حركة التاريخ في مظهر التّفاعل الإجتماعي الثّوري











حرکة التاريخ في مظهر التّفاعل الإجتماعي الثّوري



البشر يتحرکون دائماً في الزّمان والمکان: يبدعون، ويتواصلون بالتّجارة والصداقة تارةً، وبالعداوة والحرب تارةً، وبالفکر دائماً.

ويتعاملون مع الطّبيعة دائماً. يکيّفونها ويتکيّفون معها، ويحبّونها ويهربون منها في بعض الأحيان.

وهم يواجهون الإخفاق وخيبات الأمل في حالات، ويسعدون بنشوة النصر في حالات أخري. ويشلّهم اليأس عن الحرکة في بعض الحالات، ولکن سرعان ما يؤجّح الأمل في التّقدم والمستقبل الأفضل في قلوبهم جذوة الرغبة في التغيير فيعودون إلي الحرکة من جديد.

وهکذا يصنع البشر تاريخهم باستمرار. ينسجونه خيطاً فخيطاً، ويبنونه ذرّةً فذرَّةً من ملايين الآمال الصّغيرة، والمخاوف الصّغيرة، والأحقاد الصّغيرة، والشّهوات الصّغيرة، الّتي تنکر لهم کلّها وتتراکم فتتکوّن منها عجينة التاريخ.

ولکنها لن تکون تاريخاً ما لم تأخذ قواماً معيناً وما لم تتشکل بهيئة معينة...ما لم تتضمن فکرة تغيير، وروح تغيير، وعزيمة تغيير، تجعل من آحاد الآمال والمخاوف والأحقاد والشّهوات التي تبلغ الملايين شيئاً واحداً کبيراً تنبض فيه روح واحدة تلفّ بوهجها کلّ المجتمع والجماعة، وتدفع بهم- لا في طريق الحرکات الأحاديّة المبعثرة- في طريق حرکة متدفقة هادرة، تحدوها رؤيا واحدة أو رؤي متقاربة تلتقي علي التّغيير. حينئذٍ تنشط حرکة التّاريخ الّتي کانت هادئة أو أمينة، وتتعاظم، وتلد الأحداث الکبيرة، وتدخل المجتمع والجماعة في منعطف من التاريخ جديد.

قد يتمّ هذا التّفاعل في حال السّلم والإستقرار الإجتماعي فتکون الفترة الزّمنية الّتي يستغرقها التّغيير- بعد فترة الإعداد والإختمار- طويلة نسبيّاً، لأنّ التّغيير التّاريخي يتم في هذه الحالة وفقاً لمعادلات السّلم والإستقرار الّتي تجعل الإنسان أکثر أناة وتؤدة في حرکته، وأکثر قدرة علي الإختيار.

وقد يتمّ هذا التّفاعل في حال الغليان الإجتماعي والقلق العام. في هذا الحال تنشأ ظاهرتان: الأولي- ظاهرة رفض وتمرّد في الجماهير، يغذيها ويؤججها اليأس من العدالة الرّسمية، وينعشها الأمل في مستقبل أفضل لهذه الجماهير يتوصل إليه دعاة التّغيير.

الثّانية- تقابل الأولي وتتولّد منها، وهي إجراءات القمع التي تلجأ إليها السّلطة الرسميّة من أجل أن تضمن سيادة وثبات نظامها وقيمها.

إنّ هذا القمع يعزز روح اليأس والغضب، ويدفع إلي مزيد من التّمرّد والرّفض، ويرصّ- بدرجة أعلي من الصّلابة والتّماسک- ملايين الآمال والمخاوف والأحقاد والشّهوات، ويؤجج روح الغضب، ويدفع الجماهير، أکثر فأکثر، نحو العنف باتجاه التغيير.

في هذه الحالة تقصر نسبياً، الفترة الحاسمة الّتي يستغرقها التّغيير- بعد فترة الإعداد والإختمار-.. إنّ الأحداث تتسارع، ويتعاظم حجمها، وتتسع مساحة الفئات الإجتماعية الّتي تشارک فيها، وتتصاعد إلي أن تبلغ الذّروة الّتي ينهار عندها العهد التّاريخي الّذي کان سائداً، ويدخل المجتمع في منعطف من تاريخه جديد.

