الفتنة











الفتنة



فتنة: تعبير قرآني يدلّ، حين يسند إلي اللّه تعالي ويصدر عنه، تارة علي الإختبار والإمتحان الرّبّاني بالنّعمة، ومن هذا ما ورد في قوله تعالي: «واعلَمُوا أنَّما أموالُکُم وأولادُکُم فِتنة وأنَّ اللّه عِندهُ أجر عظيم»[1] أو يدلّ في موارد أخري علي الإختبار والإمتحان الرّبّاني بالمصاعب والشدائد، ومن هذا ما ورد في قوله تعالي: «أحسِبَ النَّاسُ أن يُترکُوا أن يقُولُوا آمنَّا وهُم لا يُفتنُون. ولقد فتنَّا الّذِين مِن قبلِهم فليعلمَنَّ اللّه الذِينَ صدقُوا وليعلمَنَّ الکاذِبِين»[2] وهذه الفتن ذات وظيفة تربوية تعزز صلابة المؤمنين، وترفع درجة وعيهم، وتميز عنهم الدّخلاء والمنافقين.

هذا التعبير القرآني ذو المضمون التربوي الإيجابي، غدا عند الإمام عليّ مصطلحاً سياسيّاً- تاريخيّاً ذا مدلولات متنوعة يتّصل بالحرکة التّاريخيّة للمجتمعات في الحاضر وفي المستقبل.

وهو ذو مدلول سلبي بالنّسبة إلي حرکة التّقدّم النّبويّة.

إنّ الفتنة عند الإمام- باعتبارها ظاهرة سياسيّة- معوّق لحرکة التّقدّم، ونکسة في سير حرکة النبوّة، وهي، والحال هذه، ليست من صنع اللّه تعالي، وإنّما هي من صنع البشر.

قسّم الإمام الفتنة إلي قسمين: أحدهما: الفتنة بالمعني القرآني التّربوي، واعتبر أنّ الفتنة بهذا المعني ذات دور إيجابي، بشرط أن تکون استجابة الإنسان لها بروح إيماني ملتزم، ووعي أخلاقي مسؤول، ولذا فلا معني للإستعاذة باللّه من الفتنة بهذا المعني فإنّ ذلک سخف، لأنّها تلازم طبيعة الحياة ووجود الإنسان، فلا توجد حياة مکتملة دون أن توجد معها فتنة بهذا المعني.

وثانيهما: الفتنة باعتبارها ظاهرة سياسيّة، وهذه هي الفتنة التي يحذر منها ويستعاذ منها، وهي الّتي أعطاها الإمام في تعليمه الفکري مدلولاتها السّياسية-التّاريخية. وسمّاها (مضلات الفتن).

وقد شرح الإمام ذلک بقوله: «لا يقُولَنَّ أحدُکُم: اللّهُم إنَّي أعُوذُ بِک من الفتنَةِ، لأنَّهُ ليس أحَد إلا وهُو مُشتمِل علي فِتنةٍ، ولکِن من استعاذ فليستعِذ من مُضلاتِ الفِتنِ، فإن اللّه سُبحانهُ يقُولُ: (واعلمُوا أَنما أموالُکُم وأولادُکُم فِتنة)ومعني ذلِک أنَّهُ سُبحانَهُ يختبِرُ عِبادَهُ بِالأَموالِ والأولادِ لَيتَبيَّنَ السَّاخِطَ لِرِزقِهِ والرَّاضيَ بقِسمِهِ، وإن کان سُبحانهُ أعلمَ بِهم مِن أنفُسِهِم، ولکِن لِتظهرَ الأفعالُ التِي بِها يُستَحقُّ الثَّوابُ والعِقابُ، لأنَّ بعضهُم يُحِبُّ الذُّکُورَ وبکرَهُ الإناثَ، وبعضهُم يُحِبُّ تثمِير المالِ ويکرهُ انثِلامَ الحاِلِ».[3] .

وليس من أهداف هذه الدّراسة البحث عن الفتنة باعتبارها مصطلحاً تربويّاً، وإنّما الهدف منها هو البحث عن الفتنة باعتبارها مصطلحاً سياسيّاً- تاريخياً، فلنرَ فيما يأتي تقسيم الإمام لها باعتبارها ظاهرة سياسيّة، وتحليله لآليّة حرکتها: کيف تبدأوتنمو وتنتشر، وتوجيهه في شأن الموقف الّذي ينبغي اتخاذه حين تقع. ولنرَ دور عليّ في مواجهة الفتنة الّتي بدأت طلائعها في عهده، وأخيراً رؤيته لفتنة بني أميّة بعده.

يبدو من تحليل النصوص الّتي اشتمل عليها نهج البلاغة بشأن الفتنة والمقارنة بينها أنّ ثمَّة ثلاثة أنواع من الفتن:

1- الفتنة الشّاملة.

2- الفتنة العارضة.

3- الفتنة الغالبة.

وهذه التّسميات وضعناها نحن، ولم ترد في کلمات الإمام عليّ، علي ضوء ما لاحظناه عن اتساع المساحة الفکريّة الّتي تطبعها الفتنة بطابعها، وتؤثّر بالتّالي علي الوضعيّة السّياسيّة والعلاقات الإجتماعيّة والإنسانيّة داخل المجتمع.

أ- الفتنة الشّاملة:

تکون الفتنة شاملة حين تکون نظاماً فکريّاً يسود مجتمعاً من المجتمعات ذات الحضارة أو البدويّة- الرّعويّة، فالحضارة التي تقوم الحياة فيها علي قيم الضّلال في الفکر والأخلاق والضّياع، وتنبني مؤسساتها السّياسيّة والإجتماعية علي الإعتبارات الّتي تنشأ من هذه القيم، وتحکم المجتمع السّياسي فيها علاقات فاسدة... هذه الحضارة تکون فتنة شاملة تصل إلي کلّ إنسان، وتنشر ظلالها خارج حدودها. إنّها الجاهلية قديمها وحديثها في ذلک سواء.

وکذا الحال فيما إذا کان نظام فکري کهذا يکوّن روح وعقل مجتمع بدوي- رعوي، لم يبلغ مرحلة الحضارة ذات الإنجازات في مجال التّعامل مع الطّبيعة والمؤسّسات التّنظيميّة.

وقد صور الإمام عليه السّلام هذه الفتنة الشّاملة في حديثه عن حال العالم، والعرب بوجه خاص- قبل بعثة رسول اللّه (ص) قال: «... وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عبدُهُ ورَسُولُهُ، أرسلَهُ بالدِّينِ المشهُورِ، والعلَمِ المَأثُورِ، والکِتابِ المسطُورِ... والنّاسُ في فتنٍ انجذَمَ[4] فِيها حبلُ الدِّينِ، وتزعزعَت سوارِي اليِقين[5] واختَلَف النَّجرُ[6] وتشتَّتَ الأمرُ، وضاقَ المخرجُ، وعمِي المصدرُ، فالهُدي خامِل، والعمي شامِل. عُصِي الرَّحمانُ، ونُصِرَ الشَّيطانُ، وخُذِلَ الإيمانُ فانهارت دعائمُهُ وتنَکَّرت معالِمُهُ، ودرسَت سُبُلُهُ[7] وعفَت شُرُکُهُ،[8] أطاعُوا الشَّيطانَ فسلکُوا مسالِکَهُ ووردُوا مناهِلَهُ،[9] بِهِم سارَت أعلامُهُ وقامَ لِواؤُهُ، في فِتَنٍ داستهُم بِأخفافِها ووطِئتهُم بِأظلافِها[10] وقامَت علي سنابِکِها،[11] فهُم فيها تائهُونَ حائروُن جاهِلُون مفتُونُونَ، في خيرِ دارٍ وشّرِّ جِيرانٍ. نومُهُم سُهُود، وکُحلُهُم دُمُوع، بِأرضٍ عالِمها مُلجَم، وجاهِلُها مُکرَم».[12] .

في هذا النّصّ فصّل الإمام عليّ نظرته إلي نموذج من نماذج الفتنة باعتبارها ظاهرة سياسيّة لمجتمع ما.

والسّمات الّتي تميّز الفتنة الشّاملة فيما يفيده هذا النّصّ هي:

1- مجتمع لا يحکمه نظام أخلاقي، وخالٍ من الحياة الرّوحيّة السّليمة. وهذا لا ينفي أن يتمتع المجتمع المذکور بنظام سياسي.

وهذه السّمة يدلّ عليها قول الإمام «انجذم فيها حبل الدّين» فالمجتمع منقطع الصّلة بالوحي، ومن ثمّ فهو لا يتمتع بنظام روحي وأخلاقي.

