انتصار حركة الرّدّة











انتصار حرکة الرّدّة



لا نعني بالرّدّة هنا الرّدّة الدّينيّة عن الإسلام، فقد سبق أن رأينا التّوجيه النّبوي لعليّ حين سأل رسول اللّه (ص): فبأيّ المنازل اُنزلهم عند ذلک؟ أبمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة؟ فقال (ص) بمنزلة (فتنة).

وإنّما نعني الرّدّة السّياسيّة والفکريّة. فإنّ الفتنة حين انتصرت سياسيّاً بعد استشهاد أميرالمؤمنين عليّ راحت تمکّن لنفسها بفرض قيمها الفکريّة والإجتماعية في الثّقافة العامّة، وتطبع العلاقات في داخل المجتمع بطابعها.

لقد کان الإمام يري ببصيرته النّافذة أنّ الفتنة ستنتصر، وکانت هذه الرّؤية إحدي مسببّات ألمه العميق.

وکان يري أنّ الفتنة لا تقاوم إِلا بالکفاح، أمّا السّکوت عنها ومهادنتها فيتيحان الفرصة أمامها لکي تنتصر.

وکان يؤرقه أنّ مجتمعه، لأسباب شتّي، آثر أن يواجه الفتنة بالسّکوت عنها، أو- بعبارة أخري- آثر ألا يواجه الفتنة الآتية.

وکان يقارن بين أصحابه وبين أصحاب رسول اللّه (ص)، فيريهم أنّ التّوجيه الثّقافي واحد، وأنّ القيادة واحدة، ولکنّه يري أنّ درجة الإخلاص متفاوتة: «... واللّه ما اسمعکُمُ الرَّسُولُ شيئاً إلا وها أنا ذا مُسمِعُکُمُوهُ، وما أسماعُکُم اليوم بِدُونِ أسماعِکُم بالأمسِ، ولا شُقَّت لهُمُ الأبصارُ، ولا جُعِلت لهُمُ الأفئدةُ في ذلک الزَّمانِ، إلا وقد أُعطيتُم مِثلَها في هذا الزَّمانِ. وواللّه ما بُصِّرتُم بعدهُم شيئاً جهلُوهُ، ولا أُصفِيتُم بهِ وحُرِمُوهُ،[1] ولقد نزلت بِکُم البليَّةُ جائلاً خِطامُها،[2] رِخواً بطانُها[3] فلا يغُرَّنَّکُم ما أصبح فيه أهلُ الغُرُورِ، فإنَّما هو ظِل ممدُود إلي أجلٍ معدُودٍ».[4] .

وقد تکرّر منه المقارنة بين حال أصحابه وحال أصحاب رسول اللّه (ص) في عدة مواقف. وکان يري في طريقة مواجهة أصحابه للفتنة الآتية نذر انتصار هذه الفتنة من بعده، وقد کشف عن رؤيته هذه لمجتمعه في عدة مواقف، منها قوله: «...أما والذي نفسي بيدِه، ليظهرنَّ هؤُلاءِ القومُ عليکُم، ليس لأنَّهُم أولي بِالحقِّ، ولکِن لإسراعهِم إلي باطل صاحبهم، وإبطائکُم عن حقِّي. ولقد أصبحتِ الأُممُ تخاف ظُلم رُعاتِها، وأصبحتُ أخافُ ظُلم رعيَّتي، استنفرتُکُم للجِهادِ فلم تنفِروا، وأسمعتُکُم فلم تسمعُوا، ودعوتُکُم سِرّاً وجهراً فلم تستجيبُوا، ونصحتُ لکُم فلم تقبلُوا».[5] .

ويکشف هذا النّصّ- کغيره من النّصوص المماثلة له- عن أنّ انتصار الفتنة لم يکن في تقدير الإمام عليه السّلام وتحليله ناشئاً من قدر غيبي، وإنّما نشأ من توفّر الأسباب الموضوعيّة علي أرض الواقع السّياسي والإجتماعي الّذي کانت عوامله تتفاعل في المجتمع السّياسي المواجه للفتنة.