إذن البشر لا يتوقفون عن صنع التأريخ، لکنّهم قد يصنعون تاريخهم في حال السّلم، وقد يصنعونه في حال الغليان والتّوتّر الإجتماعي، کما قد يصنعونه بالحرب.

وقد لاحظ الإمام علي عليه السّلام حرکة التّاريخ في مظهرها الثّاني لأنّ الظّروف السّائدة في مجتمعه کانت تدفع بهذا المجتمع نحو هذا المسار الدّامي في مواجهة مستقبله المکفهر، الحافل بالأنواء.

لقد تسببت أخطاء الحکم في عهد الخليفة عثمان بن عفان في خيبة آمال فئات واسعة من المسلمين وغضبها. کما تسبّبت- إلي جانب ذلک- في انبعاث کثير من القيم والأخلاق والمطامح الجاهليّة الّتي نَشطت للعمل من خلال ممثليها ورموزها في قمة السّلطة في مجالات السّياسة والإقتصاد والإجتماع. وقد أدّي انبعاث هذه القيم الجاهليّة إلي تعارض في المصالح بين ممثلي هذه القيم وبين أکثرية المسلمين الّذين کانت تغتذي نفوسهم بالآمال الّتي تولدها قيم الإسلام في العدالة الخالصة والمساواة... هذا التعارض المأساوي الّذي ما فتئت تغذيه أخطاء الحکم وسياسات الرّموز الجاهلية العائدة، فتعمّقه، وتزيده حدّة، وتدفع به إلي مزيد من الإتساع والإنتشار.

وقد تراکم کلّ ذلک علي مدي سنين، واتسع إلي أن شمل حواضر الدّولة کلّها. وأدي في النّهاية إلي عاقبته الوخيمة وثمرته المرّة: ثورة شارک فيها الأغنياء والفقراء، السّاخطون بلا حقد والحاقدون من علية القوم. وأدّت الثورة إلي مقتل الخليفة عثمان، وإلي دخول المسلمين في منعطف من تاريخهم جديد طلبوا من علي بن أبي طالب أن يقودهم فيه، ولکنّه رفض طلبهم، لأنّه أدرک- وهو الراعي للتاريخ وأفاعليه وآلية حرکته- أن حجم الحاجات الّتي يفتقر إليها النّاس والآمال الّتي تعمر قلوبهم أکبر بکثير من حجم الإمکانات الّتي توفرها مؤسسات الدّولة، وأن حجم المعوّقات الّتي يمثّلها رموز العهد الماضي وقواه الّتي شلّتها الثورة فاضطرت إلي الإنکماش... حجم هذه المعوّقات کبير وخطير، لأنّها مستشرية في جميع مراکز السّلطة، وقد قال لهم معلناً رفضه: «دعُوني والتمِسُوا غيري، فإنَّا مُستقبِلُون أمراً لهُ وجوه وألوان، لا تقُوم لهُ القُلُوبُ، ولا تثبُتُ عليهِ العُقُولُ.[1] وإنّ الآفاق قد أغامت،[2] والمحجَّة قد تنکَّرت.[3] واعلموا أني إن أجبتُکُم رکِبتُ بِکُم ما أعلمُ، ولم أُصغِ إلي قولِ القائلِ وعتبِ العاتبِ، وإن ترکتُمُوني فأنا کأحدِکُم، ولعلِّي أسمعُکُم وأطوعُکُم لِمن ولَّيتُمُوهُ أمرکُم، وأنا لکُم وزيراً، خير لکُم منّي أميراً».[4] .

وقد ذکّر الإمام، فيما بعد، بموقفه هذا في مناسبات کثيرة، منها قوله في کلام له عند خروج طلحة والزّبير عليه: «فأقبلتُم إليَّ إقبال العُوذ المطافيلِ علي أولادِها،[5] تقُولُون: البيعة البيعة!! قبضتُ کفِّي فبسطتُمُوها، ونازعتکُم يدي فجاذبتُمُوها.»[6] .

ومنها قوله لطلحة والزّبير أيضاً: «واللّه ما کانت لي في الخِلافةِ رغبة، ولا في الولايةِ إربة،[7] ولکِنَّکُم دعوتُمُوني إليها، وحملتُمُوني عليها...».[8] .