2- مجتمع تسيطر علي أفراده وفئاته روح الشّک. ويتبع فيه- في مجال القيم- المقياس الذّاتي، لأنّه لا يتمتع بمقياس موضوعي نتيجة لخلوّه من النّظام الأخلاقي والحياة الرّوحيّة.

وهذه السّمة الثّانية يدلّ عليها قول الإمام في النّصّ الآنف «تزعزعت فيها سواري اليقين».

3- مجتمع منقسم علي نفسه إلي شيع وأحزاب، تمزقه الصّراعات والنّزاعات وتجعله خالياً من روح التّضامن والتّکافل. ومن ثم فلا توجّه حرکته آمال متحدة وهدف أخلاقي کبير، وإنّما توجّهه الرّغبات الفرديّة والفئويّة بسبب عدم وجود نظام أخلاقي من جهة، وانتشار روح الشّک واتباع المقياس الذّاتي في القيم من جهة أخري.

وهذه السّمة يدلّ عليها قول الإمام «واختلف النّجر، وتشتّت الأمر، وضاق المخرج وعَمي المصدر...».

هذه هي السّمات الّتي تميّز الفتنة الشّاملة، وتطبع المجتمعات المفتونة بطابعها. وما جاء من أوصاف للمجتمع في الفقرات التالية من النّصّ الآنف هي نتائج لهذه السّمات الثّلاث الکبري: فقدان النّطام الأخلاقي والحياة الروحيّة/ شيوع روح الشّک واتباع المقياس الذّاتي في القيم/ الإنقسامات الطبقيّة والفئويّة والعائليّة، وعدم وجود هدف عظيم ونبيل يوجّه حرکة المجتمع التاريخيّة.

هذه هي الفتنة الشّاملة.

وتسميتنا لهذه الفتنة ب (الشّاملة) ناشئ من ملاحظة أنّها مستوعبة لکلّ المجتمع بحيث لا يخلو منها أيّ مستوي من مستوياته وأي مظهر من مظاهر الحياة فيه، فهي روحه وعقله: روحه الملهمة، وعقله الموجّه.

ب- الفتنة العارضة:

عثرة تعترض سير المجتمع أثناء حرکته التّقدّميّة فتشيع الحيرة والإلتباس في بعض المواقف، وتعرّض بعض الأشخاص القياديّين وبعض فئات المجتمع لاختبارات حرجة، وتحفّز بعض القيم القديمة للتّعبير عن نفسها، ولکن قوّة اندفاع المجتمع في حرکته التّقدّميّة، وقوّة المبادئ الّتي تحکم سيره في قلوب وعقول أفراده- تحول بين الفتنة وبين أن تنتشر وتتعمق وتضرب بجذورها في ثنايا المجتمع، فسرعان ما ينکشف وجه الحقّ فيها، وتذبل حرکتها، ويخفت صوت الدّاعين إليها بين الناس، بل يغدون موضعاً للنقد والتّجريح، وتجف الرّوافد الرّجعيّة الّتي تمدّها بالحياة والحرکة، ويتعافي المجتمع من نکسته، ويخرج من التّجربة أکثر وعياً ويقظةً.

وقد مرّت علي المسلمين في عهد رسول اللّه (ص) بعض الفتن العارضة الّتي تجاوزوها، بتوجيه رسول اللّه (ص)، بنجاح، وخرجوا منها دون أن تؤثّر علي حرکة المجتمع الإسلامي المندفعة إلي الأمام.

ولعلّ أشدّ هذه الفتن العارضة الّتي واجهت المجتمع الإسلامي في عهد النّبي (ص)خطورة کانت فتنة الإفک، في سنة ست للهجرة، في أعقاب غزو رسول اللّه (ص) والمسلمين لبني المصطلق من خزاعة.

وقبل الإفک ما حدث أثناء العودة من الغزوة المذکورة، حين أدّي تزاحم علي الماء في بعض منازل الطّريق بين أجير لعمر بن الخطاب من بني غفار اسمه (جهجاه)، وبين أحد حلفاء الخزرج واسمه (سنان بن وبر الجهني)، واقتتلا، فصرخ حليف الخزرج: «يا معشر الأنصار» وصرخ أجير عمر بن الخطاب «يا معشر المهاجرين». ونشط المنافقون، وعلي رأسهم (عبداللّه بن أبي سلول)، لاستغلال التّوتّر الّذي ولّده هذا النّزاع البسيط بين المهاجرين والأنصار، وهدّد ابن أبي سلول بأنهم إذا عادوا الي المدينة (ليُخرِجنَّ الأعزُّ مِنها الأذلَّ)، وکادت الفتنة أن تجرف کثيرين...

ولکن حکمة رسول اللّه (ص) قضت علي الفتنة في مهدها.

وأنزل اللّه في شأن هذه الفتنة الصّغيرة العارضة سورة المنافقين (رقم63 في المصحف) فضح فيها نوايا المنافقين وأساليبهم، وجعل منها درساً تربويّاً إيمانيّاً وسياسيّاً للمسلمين عمّق وعيهم، وزاد يقظتهم، وعزّز صلابتهم أمام أساليب النّفاق.

أمّا فتنة الإفک فکانت أشد خطورة وأوسع انتشاراً.

لقد کانت مرتعاً خصباً للمنافقين يوهنون من خلالها مقام رسول اللّه (ص)، ويشوّهون سمعته، ويلقون ظلالاً من الرّيبة علي طهارة بيته، في مجتمع يقوم علي قيم صارمة فيما يتعلق بالطّهارة الجنسيّة، بما يؤدّي إليه الهمس الخفي في شأن کهذا في مجتمع کهذا من سخريات وظنون والاشاعات تضعف التّأثير النّفسي لتوجيهات رسول اللّه (ص).

وما هو أشد خطورة في دسّ المنافقين واستغلالهم للإمکانات الّتي يتيحها الإفک، هو أنّ الفتنة أدّت إلي تصدّع تلاحم المسلمين أنفسهم، حيث استغل زعماء قبيلة الأوس تورّط بعض أفراد قبيلة الخزرج في إشاعة الحديث عن الإفک،للتّعبير عن أحقاد قبلية جاهليّة تحت ستار الغيرة علي رسول اللّه (ص)، والتّمسک بأهداب الدّين.

فقال رئيس الأوس (أسيد بن حضير) مخاطباً رسول اللّه (ص) حين وجه عتاباً رقيقاً للّذين روّجوا الإشاعة الکاذبة، دون أن يسمّي أحداً: «يا رسول اللّه: إن يکونوا من الأوس نکفکهم، وإن يکونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرک، فو اللّه إنّهم لأهل أن تضرب أعناقهم».

فقال سعد بن عبادة زعيم الخزرج رادّاً عليه: «کذبت لعمر اللّه، لا تضرب أعناقهم. أما واللّه ما قلت هذه المقالة إلا أنّک عرفت أنّهم من الخزرج، ولو کانوا من قومک ما قلت هذا...».

فقال أسيد بن حضير: «کذبت لعمر اللّه، ولکنّک منافق تجادل عن المنافقين...».

وتساور النّاس[13] حتي کاد يکون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شرّ.[14] .

وهکذا وجدت القيم الجاهلية القديمة متنفساً تعبّر به عن نفسها من خلال هذه الفتنة متستّرة بشعارات إسلاميّة.

ولکن حکمة رسول اللّه (ص)، ووعي المجتمع، ورسوخ المبادئ والقيم الإسلاميّة في نفوس النّخبة حصرت الفتنة في نطاق ضيّق، وحالت دون تأثير في إحداث تفاعلات سيّئة بالنّسبة إلي حرکة التّقدم النّبويّة. وجاء الوحي بعد ذلک فقضي علي الفتنة، حيث أنزل اللّه تعالي في هذا الشّأن سورة النّور (السّورة رقم24 في المصحف) وجعل منها درساً تربويّاً، ومناسبة لسنّ تشريعات تتعلق بالعلاقات بين الجنسين داخل المجتمع الإسلامي، في نطاق الزّوجية- من حيث العلاقات الزّوجيّة وغيرها- وخارج الحياة الزّوجيّة.

هذان نموذجان للفتنة العارضة في المجتمع الإسلامي في عهد رسول اللّه (ص) وقد واجه المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرّسول (ص) فتنة عارضة ذات طابع سياسي محض هي فتنة السّقيفة.

وقد بدأت هذه الفتنة حين تجاوز بعض کبار الصحابة من المهاجرين والأنصار وصية رسول اللّه (ص) بإسناد الخلافة بعده إلي الإمام علي بن أبي طالب، لأنّه کان الشّخصيّة الإسلامية الوحيدة الّتي تجمّعت فيها المواهب والمؤهلات الّتي جعلتها قادرة علي قيادة الأمّة الإسلاميّة بعد وفاة رسول اللّه (ص).