لقد فقد هذا المجتمع فاعليته، وتخلّي عن روح الکفاح في مواجهة الفتنة، وانفصل عملياً عن قيادته فسقط في السّلبيّة، وآثر الحياة السّهلة الخالية من تبعات الرّسالة والجهاد.

ومن ذلک قوله عليه السّلام: «... ثُمَّ يأتي بعد ذلِک طالِعُ الفِتنةِ الرَّجُوفِ،[6] والقاصِمةِ الزَّحُوفِ،[7] فتزيغُ قُلُوب بعد استِقامةٍ، وتضِلُّ رِجال بعد سلامةٍ، وتختلِفُ الأهواءِ عند هجُومِها، ونلتبسُ الآراءُ عِند نُجُومِها[8] من أشرف لها قصمتهُ[9] ومن سعي فيها حطمتهُ، يتکادمُون فيها تکادُم الحُمُرِ في العانةِ[10] قد اضطرب فيها معقُودُ الحبلِ، وعمي وجهُ الأمرِ. تغيضُ فيها الحِکمةُ،[11] وتنطِقُ فيها الظَّلمةُ، وتدُقُّ أهل البدو بمسحلِها[12] وترُضُّهُم بِکلکلِها...[13] فلا تکُونُوا أنصاب الفِتنِ[14] وأعلامَ البِدعِ، والزمُوا ما عُقد عليه حبلُ الجماعةِ، وبُنيت عليه أرکانُ الطَّاعةِ».[15] .

في هذا النّصّ بيّن الإمام بعض سمات انتصار الفتنة:

1- إستيلاء الفتنة علي مساحات جديدة في المجتمع: «تضلّ رجال بعد سلامة» وتتعمّق الأفکار المنحرفة «تزيغ قلوب بعد استقامة».

2- تلفّ المجتمع حيرة شديدة نتيجة للإنتصار غير المتوقع الّذي فرض مفاهيم جديدة لم تکن مألوفة.

3- تحطّم الفتنة- في أوج انتصارها- کلّ من يتصدي لها مواجهة.

وفي نصّ آخر بيّن الإمام وجوهاً أخري لانتصار الفتنة: «... فعِند ذلکَ أخذ الباطِلُ مآخِذَهُ، ورکب الجهلُ مراکِبهُ، وعظُمتِ الطَّاغيةُ، وقلَّتِ الدَّاعيةُ، وصال الدّهرُ صيالَ السَّبُع العقُورِ،[16] وهدر فنيقُ الباطل بعد کُظومٍ[17] وتواخي النَّاسُ علي الفُجُورِ، وتهاجرُوا علي الدِّين، وتحابُّوا علي الکذِبِ، وتباغضُوا علي الصِّدقِ، فإذا کان ذلک کان الولدُ غيظاً[18] والمطرُ قيظاً[19] وتفيضُ اللِّئامُ فيضاً وتغيضُ الکِرامُ غيضاً.[20] وکان أهلُ ذلک الزَّمانِ ذئاباً، وسلاطينُهُ سِباعاً، وأوساطُهُ أکَّالاً، وفُقراؤهُ، أمواتاً، وغار الصِّدقُ، وفاض الکَذِبُ، واستُعمِلتِ المودَّةُ باللِّسانِ، وتشاجر النَّاسُ بالقُلُوبِ، وصار الفُسُوقُ نسباً، والعفافُ عجباً، ولُبِس الإسلامُ لبسَ الفرو مقلُوباً».[21] .

في هذا النّصّ فصّل الإمام ملامح الفتنة عند ما تنتصر، وتغلب علي المجتمع،فتتسلّط علي مؤسّساته، وتعمّق جذورها فيه، وتبسط مفاهيمها وقيمها عليه.

ويمکن تلخيص هذه الملامح في النّقاط التّالية

1- تأصّل روح الطّغيان في الحکم، ونزعة التّجبر والإستبداد في الحاکمين، وانحسار الرّوح الرّساليّة في مؤسسات الحکم.