وقال في موقف آخر: «... وبسطتُم يدي فکففتُها، ومددتُمُوها فقبضتُها. ثُمَّ تداکُکتُم عليَّ[9] تَداکَّ الإبلِ الهيم[10] علي حِياضِها يوم وردِها، حتَّي انقطعتِ النَّعلُ، وسقط الرِّداءُ، ووُطئ الضَّعِيفُ، وبلغَ مِن سُرُور النَّاسِ ببيعتهم إيَّاي أن ابتهج بها الصَّغيرُ، وهدج إليها الکبيرُ،[11] وتحامل نحوها العليلُ، وحسرت[12] إليها الکِعابُ».[13] .

لماذا أبي عليّ بن أبي طالب أن يستجيب...؟ لعلّه کان يأمل أن يمرّ المجتمع- بعد ما أصاب علاقاته من اهتزاز وتشويه في العهد الماضي- في مرحلة انتقال يقوده فيها رجال لا تتألّب عليهم مراکز القوي الجديدة الّتي تمثّل قيم الجاهليّة...

ولکنّ تيّار الرّغبة کان عارماً، کما تعکسه لنا النّصوص الآنفة الذّکر، ولم يکن من الممکن تحويل ولاء الجماهير وثقتها إلي بديل. لقد کان الرّفض يعني الکارثة، لأنّ القوي الجاهليّة کانت قادرة- إذا استمر الفراغ في السّلطة- أن تعود من جديد بعد أن تکتّل قواها المبعثرة، وحينئذٍ يحرم المجتمع الإسلامي حتّي من تجربة تکون في المستقبل نموذجاً وملهماً...

ولا نعدم في نهج البلاغة نصوصاً تضي ء هذه المسألة، وتوحي بقوّة أنّ الإمام کان يفکر علي هذا النّحو، وذلک کقوله في کلام له عنونه الشّريف الرّضي ب «... يبيّن سبب طلبه الحکم ويصف الإمام الحق»: «... اللّهُمَّ إنَّک تعلمُ أنّهُ لم يکُنِ الذّي کان مِنّا مُنافسةً في سُلطانٍ، ولا التِماس شي ءٍ مِن فُضُول الحُطامِ، ولکن لنردَ المعالمَ من دينک ونُظهر الإصلاح في بلادک، فيأمنَ المظلُومُون مِن عبادِک، وتُقام المُعطَّلةُ من حُدُودک».[14] .

وقوله في کتاب منه إلي أهل مصر مع مالک الأشتر لمّا ولاه إمارتها: «... ولکننَّي آسي[15] أن يلي[16] أمر هذهِ الأمّةِ سُفهاؤُها وفُجَّارُها،فيتّخِذُوا مال اللّه دُولاً وعِبادَهُ خولاً[17] والصّالحينَ حرباً،[18] والفاسقينَ حزباً...».[19] .

وهکذا استجاب عليّ بن أبي طالب للرّغبات الملحّة المتلهفة، فقبل کارهاً- علي ما يبدو- أن يتولّي السّلطة ويقود الأمّة. وقد تبلورت وتحددت باستجابته وتولّيه للسّلطة ثلاث قوي سياسيّة- فکريّة، هي:

النّهج الإسلامي الصّافي النّبوي تمثّله السّلطة الشرعيّة (الخلافة) وعلي رأسها أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع).

والهدف الآني المباشر والملحّ لهذا النهج کان تصحيح الأوضاع السّياسيّة والإداريّة والإقتصاديّة في المجتمع الإسلامي الّذي يتطلّع بلهفة إلي تغييرات تحقق آماله. کما کان هذا الهدف يستبطن هدفاً آخر هو إعادة الإعتبار النّظري والعملي للمفاهيم والقيم الإسلامية.

2- النهج الجاهلي المموّه بالإسلام: وقد کان هذا النّهج يتمتع بسلطة واسعة وثابتة في المنطقة السّوريّة. وکانت له جيوب في الحجاز، والعراق، ومصر، وغيرها من بلاد الإسلام.

وقد بدا منذ اللّحظة الأولي أنّ قائد هذا النّهج هو معاوية بن أبي سفيان، والهدف الآني والنّهائي لهذا النّهج هو تثبيت الأوضاع القديمة، وإجهاض النّهج النّبوي أو قمعه بإثارة المشاکل والفتن في وجهه.