وقد حسم النّزاع علي منصب الخلافة بين المهاجرين والأنصار، في سقيفة بني ساعدة،[15] بمعزل عن الإمام علي بن أبي طالب، لمصلحة قبيلة قريش، بمبايعة الخليفة الأوّل (أبي بکر) علي أثر مناورات سياسيّة استخدم فيها منطق قبلي، وکادت تؤدّي إلي انشقاق خطير داخل المجتمع الإسلامي الوليد.[16] .

وقد کان العامل الأکبر والأبعد أثراً في التّغلّب علي فتنة السّقيفة وآثارها الخطيرة هو موقف علي بن أبي طالب.

فقد کان الإمام علي بمؤهلاته المتفوقة بشکل مطلق علي نخبة الصحابة، وبمواهبه النادرة الفريدة، وبالنّصّ عليه من رسول اللّه (ص) خليفة من بعده... کان لذلک کلّه رجل الشرعية الإسلاميّة الأصيل.

وکان هذا الوضع الحقوقي المؤاتي بالنّسبة إليه يخوّله حق المعارضة، ونقض القرار والإنجاز الّذي اتخذ خارج الشّرعية في اجتماع السّقيفة، سعياً وراء حقه في تسلّم السّلطة.

ولکن هذا الوضع الحقوقي النّظري بالنّسبة إليه، کان يواجه وضعاً اجتماعياً وسياسيّاً واقعّياً.

فمن ناحية کان المجتمع الاسلامي الوليد لا يزال مجتمعاً هشّاً من حيث التّلاحم الدّاخلي النّاشئ عن العقيدة الواحدة، لأنّ القيم الجاهليّة کانت لا تزال سائدة في الحياة العامّة للقبائل الّتي دخلت في الإسلام في عام الوفود قبل وفاة النّبي (ص) بسنة وأشهر- أو أقل من سنة بالنّسبة إلي إسلام بعض هذه القبائل- وکانت هذه القيم الجاهليّة في أحسن الحالات مستکنّة تحت قشرة رقيقة من الإسلام، وکان لا بدّ من مضيّ وقت طويل قبل أن تذبل هذه القيم الجاهلية وتفقد حرارتها وفاعليّتها.

وفي حالة کهذه کان أيّ عمل سياسي يتّسم بطابع العنف سيؤدّي في الراجح إلي تصدع خطير في بنية المجتمع الإسلامي وتماسکه، وقد يؤدّي إلي ردّة واسعة النّطاق في أوساط حديثي العهد بالإسلام.

ومن ناحية أخري کان فريق من القبائل قد ارتدّ فعلاً عن الإسلام، واتّبع بعض أدعياء النّبوة، وغدا يشکّل تهديداً حقيقيّاً للإسلام حين انتشرت ظاهرة التّنبّؤ واتّجه قادتها إلي تحالف يوحّد قواهم، فسيطروا علي اليمن تقريباً في الجنوب، وعلي مساحات واسعة من الحجاز ونجد في الشّمال.

وقد اتّجه الإمام عليّ إلي المعارضة والإحتجاج أوّل الأمر. ورفض الإعتراف بالنّتيجة الّتي أسفر عنها اجتماع السّقيفة، واعتصم في منزله، وبدا بوضوح أنّ موقفه سيثير تفاعلات خطيرة في وجه اختيار السّقيفة داخل المدينة وخارجها... ولکنّ الإمام عليّاً سرعان ما واجه الواقع السّياسي والإجتماعي للمجتمع الإسلامي الوليد، والأخطار الّتي ربّما تعرض لها الإسلام نفسه نتيجة لهذا الموقف.

ولو لم يکن عليّ بن أبي طالب رجل العقيدة الأوّل، ورجل الرّسالة الأوّل، الأکثر وعياً والأعظم شعوراً بالمسؤوليّة، لما ألقي بالاً إلي الواقع السّياسي والإجتماعي للإسلام، ولمضي في معارضته إلي نهايتها، مستغلاً الواقع السّياسي والإجتماعي في سبيل نجاح مسعاه للوصول إلي السّلطة.

ولکنّه کان بالفعل رجل العقيدة الأوّل، ورجل الرّسالة الأوّل، وأعظم المسلمين إطلاقاً شعوراً بالمسؤوليّة تجاه الإسلام، وأعظمهم حرصاً علي ازدهاره وانتشاره وتعمقه في العقول والقلوب.

ومن المؤکّد أنّ الحکم عنده لم يکن مطلباً شخصياً، بل وسيلة إلي بلوغ غاية تتجاوز الأشخاص والأجيال والمصالح الخاصّة لتعمّ وتشمل ما بقي من عمر الدّنيا، وما تضمره القرون المقبلة من أجيال في کلّ الأوطان وفي کلّ الأمم.

إنّ عليّاً، بعد رسول اللّه (ص)- کان أب الإسلام. وقد تصرّف تصرّف الأب الحريص، فتحمّل بصبر جميل نبيل جراحه الشّخصية وحرمانه في سبيل قضيّة حياته الکبري، قضيّة الإسلام.

ولا شکّ في أنّ جميع المسلمين کانوا يعرفون هذه الحقائق في شخصيّة وضمير الإمام عليّ، ويبدو أنّ منافسيه السّياسيّين قاموا بمغامرتهم النّاجحة[17] معتمدين علي جملة معطيات من جملتها ثقتهم بأنّ الإمام سيقدّم مصلحة الإسلام العليا علي مصالحه الخاصّة.

لقد أشار الإمام في کتاب له بعث به إلي أهل مصر مع مالک الأشتر لمّا ولاّه إمارتها، إلي العامل السّياسي الّذي حال دون مضيه في المعارضة، فقال: «... فأمسکتُ يدِي[18] حتَّي رأيتُ راجِعةَ النّاسِ[19] قد رجعت عنِ الإسلامِ، يدعُونَ إلي محقِ دِينِ مُحمَّدٍ (ص)، فخشِيتُ إن لم أنصُرِ الإسلام وأهلهُ أن أري فِيه ثلماً[20] أو هدماً تکُونُ المُصِيبةُ بِهِ عليَّ أعظمَ مِن فوتِ ولايتِکُمُ التي إنَّما هيَ متاعُ أيَّامٍ قلائلَ يزُول مِنهَا ما کانَ کمَا يزُولُ السَّرابُ، أو کما يتقشَّعُ السَّحابُ فنهضتُ في تِلک الأحداثِ حتَّي زاح[21] الباطِلُ وزَهقَ،[22] واطمأنَّ الدِّينُ وتنهنه».[23] [24] .

وقد خيّب موقفه المبدئي الرّسالي آمال کثيرين ممّن کان إسلامهم موضع شکّ أو کانوا مسلمين مخلصين ولکنهم ينظرون إلي مسألة الحکم من زاوية المصالح القبليّة والعائليّة نتيجة لافتقارهم إلي النّضج والوعي.

وقد حاول بعض هؤلاء أن يحملوه علي تغيير موقفه المبدئي الرّسالي، ولکنه رفض محاولاتهم، مصرّحاً بأنّ الموقف موقف فتنة، داعياً، إلي النّظر في الموقف وفقاً لمقياس عقيدي إسلامي مبدئي، والإبتعاد عن المنظور الجاهلي القبلي الّذي بدت سماته في تلک المحاولات.

وقد صرّح بذلک في مواقف کثيرة، منها قوله مخاطباً الناس حين دعاه أبوسفيان بن حرب والعبّاس بن عبد المطلب إلي أن يبايعا له بالخلافة: «أيُّها النّاسُ، شُقُّوا أمواجَ الفِتنِ بِسُفُنِ النَّجاةِ، وعرِّجُوا عن طرِيقِ المُنافرِةِ[25] وضعُوا تِيجانَ المُفاخرةِ. أفلحَ من نهض بِجناحِ، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجِن،[26] ولُقمَة يغصُّ بِها آکِلُها. ومُجتنِي الثَّمرةِ لِغيرِ إيناعِها[27] کالزَّارِعِ بِغيرِ أرضِهِ».[28] .

والسّمات الّتي تميّز الفتنة العارضة، فيما نستفيده من جملة ما ورد عن الإمام عليّ في هذا الشّأن، ومن الدّراسة التّاريخيّة،... أربع:

1- تتولّد أزمة سياسيّة، قد تکون بسبب أحداث صغيرة، تکون غالباً غير مخطّط لها بل عرضيّة، ولکن سرعان ما تدخلها بعض القوي الإجتماعية ذات الأهداف السّريّة المخالفة لنظام المجتمع في نطاق خططها للإستفادة منها ومن تلک الأزمة السّياسيّة، في سبيل الوصول إلي أهدافها.