2- فساد العلاقات الإنسانيّة داخل المجتمع، وتدنّي المستوي الأخلاقي، وشيوع أخلاق المنفعة بين الناس. وما أروع قوله في تصوير جانب من هذه الظّاهرة (واستعملتِ المودّة باللّسان، وتشاجر النّاس بالقلوب).

3- إنحطاط مؤسّسة الأُسرة، وشيوع الإباحة الجنسيّة.

ويلخص ذلک کلّه قوله عليه السّلام: (ولُبِس الإسلامُ لُبس الفرِو مقلوباً) وهذا کقوله في نصّ آخر: «أيُّها النّاسُ، سيأتي عليکُم زمان يُکفأُ فيه الإسلامُ کما يُکفأُ الإناءُ بما فيه».[22] .







  1. اُصفيتم.. خصصتم به دون غيرکم.
  2. الخطام ما جعل في أنف البعير ليقاد به، فإذا لم يکن ثمّة قائد تاه البعير ولم يسلک طريق السّلامة، کني بذلک عن الفتنة الّتي تعيث فساداً في المجتمع.
  3. البطان: حزام يجعل تحت بطن البعير ليحفظ استقرار ما عليه من راکب أو حمل فإذا استرخي ادّي ذلک إلي خطر السّقوط. کنّي بذلک عن أخطار الفتنة.
  4. نهج البلاغة، الخطبة رقم:89.
  5. نهج البلاغة، الخطبة رقم:97.
  6. الرّجوف: شديد الرّجفان والإضطراب، تُدخل الإضطراب والقلق علي المجتمع.
  7. القاصمة: الکاسرة، والزّحوف: المتحرّکة الّتي تسعي للإنتشار في المجتمع.
  8. نجوم الآراء ظهورها يعني أنّ الفتنة تسبّب البلبلة الفکرية في المجتمع، فتمکن للشّعارات الدّخيلة من التّسرب والشّيوع.
  9. أشرف لها: تعرّض لها، قصمته: کسرته.
  10. يتکادمون.. ينهش بعضهم بعضاً، والعانة هي الجماعة من الحمر الوحشية، يعني أنّ سلطان القانون، في حالة انتصار الفتنة، يسقط، ويسود سلطان الغريزة.
  11. تغيض.. تختفي، غاض الماء: غار تحت الأرض.
  12. دقّ: فتّت وطحن. والمسحل: المبرد أو المطرقة، يعني أنّ شرورها الاجتماعيّة تصل الي أهل البدو- مع بعدهم عن يد السّلطة- فتحطّم علاقاتهم، وتهدّد أمنهم.
  13. الرّضّ: التّهشيم، والکلکل: الصّدر، يعني أنّها تطبق عليهم، فتشلّ حرکتهم وتحطّم مقاومتهم.
  14. أنصاب: علامات.
  15. نهج البلاغة، الخطبة رقم:51.
  16. صال.. هجم للفتک والإعتداء.
  17. الفنيق: الفحل من الإبل، والکظوم الصّمت والسّکون- يعني أنّ الباطل بعد أن کان ذليلاً صامتاً، غدا، في الفتنة، عالي الصّوت هادراً.
  18. بسبب الفتنة تفسد أخلاق الأجيال الشّابة فيکونون سبباً لغيظ أهلهم.
  19. القيظ: شدّة الحر. يعني أنّ الأمور والسّياسات تقع في غير مواقعها فلا تفيد بل تضرّ.
  20. غاض الماء في الأرض: اختفي وغار فيها. يعني يندر في الفتنة حين تغلب وجود ذوي الأخلاق الکريمة في مراتبهم الإجتماعية لأنّهم يخفون أنفسهم ويبتعدون عن الأضواء.
  21. نهج البلاغة- الخطبة رقم: 108.
  22. نهج البلاغة- الخطبة رقم:103.