة التاريخ الهادرة، والقوي السّياسيّة الّتي يحبل بها المجتمع في الحاضر وسيلدها في الآتي من الأيّام، لتحرم الفتنة من لذّات انتصارها، وتتراجع إلي مواقع الدّفاع عن نفسها، وتبدل القوي الحاکمة بقوي جديدة، عادلة أو ظالمة.
4- المعاناة تنتصر الفتنة، فتأتي بحکم غير عادل، لا يري في الأمة إلا موضوعاً لتسلّطه ومصدراً للمال.