وقد تتولّد الأزمة السّياسيّة بسبب أحداث ذات شأن کبير ومخطّط لها- کما حدث في السّقيفة- ولکن الجماعات الّتي تصنع الحدث لا تستثمره لأهداف مخالفة لنظام المجتمع العام والسّائد، بل تکون عازمة علي الإنسجام مع نظام المجتمع، ساعية إلي تعزيزه وفقاً لفهمها الخاص، عاملة علي أن يکون ذلک من خلال سلطتها هي.

2- في الحالتين الآنفتين تحرّک الفتنة العارضة بعض القيم القديمة الّتي قضي عليها النّظام الجديد، إمّا بسبب ضعف رقابة النظام لانشغال أجهزته بالمشکلات السّياسيّة الآنية، أو بسبب التسامح مع بعض القوي السّياسيّة غير الواعية لأجل کسب ولائها في الصّراع السّياسي الدّائر. ولکن هذه القيم القديمة، في جميع الحالات، لا تعود سافرة صريحة، إنّما تعود مموّهة بشعارات جديدة.

3- (في الغالب) تتولّد الأحداث الّتي تکوّن مناخ الفتنة من مشکلات يثيرها أشخاص عاديون أو ذوو قيمة ثانويّة في السلم الإجتماعي، کما أنها تقع علي أشخاص من هذا القبيل کما هو الحال في فتنة النّزاع علي الماء بين الغفاري والجهني، ولکن علاقات الدّم والصّداقة والمصالح والمطامح سرعان ما (تسيّس) الأحداث وتستغلها. وقد يحدث أن تتولّد الأحداث من مشکلات يثيرها أشخاص ذوو شأن کبير في المجتمع أو تصيب هذه الأحداث أشخاصاً من هذا النّوع، کما هو الحال في حادثة الإفک وفي أحداث السّقيفة.

4- تواجه القيادة الحقيقيّة الشّرعيّة هذه الفتنة بسياسة تتّسم بالهدوء، وروح المسؤولية العالية، وتتجنب اتّخاذ أيّة إجراءات أو مواقف انفعالية وانتقامية، لما يؤدّي إليه ذلک من عواقب خطيرة تزيد الموقف تعقيداً والفتنة استحکاماً، وتتيح للقوي الخفيّة المعادية للنّظام (المنافقون، مثلاً في المجتمع الإسلامي) أن تستغل الوضع الطّارئ لتحقيق أهدافها (لاحظ السّمة رقم)1.

وبدلاً من مواجهة أحداث الفتنة العارضة بالعنف والإنفعال، تحرص القيادة علي مواجهتها بأسلوب يعطي الأولويّة في الحل لمصلحة القضايا المبدئيّة والعامّة، لا للجانب الشّخصي والعائلي.

هذه هي، فيما نري، أبرز سمات الفتنة العارضة.

ج- الفتنة الغالبة

هذا النوع الثّالث من أنواع الفتنة، هو، کما يدلّ عليه الوصف الّذي اخترناه له، دون الفتنة الشّاملة، وفوق الفتنة العارضة.

وقد تنشأ الفتنة الغالبة من تدهور سياسي عقيدي- تشريعي کبير يحلّ بالمجتمع أثناء حرکته الإنبعاثيّة، أو بعد بلوغه الذّروة.

کما قد تنشأ من فتنة عارضة تهمل القيادة جانب الحکمة في مواجهتها، أو تغفل عنه، فتتعاظم عثرة المجتمع، وتتغذّي الحالة الإنحرافيّة بالتّناقضات المستکنّة في أعماق التّرکيب الإجتماعي، کما أنّها تتغذي بالقيم القديمة الّتي أجبرها النّظام الجديد علي أن تنسحب من دائرة العمليات الإجتماعيّة إلي الظّلام.

وتفشل النّخبة في علاج العثرة بسب عجز هذه النّخبة، أو بسبب تناحر أجنحتها وانحياز بعض الأجنحة إلي خط الإنحراف.

وعامل الزّمن في مصلحة الإنحراف، فکلّما مضي علي الإنحراف يوم دون أن يوضع له حد ودون أن يقوّم، يزداد رسوخاً وتمکّناً، ويستوعب مساحة جديدة من المجتمع،ويکوّن لدي مزيد من النّاس قناعات في صالحه بينما تزداد النّخبة عجزاً، وعزلةً، وتفقد مزيداً من مواقعها.

وقبل مضيّ زمن طويل علي الإنحراف الّذي أنشب مخالبه في کيان المجتمع، وفشلت النّخبة في القضاء عليه- يشيع هذا الإنحراف، ويطبع کثيراً من أوجه الحياة، ويغدو عرفاً أو قانوناً أو سنّة متبعة، تحميه وتصونه قناعات تتأصل في الثّقافة، وتغدو جزءاً من تکوين المجتمع الثّقافي.

قلنا: إنّ هذا يحدث قبل مضيّ زمن طويل علي حدوث الإنحراف، لأن الإنحراف عادة يکون إلي جانب اليسر والسهولة والحياة الهيّنة وهذا ما يغري بالإتباع لأنه أوفق بهوي النفوس، وأبعد عن التّبعة والتّضحية.

ولکن الإنحراف (الفتنة) لا يبلغ درجة الشّمول واستيعاب کلّ مؤسسات المجتمع، ولا يستطيع أن يغيّر بنيته الثّقافية من جميع وجوهها، ولا يقدر علي أن يستوعب في مفاهيمه وقيمه الجديدة المبتدعة أو القديمة المحياة- کلّ الفئات الإجتماعيّة، ومن ثمّ فهو لا يستطيع أن يقضي نهائياً علي حرکة المجتمع التّقدميّة. إنّه يعوّقها ولکنّه لا يعطّلها، يشوّهها ولا يمسخها، إنّه لا يبلغ درجة الفتنة الشّاملة، وإنّما يکون فتنة غالبة.

تبقي مع الإنحراف الغالب روح الطّهارة والأصالة شائعة في المجتمع بوجه عام،تغذي حرکته التّقدميّة في أکثر من وجه من وجوه حياته ونشاطاته، وإن کانت هذه الرّوح تتعرّض دائماً للنّکسات بالنّسبة إلي عامّة المجتمع، ولکنّها تبقي علي وهجها الکامل وفاعليّتها الکاملة في جماعات قد تکون محدودة وصغيرة، منبثّة في ثنايا المجتمع سلمت من الإنحراف فلم ينل منها شيئاً، وبقيت ثابتة علي الصّراط المستقيم.

هذه الجماعات الأصيلة الطّاهرة هي طليعة الکفاح ضدّ الفتنة الغالبة في داخل المجتمع.. هي الّتي تحول بين الفتنة وبين أن تستوعب کلّ المجتمع وتغدو شاملة، وهي الّتي بکفاحها الدّائب الصّبور تحول بين الفتنة وبين التمکّن والإستقرار، وتجعلها في حالة حرب مستمرة.

ومن هنا فإنّ المجتمع في حالة الفتنة الشّاملة يتمتع باستقرار وثبات نتيجة لتناغم المؤسسات مع القيم مع القناعات الشّعبيّة مع الثّقافة العامّة، فهذه کلّها تتکامل وتتساند، وتتوفّر نتيجة لذلک حالة من التّوازن توفّر بدورها استقراراً وثباتاً.

أمّا في الفتنة الغالبة فإنّ الأمر علي خلاف ذلک، لأنّه يوجد تنافر قليل أو کثير بين المؤسسات والقيم والقناعات والثّقافة، وهذا يؤدّي إلي أن يعاني المجتمع باستمرار من القلق والفوران والتمزّق، نتيجة لوجود القوي المناهضة للفتنة، هذه القوي الّتي تضطرّ حرکتها الأصيلة المناهضة نظام الفتنة إلي أن يتحرّک ضدّها.

والفتنة الغالبة، في عالم الإسلام، هي الفتنة الّتي استفحلت في آخر عهد الخليفة عثمان بن عفان، وقاد الإمام علي بن أبي طالب حرکة التّصدّي لها طيلة السّنيّ الأخيرة من حياته... واستمرت بعد استشهاده، وزادت ضراوة وعنفاً حين فترت الهمم وتقاعست العزائم عن التّصدّي الفعّال لها، فانتصرت وسادت- قبل عهد الثّورات- حرکة الرّدّة.

ومن هنا فقد کثر کلام الإمام علي عن هذه الفتنة من جميع وجوهها: نعرض أسباب وبدايات حدوثها، وآليّة حرکتها، والموقف منها.

أ- کيف تبدأ الفتنة؟

قال عليه السلام: «إنّما بدءُ وُقُوعِ الفِتَن أهواء تُتَّبَعُ، وأحکام تُبتدَعُ، يُخالَفُ فيهَا کِتابُ اللّه، ويتولَّي عليها رِجال رِجالاً علي غير دينِ اللّه. فلو أنَّ الباطِلَ خلصَ مِن مزاجِ الحقِّ لم يخفَ علي المُرتادِين[29] ولو أنَّ الحقَّ خلصَ مِن لبسِ الباطِلِ انقطعت عنهُ ألسُنُ المُعاندينَ[30] ولکِن يُؤخذُ مِن هذا ضِغث[31] وَمِنْ هذا ضِغْث فيُمزجانِ فهُنالک يَستَولي الشَّيطانُ علي أوليائهِ. وينجُو (الَّدِينَ سبقت لهُم مِنا الحُسني)»[32] [33] .

هذا النّصّ يکشف عن عاملين يکوّنان الفتنة الغالبة: أحدهما: تغليب المقياس الذّاتي في القيم علي المقياس الموضوعي «أهواء تتبع» فبدلاً من أن يکون المرجع في القيم النّظام العقيدي والتّشريعي للمجتمع، يتجاوز رواد الفتنة هذا النّظام فيرجعون إلي النّوازع الذّاتيّة والعاطفيّة والمصلحية فتکون هي المقياس بالمعتمد وهو المرجع الأخير في القيم والسّلوک، وعلي ضوء ما تمليه تتخذ المواقف من الأحداث والأشخاص.

ثانيهما: سقوط القانون وانتهاک حرمته علي الصّعيد العملي: «... وأحکام تبتدع يخالف فيها کتاب اللّه»، وتغلّب العامل الشخصي بالإحتيال علي الشّرعية القانونيّة الّتي يحتفظ لها المفتونون بالإحترام النّظري، ويتظاهرون بتطبيقها، بينما هي علي الصّعيد العملي تنتهک کلّما تمکن الأقوياء من انتهاکها.

هذان العاملان: سقوط المقياس الموضوعي في القيم علي صعيد الأخلاق والعلاقات الإجتماعية والسّياسيّة، وسقوط الشّرعية القانونيّة علي صعيد المؤسسات العامّة والعلاقات والوضعيّة السّياسيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة... هذان العاملان هما جوهر الفتنة الغالبة.

ويحدث حينئذٍ أن تتکوّن القناعات الموالية للفتنة الغالبة لدي فئات اجتماعيّة جديدة: «... ويتولّي عليها رجال رجالاً علي غير دين اللّه» يتعزّز بها موقع الإنحراف في المجتمع، ويعمّق رسوخه في القلوب والعقول، ويتسع مداه فيشمل مساحات جديدة من الحياة.

ولکنّ الفتنة- کما ذکرنا آنفاً- لا تبلغ درجة الشّمول، بل يبقي للحقّ في المجتمع سلطان، ويبقي للشّرعيّة في المجتمع أعوان، هم «الّذِينَ سبقت لهُم مِنّا الحُسني» وهم الّذين يقودون حرکة الکفاح ضدّ الباطل والفتنة من أجل الحقّ الخالص الّذي لا يلتبس بالباطل.

ب- کيف تتحرّک الفتنة وتنمو؟

ويصف الإمام في نصّ آخر کيف تبدأ الفتنة، ويصوّر آليّة حرکتها وانتشارها في المجتمع، وذلک في سياق وصفه للفتنة الغالبة الّتي کانت نذرها تطلّ علي المجتمع الإسلامي في عهده: «... ثُمَّ إنَّکُم معشَرَ العربِ أغراضُ بلايا قدِ اقتربَت، فاتَّقُوا سکراتِ النِّعمَةِ واحذرُوا بوائقَ النقمةِ،[34] وتثبَّتُوا في قتامِ العِشوةِ[35] واعوِجاجِ الفِتنةِ عندَ طُلُوع جنِينها، وظُهُورِ کمينها، وانتِصابِ قُطبِها ومدارِ رَحاها. تبدأُ في مدارجَ خِفيَّةٍ، وتؤُولُ إلي فظاعةٍ جليَّةٍ. شِبابُها کشِبابِ الغُلام،[36] وآثارُها کآثارِ السِّلامِ[37] يتوارثُها الظَّلمَةُ بِالعُهُودِ، أوَّلُهُم قائد لآخِرِهِم، وآخِرُهُم مُقتدٍ بِأوَّلهِم. يتنافَسُون في دُنيا دنِيَّةٍ، ويتکالبُون علي جِيفةٍ مُريحَةً.[38] وعن قلِيلٍ يتبرَّأُ التَّابعُ مِن المتبُوع، والقائدُ من المقُودِ، فيتزايلُونَ بِالبَغضاءِ[39] ويتلاعنُونَ عِندَ اللِّقاءِ».[40] .

في هذا النّصّ صورّ الإمام آليّة حرکة الفتنة، ونموّها وانتشارها في المجتمع، فأبرز الملامح التّالية:

1- إنّ شيوع روح التّرف في المجتمع، واستغراق النّخبة في التّرف يؤدّيان بالمجتمع إلي أن يفقد روحه النّضاليّة الرّساليّة، ويحرص علي حياته الهيّنة النّاعمة، وعلي توفير الوسائل الملائمة لبلوغ مستوي من الحياة أکثر نعومة وليناً.

کما أنّ النّخبة في هذه الحالة تصاب بالتّرهّل والعجز والجبن.

وشيوع هذه الرّوح، روح التّرف، في مجتمع لا يزال في مرحلة تکوين نفسه، ومحاط بالقوي المضادّة الخائفة، ويحتوي ترکيبه الدّاخلي علي نقاط ضعف ناشئة من کونه يضم جماعات لم تتمثّل بعد بدرجة مرضيّة وعميقة رسالته الّتي يعتنقها ويبشر بها...- شيوع هذه الرّوح في مجتمع کهذا- وهو ما کانه المجتمع الإسلامي في ذلک الحين- يجعله مهيّأً لنموّ روح الفتنة فيه وانتشارها.

لقد حذّر الإمام من هذا بقوله: (احذروا سکرات النّعمة...).

2- تقع في الحياة العامّة أحداث، أو يواجه المجتمع حالات معينة، تسبّب هذه أو تلک التباساً في طريقة التّعامل مع بعض المفاهيم الرّساليّة ومفاهيم المعتقد علي ضوء الواقع الّذي حصل (مثلاً: التّغيّرات الّتي نشأت نتيجة لتوسّع حرکة الفتح في إيران والمستعمرات البيزنطيّة... والإحتکاک بالحضارتين الإيرانيّة، والرّومانية- الشّرقيّة..- أو الحيرة الّتي نشأت نتيجة لمقتل الخليفة عثمان بن عفان)... في هذه الحالات قد تتخذ النّخبة أو القيادة السّياسيّة للمجتمع قرارات مرتجلة، وتخضع لآليّة الفعل ورد الفعل، بعيداً عن التروّي مثلاً: کالّذي حدث عند مطالبة الإمام عليّ بعد البيعة فوراً بأن يقبض علي المتهمين بقتل عثمان ويعاقبهم، فقد قال له قوم من الصّحابة: لو عاقبت قوماً ممن أجلب[41] علي عثمان؟ فقد أجابهم الإمام جواب رجل الدّولة المسؤول النّاظر إلي عواقب الأمور، البعيد عن الإنفعال: «يَا إخوَتاهُ! إنِّي لستُ أجهلُ ما تعلمُونَ، ولکِن کيف لي بِقُوةٍ والقومُ المُجلبُون علي حدِّ شوکتِهِم[42] يملِکُوننا ولا نملِکُهُم! وها هُم هؤُلاء قد ثارت معهُم عبدانُکُم، والتفَّت إليهم أعرابُکُم[43] وهُم خِلالَکم[44] يسُومُونکُم ما شاؤوا[45] وهل ترون موضِعاً لِقُدرةٍ علي شي ءٍ تُريدُونهُ! إنّ هذا الأمر أمرُ جاهليَّةٍ، وإنَّ لهؤُلاء القومِ مادَّةً.[46] إنَّ النَّاس من هذا الأمرِ إذا حُرِّک علي أُمُورٍ: فِرقة تري ما ترون، وفرقة تري ما لا ترونَ، وفِرقة لا تري هذا ولا ذاک. فاصبِرُوا حتَّي يهدأ النَّاسُ، وتقع القُلُوبُ مواقِعها[47] وتُؤخذَ الحُقُوقُ مسمحَةً.[48] .

«فاهدأُوا عنّي، وانظُرُوا ماذا يأتيکُم بِهِ أمري، ولا تفعلُوا فعلَةً تُضعضِعُ قُوةً، وتُسقِطُ مُنِّةً،[49] وتُورِثُ وهناً وذِلّةً. وسأُمسِکُ الأمر ما استمسک، وإذا لم أجِد بُدَّا فآخِرُ الدَّواءِ الکيُّ».[50] .

وهکذا نري الإمام يطلب إلي هؤلاء المتعجّلين أن يلزموا جانب التّروّي، وأن يترکوا له اتّخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وألا يخضعوا لمنطق الفعل وردّ الفعل لأنّ هذا يؤدّي إلي التباس في المفاهيم، وتخبّط في المواقف،وأخطاء في القرارات تجعل المناخ العام أکثر ملاءمة لروح الفتنة. وقد أشار الإمام إلي ذلک بقوله: «وتثبّتوا في قتام العشوة...».

3- حين يتهيّأ المناخ الملائم نتيجة للعاملين الآنفي الذّکر تبدأ الفتنة بظواهر انحرافية بسيطة وهيّنة، يقابلها المجتمع بوجه عام، ونخبته السّياسيّة والفکريّة بوجه خاص، بالتّسامح واللامبالاة، وهذا ما يوفّر لهذه الظّواهر الإنحرافية مناخ الأمان وفرص الإتساع والنّمو. وهذا ما عبّر عنه الإمام بقوله: «تبدأ في مدارجَ خفيّة، وتؤول إلي فظاعة جليّة».

4- وعلي خلاف وضع الفتنة حين تبدأ خفيّة حيّة، تلوذ وراء المبرّرات وتغطي نفسها بشعارات خادعة، فإنّها حين تنمو وتتسع «وتؤول إلي فظاعة جليّة» يکون لها عنفوان وتسلّط وبطش، وتبدأ بطبع آثارها العميقة في بنية المجتمع، وهذا ما عبّر عنه الإمام بقوله: «شِبابها کشباب الغلام، وآثارها کآثار السِّلام».

5- بعد انتشار الفتنة، واتساع المساحات الّتي تستوعبها من فئات المجتمع، تکوّن قناعات تجعلها أشدّ رسوخاً في الذّهنيّة العامّة، وتغدو ثقافة شائعة ترتکز إليها السّلطة الّتي تقود حرکة الفتنة، وتوجّه المجتمع وفقاً لقوانينها، وهذا ما عبّر عنه الإمام بقوله: «يتوارثها الظلمة بالعهود، أوّلهم قائد لآخرهم، وآخرهم مقتد بأوّلهم...».

6- ولکن الوضع السّياسي لقادة الفتنة- بعد انتشارها، وتأصّلها في بنية المجتمع- لا يبقي موحداً ومتلاحماً، وإنّما تبرز التّناقضات والسّمات الشّخصية لکلّ فئة، والمطامع والمخاوف الخاصّة بکلّ جماعة. وحينئذٍ تنقسم قيادة الفتنة إلي فئات متخاصمة متناحرة، وتجرّ المجتمع وراءها إلي التّخاصم والتّناحر والحروب الأهليّة، وهذا ما عبّر عنه الإمام بقوله: «... وعن قليل يتبرّأ التّابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء، ويتلاعنون عند اللّقاء».

وهذا نص يصرّح فيه الإمام لأصحابه بما ينتظرهم من الفتنة وويلاتها من بعده، محملاً إيّاهم مسؤوليّة نشوء الفتنة وانتشارها وما يترتّب علي ذلک من شرور، لأنّهم کانوا سلبيّين أمام مظاهر تسرّب روح الفتنة إلي مجتمعهم السّياسي وبنيتهم الثّقافيّة، وهذا ما وفّر للفتنة أجواء النّموّ والإنتشار، وکانوا متخاذلين، مهملين لواجبهم، لم يتحمّلوا مسؤوليّتهم في نصرة قضيتهم، وحماية نظامهم الشّرعي العادل: «أيُّها النَّاسُ، لو لم تتخاذلُوا عن نصرِ الحقِّ، ولم تهِنُوا عن توهينِ الباطِلِ، لم يطمع فيکُم من ليس مِثلکُم، ولم يقوَ مَن قويَ عليکُم. لکِنَّکُم تهتُم متاه بني إسرائيلَ، ولعمري ليُضعَّفنَّ لکُمُ التِّيهُ مِن بعدي أضعافاً، بِما خلَّفتُمُ الحقَّ وراء ظُهُورِکُم، وقطعتُمُ الأدني ووصلتُمُ الأبعدَ...»[51] .

ج- ما موقف المسلم من الفتنة حين تبدأ؟

ما موقف المسلم من الفتنة حين يذّر قرنها؟

في الفتنة- کما رأينا- يختلط الحّق بالباطل، ويلتبس الصّواب بالخطأ، فلا يتميّز أحدهما من الآخر.

وفي هذه الحالة يکون الموقف الأسلم والأوفق بالشرع هو الإبتعاد عن الفتنة والإمتناع عن المشارکة مع هذا الطرف أو ذاک، إذ لا يأمن المشارک من أن يقع في الباطل وهو يري أنّه ينصر الحق، أو يحارب الحق وهو يري أنّه يحارب الباطل.

وهذا هو الموقف الّذي نصح الإمام بالتزامه حين تقع الفتنة، ويلتبس فيها الحقّ بالباطل، فقد قال: «کُن في الفِتنَة کابنِ اللَّبُونِ. لا ظهر فيُرکبَ، ولا ضرع فيُحلبَ».[52] .

ولکن هذا الموقف يکون صواباً حين لا يکون الإمام العادل موجوداً، ولا يتاح للمسلم أن يتبيّن الحقّ من الباطل في الأحداث والمواقف الّتي تجري أمامه، أمّا حين يکون الإمام العادل موجوداً، ويتّخذ من الفتنة موقفاً، فإنّ علي المسلم أن ينسجم في مواقفه مع مواقف الإمام العادل، وليس له أن يبقي علي السّلبيّة متذرّعاً بأنّه يخشي الوقوع في الباطل، وإنّما يکون موقفه هذا، في هذه الحالة، جبناً وخذلاناً للحقّ، بل إنّه يکون، من بعض الوجوه، خيانة ومساهمة في الفتنة، لأنّه بسلبيّته غير المبرّرة قد يضلّل آخرين يجدون في سلبيّته تبريراً لمواقفهم.

وقد واجه الإمام أثناء فترة حکمه العاصفة مثل هذه المواقف الجبانة السلبيّة الخائنة من قبل بعض القيادات في مجتمعه تجاه الفتنة الّتي أثارتها قوي الثّورة المضادّة، فقال مرّة يخاطب النّاس: «أيُّها النَّاسُ، ألقُوا هذِهِ الأزِمَّة[53] الَّتِي تحمِلُ ظُهُورُها الأثقالَ مِن أيدِيکُم، ولا تصدَّعُوا[54] علي سُلطانِکُم، فتذُمُّوا غِبَّ فِعالِکُم[55] ولا تقتحِمُوا ما استقبلتُم مِن فور نارِ الفِتنةِ،[56] وأميطُوا عن سننِهَا[57] وخلُّوا قصد السّبِيلِ لها،[58] فقد لعمري يهلِکُ في لهبها المُؤُمِنُ، ويسلمُ فيها غيرُ المُسلِمِ.»

«إنَّما مَثَلِي بينکُم کمثلِ السِّراجِ في الظُّلمةِ، يستضِي ءُ بهِ مَنْ ولجهَا...».[59] .

فالإمام هنا ينهي جمهوره عن المشارکة في الفتنة ولکنّه لا يقرّهم علي الموقف السّلبي منها، وإنّما يأمرهم بالتّصدّي لها.

إنّ المشارکة فيها تعني التآمر معها، والسّلبيّة أمامها تعني عدم التّصدّي لها، وکلاهما خطأ. الموقف السّليم هو مواجهتها مع الإمام الحاکم العادل، لأنّ الحقّ- بوجوده- بيّن ظاهر، فهو الهادي، وهو الدّليل الّذي لا يضلّل، وهو «السّراج في الظّلمة»، ظلمة الفتنة، وکلّ ظلمة.

وقد حدث أنّ بعض المسلمين في بدايات خلافة أميرالمؤمنين عليّ التبس عليهم الأمر في الفتنة الّتي أثارها خروج طلحة والزّبير، وعصيان معاوية نتيجة لموقف أبي موسي الأشعري الّذي قال للنّاس في الکوفة حين دعوا إلي قمع عصيان طلحة والزّبير: إنّ الموقف موقف فتنة، وأنّ الموقف السّليم منها هو الإمتناع عن المشارکة فيها.

وقد أوضح الإمام إذ ذاک أنّ الموقف من الفتنة الّتي يلتبس فيها الحقّ بالباطل هو هذا، ولکنّ الأمر يختلف حين يتّضح جانب الحقّ بوجود الإمام العادل أو بأيّة وسيلة أخري، فإنّ السّلبيّة في هذه الحالة تکون خيانة.

ومن هنا فقد سمّي الإمام خروج طلحة والزّبير فتنة، ودعا الناس إلي مواجهتها وقمعها، لأنّ وجه الحقّ فيها بيّن، فقد کتب إلي أهل الکوفة عند مسيره إلي البصرة: «... واعلمُوا أنَّ دارَ الهِجرة[60] قد قلعت بِأهلِها وقلعوا بِها،[61] وجاشت جيش المِرجلِ،[62] وقامتِ الفِتنةُ علي القُطبِ،[63] فأسرِعُوا إلي أميرِکُم، وبادِرُوا جِهادَ عدُوِّکُم».[64] .

د- موقف الإمام عليّ من فتنة عصره

ما دور الإمام عليّ، وما موقفه من الفتنة الّتي عصفت بالمجتمع الإسلامي في عهده؟.

نظرة إلي التاريخ السّياسي والفکري للإسلام تکشف بوضوح عن أنّ الإمام عليّاً کان المنقذ الأکبر للإسلام من التّشوّه والمسخ بالفتنة الّتي عصفت رياحها المجنونة بالمسلمين منذ النّصف الثاني من خلافة عثمان.

ولو لا توجيه عليّ الفکري، ومواقفه السّياسيّة، ومواجهته العسکريّة للفتنة في شتّي مظاهرها الفکريّة والسّياسيّة والعسکريّة لَتشوّه الإسلام، وانمسخ، وتقلّص. ولکنّ الإمام عليّاً، بموقفه الواضح الصّريح الرّافض لأيّة مساومة، کان المنقذ الّذي کشف الفتنة ودعاتها، ووضع المسلمين جميعاً أمام الخيار الکبير: مع الفتنة أو ضدّها؟.

ولا يهمّ بعد ذلک أنّ الفتنة حازت إلي جانبها جمهوراً کبيراً من النّاس، المهم أنّها افتضحت، وبافتضاحها سلم الإسلام من التّشوّه ومن خطر التّزوير، وکان علي الّذين انحرفوا أن يجدوا لأنفسهم مبرّرات.

وقد کان توقع نشوء الفتنة، والخوف منها ومن أفاعليها وعواقبها، هاجساً عامّاً عند المسلمين. يکشف عن ذلک السّؤال عنها، وعن الموقف الصّواب منها، وکثرة حديث الإمام عن أخطارها وملابساتها.

وقد کان الإمام عليّ بروحانيّته العالية السّامية، وإسلاميّته الصّلبة الصّافية، وروحه الرّساليّة الّتي تفوّق بها علي جميع معاصريه، وحکمته وشجاعته، وسيرة حياته الناصعة الّتي ابتدأت بالإسلام... کان هو الرّجل الوحيد المرصود لمواجهة الفتنة، وإنقاذ الإسلام منها.

لقد أعلمه رسول اللّه (ص) بذلک، وأدرک هو دوره من خلال رصده لحرکة المجتمع التّاريخيّة.

وهذا نصّ عظيم الأهمّيّة يکشف لنا عن الدّور المرصود للإمام عليّ في مواجهة الفتنة، يتضمن الرّؤية النّبويّة لمستقبل الحرکة التّاريخيّة من جهة، والرّؤية النّبويّة لدور الإمام عليّ في هذه الحرکة.

وقد أورد الشّريف الرّضي هذا النّصّ، کما أورده ابن أبي الحديد في شرحه )107:105-9) برواية الشّريف وبرواية أخري أکثر بسطاً. ويبدو أنّ الرّواية الأخري تقريريّة حدّث بها الإمام، ورواية الشّريف خطابيّة، جاءت جواباً منه علي سؤال، فقد قام إليه رجل- وهو يخطب- فقال: يا أميرالمؤمنين: أخبرنا عن الفتنة، وهل سألت رسول اللّه (ص) عنها؟ فقال عليه السّلام: «إنَّهُ لَما أنزلَ اللّه سُبحانهُ قولَهُ (الم. أحَسِب النَّاسُ أن يُترکُوا أن يقُولوا آمنّا وهم لا يُفتنُون)[65] علِمتُ أنَّ الفِتنة لا تنزِلُ بِنا ورسُولُ اللّه (ص) بين أظهُرِنا. فقُلتُ: يا رسُول اللّهِ ما هذهِ الفِتنةُ الَّتِي أخبرَک اللّه تعالي بِها؟ فقال: (يا علِيُّ، إنّ أُمَّتي سيُفتنُون من بعدِي)، فقُلتُ: يا رسُولَ اللّه، أوَ لَيْسَ قد قلتَ لي يوم أُحُدٍ حيثُ استُشهِدَ من استُشهِدَ من المُسلمِين، وحيزَت[66] غنِّي الشَّهادةُ، فشقَّ ذلک عليَّ، فقُلتَ لي: (أبشِر، فإنَّ الشَّهادةَ مِن ورائکَ) فقال لِي: (إنَّ ذلِک لکذلِک، فکيف صبرُک إذن؟) فقُلتُ: يا رسُول اللّه: ليس هذا مِن مواطِنِ الصَّبرِ، ولکِن مِن مواطِنِ البُشري والشُّکرِ. وقال: (يا عليُّ، إنَّ القومَ سيُفتنُون بِأموالِهِم، ويمُنُّون بدينِهِم علي ربِّهِم، ويتمنَّون رحمتهُ، ويأمنُون سطوتهُ، ويستحِلُّون حرامهُ بِالشُّبُهاتِ الکاذبِةِ، والأهواءِ السَّاهيةِ، فيستحِلُّون الخمرَ بالنَّبيذِ، والسُّحتَ بالهديَّةِ، والرِّبا بالبيعِ) قُلتُ: يا رسُول اللّه: فبأيِّ المنازِلِ أُنزِلُهُم عندَ ذلِک؟ أبمنزلَةِ رِدَّةٍ أم بمنزلَةِ فِتنةٍ؟ فقالَ: (بِمنزِلَة فِتنةٍ)».[67] .

وإذن، فقد کان الإمام مرصوداً لمواجهة الفتنة وفضحها.

لقد کان منقذ الإسلام بعد رسول اللّه (ص) من التّزييف والتّحريف، فحقّق بمواجهته للفتنة صيغة الإسلام الصّافي، في المعتقد والفکر والتّشريع والعمل، وغدت الفتنة أزمة في داخل الإسلام، ولم تفلح في أن تکون هي الإسلام.

وقد عبّر الإمام في أکثر من مقام عن دوره العظيم الفريد في التاريخ، من حيث کونه القيادي الوحيد الّذي استطاع أن يواجه الفتنة ويفضحها، فقال ممّا قال: «... فإنِّي فقأتُ عين الفِتنةِ،[68] ولم يکُن ليجترئ عليها أحد غيري، بعدَ أن ماج غيهبُها[69] واشتدَّ کلبُها».[70] .

لقد حدثت داخل الإسلام فتن کثيرة، ولکن أعظم هذه الفتن خطورة وأشدّها تخريباً فتنة بني أميّة الّتي عصفت رياحها السّوداء الشّرّيرة المجتمع الإسلامي منذ النّصف الثّاني من عهد عثمان، وتعاظمت خطورتها بعد مقتله. واستغرقت مواجهتها الفکريّة والسّياسيّة والعسکريّة معظم جهود أميرالمؤمنين عليّ في السّنين الأخيرة من حياته.

وقد کان الإمام يغتنم کل فرصة سانحة ليحدّث مجتمعه عن هذه الفتنة، ويبيّن له أخطارها الآنية والمستقبليّة من أجل إيجاد المناعة النّفسية منها، والوعي العقلي لأخطارها، والعزم العملي علي مواجهتها وقمعها، والتّصميم علي رفضها حتّي بعد انتصارها.

قال عليه السّلام، «إنَّ الفِتنَ إذا أقبلت شبَّهت،[71] وإذا أدبرت نبَّهت، يُنکرن مُقبِلاتٍ، ويُعرفن مُدبِراتٍ، يحُمنَ حوم الرِّياحِ، يُصِبن بلداً، ويُخطِئن بلداً. ألا وإن أخوف الفِتنِ عندي عليکُم فِتنةُ بني أُميَّة، فإنَّها فتنة عمياءُ مُظلِمة، عمَّت خُطَّتُها[72] وخصَّت بليَّتُها، وأصاب البلاءُ من أبصرَ فيها، وأخطأ البلاءُ من عمِي عنها».[73] .

فَهي فتنة عمّت بليتها لأنّ روّادها الحکام أنفسهم، ومن ثمّ فشرورها السّياسيّة والفکريّة تشمل المجتمع کلّه.

وهي فتنة خصّت بليتها لأنّ أعنف ضرباتها ستوجّه إلي الصّفوة المؤمنة الواعية الّتي بقيت سليمة من داء الفتنة، ووضعت نفسها في مواقع کفاح الفتنة الغالبة.

والمسؤوليّة في هذه الفتنة ملقاة علي المبصرين فيها، الّذين يعرفونها ويعرفون وجه الحقّ ويجبنون عن مواجهتها، أو يتواطؤون، ضد الحق، معها.

أمّا من عمي عنها، وجهل أبعادها وأخطارها فهو معذور بجهله.







  1. سورة الأنفال (مدنية-8) الآية:28 ووردت آية أخري مماثلة في سورة التّغابن-مدنيّة-64 الآية: 15.
  2. سورة العنکبوت (مکيّة-29) الآية:3-2.
  3. نهج البلاغة- باب الحکم- رقم النّص:93.
  4. انجذم: انقطع.
  5. السّواري: جمع سارية، وهي الدّعامة.
  6. النّجر: الأصل.
  7. درست: انطمست.
  8. عفت شرکه: عفت: انمحت، وشرکه جمع شراک: الطّريق.
  9. المناهل: جمع منهل، هو مورد النّهر.
  10. الخف للبعير: والظلف للبقر والشّاء: کالقدم للإنسان.
  11. السّنابک جمع سنبک: طرف الحافر.
  12. نهج البلاغة، الخطبة رقم: 2.
  13. تساور النّاس: قام بعضهم إلي بعض ليتقاتلوا.
  14. تراجع سيرة ابن هشام بتحقيق مصطفي السّقا ورفيقيه (الطّبعة الثّانية 1375) هجري 1955 م/ القسم الثّاني- ص:307-289.
  15. سقيفة بني ساعدة، مکان مسقوف بسعف النّخل في المدينة (يثرب)، وکانت مجمع الأنصار بعد الإسلام، ودار ندوتهم لفصل القضايا وإجراء المناورات.
  16. يراجع للمؤلف: نظام الحکم والإدارة في الإسلام. کما يراجع للمؤلف أيضاً: ثورة الحسين- ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة (الطبعة الخامسة) الفصل الأوّل.
  17. ممّا يوحي بشعور الجميع آنذاک بخطورة الإجراء الّذي اتّخذوه واشتماله علي درجة کبيرة من المغامرة قول الخليفة عمر بن الخطّاب في خلافته في تحذير غير مباشر وجّهه إلي طلحة والزّبير وغيرهما لما نمي إليه عنهم من آراء تتصل بطريقة انتقال السّلطة علي الأسلوب الّذي تمّ في السّقيفة (کانت بيعة أبي بکر فلتة وقي اللّه شرّها).
  18. أمسکت يدي: توقّفت عن المشارکة في الموقف الرّاهن.
  19. راجعة الناس: الرّاجعون عن الإسلام، المرتدّون.
  20. ثلماً: خرقاً وانتهاکاً.
  21. زاح: ذهب وزال.
  22. زهق: مات، يعني هنا: زال الباطل تماماً.
  23. تنهنه: انتعش.
  24. نهج البلاغة، باب الکتب، رقم النّصّ:62.
  25. عرّج عن الطّريق: تنحّي عنها. يعني تنحّوا عن الأسلوب الجاهلي في الصّراع السّياسي وهو المنافرة والمفاخرة.
  26. الآجن: الماء الّذي تغيّر لونه وفسدت رائحته ولم يعد صالحاً للشرب، يعني بذلک الأسلوب السّياسي الجاهلي.
  27. الإيناع: النّضج والصّلاحيّة للأکل.
  28. نهج البلاغة، الخطبة رقم: 5.
  29. المرتاد: الطّالب.
  30. اللّبس: الملابسة والمخاطبة.
  31. الضّغث من الحشيش القبضة منه. يعني يخلط شي ء من الحقّ بشي ء من الباطل فيشتبه أمرهما وتحصل الفتنة.
  32. سورة الأنبياء (مکيّة-21) الآية 101.
  33. نهج البلاغة- الخطبة رقم:50.
  34. البوائق: جمع بائقة، وهي الواهية، والمصيبة الکبيرة.
  35. القتام: الغبار، العشوة الظلام. يعني أنّ الموقف الآتي شديد الإلتباس لأنّه مظلم في نفسه ويثور مع ذلک حوله الغبار. ويعني بذلک الفتنة الآتية.
  36. شباب الغلام: فتوته وعنفوانه، والفتنة تبدأ هکذا ذات عنفوان.
  37. السّلام الحجارة الصّمّ، وأثرها في الأبدان الجرح والکسر.
  38. مريحة: منتنة.
  39. يتزايلون: يتفارقون وينفصل بعضهم عن بعض.
  40. نهج البلاغة، الخطبة رقم:151.
  41. أجلب عنه: أعان عليه.
  42. علي حد شوکتهم: الشّوکة الشّدّة، أي لم يضعف هيجانهم.
  43. التفّت... انضمّت إليهم واختلطت بهم.
  44. وهم خلالکم... أي بينکم.
  45. يسومونکم.. يکلفونکم بما يريدون من الأفعال والمواقف.
  46. مادّة: مدداً وأنصاراً.
  47. تقع القلوب مواقعها: تهدأ وتستقر بعد اضطرابها بسبب هيجان الفتنة.
  48. مسمحة: أي سهلة ميسّرة وهذا حين تهدأ العواطف، ويثوب النّاس إلي المنطق والقانون.
  49. المنّة: القوّة والقدرة، ينهاهم عن الأعمال المرتجلة المتسرّعة الّتي تسبّب انشقاقاً وتمزّقاً في المجتمع يضعفه ويوهن قوته.
  50. نهج البلاغة، الخطبة رقم:168.
  51. نهج البلاغة- الخطبة رقم:166 ويومئ في الجملة الأخيرة إلي أنّهم اتصّلوا بمعاوية وتخلّوا عن الحاکم الشّرعي.
  52. نهج البلاغة- باب الحکم- رقم 1. وابن اللّبون هو ابن النّاقة إذا کمل له سنتان. وهو في هذه الحالة لا ينفع للرّکوب لأنّه لا يقوي علي حمل الأثقال، وليس له ضرع ليحلب، کنّي الإمام بذلک عن أنّ الإنسان الواعي في الفتنة يقف علي الحياد فلا يکون ذا نفع لأيّ طرف من أطرافها.
  53. الأزمّة، جمع زمام، کنّي عن قضايا الفتنة بالنياق الّتي يمسک أصحابها بأزّمتها، وهي تحمل علي ظهورها الأثقال. يقول لهم: اترکوا قفا الفتنةِ ولا تخوضُوا فِيها لِتخلصُوا مِن آثارِها.
  54. لا تصدّعوا: لا تتفرقوا عن الحاکم الشّرعي.
  55. غِبَ فعالکم: عواقبها.
  56. فور النّار: تعاظمها وارتفاع لهبها.
  57. أماط: نحّي وأزال. والسّنن: الطّريق. يعني تنحّوا عن طريق الفتنة وابتعدوا.
  58. قصد السّبيل: الطّريق. أي اترکوا الفتنة تسير في طريقها ولا تشترکوا فيها.
  59. نهج البلاغة، الخطبة رقم:187.
  60. دار الهجرة: هي المدينة المنوّرة.
  61. قلع المکان بأهله: نبذهم وطردهم. وقلع فلان بمکانه: نبذه وابتعد عنه.
  62. جاشت: اضطربت، والمرجل: القدر: يعني أنّ دار الهجرة قد اضطربت بأهلها بسبب الفتنة الّتي نشبت فيها وانطلقت منها.
  63. قامت الفتنة علي القطب: وجدت من يوجّهها ويرعاها ويغذيها بالأفکار والقوي، فاشتدت وعظم خطرها.
  64. نهج البلاغة- باب الکتب- الکتاب رقم1.
  65. سورة العنکبوت (مکيّة-29) الآية: 1 و2.
  66. جاز عنه الشّي ء: أبعده عنه.
  67. نهج البلاغة، الخطبة رقم:156.
  68. فقأت عين الفتنة: تغلّبت عليها.
  69. الغيهب: الظّلمة. يعني أنِّي واجهتها في عنفوانها وقوتها.
  70. الکلب: داء معروف يصيب الکلاب. يعني أنّه واجهها وهي في هذه الحالة عن الأذي والشّرّ الشّديدَين. والخطبة في نهج البلاغة، رقم:93.
  71. شبّهت: اشتبه فيها الحقّ بالباطل، وإذا أدبرت وخلص النّاس منها تميّز حقّها من باطلها.
  72. عمّت خطتها: يعني أنَّها فتنة غالبة تصيب ببلائها أهل الحقّ.
  73. نهج البلاغة: الخطبة رقم: 93.