إنّه الثّورة المضادّة. إنّه قطع الطّريق علي حرکة التغيير... وقد عبّر الإمام عن قادة هذا النّهج بأنهم «أرادُوا ردَّ الأمورِ علي أدبارِها» وذلک في کلام له عن أصحاب الجمل: «إنَّ هؤُلاءِ قد تمالأوا[20] علي سخطةِ[21] إمارتي، وسأصبِرُ ما لم أخف علي جماعتِکُم، فإنَّهُم إن تمّمُوا علي فيالةِ[22] هذا الرَّأي انقطع نِظامُ المُسلمِين، وإنَّما طلبُوا هذهِ الدُّنيا حسداً لِمن أفاءها[23] اللّه عليهِ، فأرادُوا ردَّ الأُمُورِ علي أدبارِها. ولکُم علينا العملُ بکتابِ اللّه، تعالي، وسِيرةِ رسُولِ اللّه (ص)، والقيامُ بِحقِّهِ، والنَّعشُ[24] لِسُنَّتهِ».[25] .

3- الموقف المتردد الحائر- إِذا صح أن يسمي التّردد موقفاً-

وتمثّل هذا الموقف بعض القيادات الثّانويّة: (سعد بن أبي وقاص، عبداللّه بن عمر.. وآخرون).

هذا النّهج لم يبلغ من الصفاء والوعي درجة تحمله علي أن ينضوي في النّهج النبوي وکانت مصالح رجاله من جهة وأثارة من التّقوي في أنفس بعضهم من جهة أخري، قد حملتا هؤلاء الرّجال علي التزام جانب الحيطة والحذر من النهج الجاهلي فلم ينحازوا إليه في هذه المرحلة، وإن کان بعضهم قد والي النّهج في النّهاية.

هؤلاء قال عنهم الإمام (ع): «خذلُوا الحقَّ، ولم ينصُروا الباطِلَ».[26] .

ولما قال له الحارث بن حوط: أتُرانِي أظُنّ أصحابَ الجملِ کانُوا علي ضلالة؟ قال لهُ الإمامُ: «يا حارِث إنَّک نظرت تحتک ولم تنظُر فوقک فحِرت،[27] إنّک لم تعرِفِ الحقَّ فتعرِف من أتاهُ، ولم تعرِفِ الباطِلَ فتعرِفَ من أتاهُ».

فقال لَه الحارثُ بنُ حَوط: فإنّي أعتزلُ مع سعيدِ بن مالِک وعبداللّه بن عُمرَ... فأجابه الإمامُ قائلاً: «إنَّ سعيداً وعبداللهِ بن عُمر لم ينصُروا الحقَّ، ولم يخذُلا الباطِلَ».[28] .

وکان بعض ممثلي هذا الموقف يتمتعون باحترام محدود في قواعدهم القبليّة، وهذا الإحترام لم ينبع من ولاء فکري بل من ولاء قبلي، کما کانوا يتمتعون باحترام محدود من جماهير المسلمين نابع من صحبتهم للنّبيّ (ص) ومن غموض موقفهم من الخيارات المطروحة علي السّاحة السّياسيّة.

وقد أدرک الإمام منذ اللّحظة الأولي صعوبة موقفه، فکشف للأمّة عن أنّ حرکة التّاريخ قد عادت ذات نبض جاهلي، فقد عاد التاريخ السابق علي النّبوة.. کما صارح الأمة بأنّ المواجهة مع القيم البائدة العائدة تقتضي الحکم بأن يکون قويّاً وصارماً... کما صارحهم بأنّ الآمال في تغيير سريع وکامل نحو الأفضل ينبغي أن تتضامن قليلاً ليتاح للسّلطة الشّرعيّة أن تواجه قوي الجاهلية بمرونة.

هذه الرّؤية السّياسيّة عبّر عنها الإمام في خطبة خطبها في أوّل خلافته، في المدينة، أو هي- حسب رواية الجاحظ في کتابه «البيان والتّبيين» عن أبي عبيدة معمر بن المثني- أوّل خطبة خطبها بالمدينة، قال فيها حسب رواية الجاحظ عن أبي عبيدة: «ألا لا يرعينَّ مُرعٍ علي نفسهِ[29] شُغِلَ منِ الجنَّةُ والنَّارُ أمامهُ. ساعٍ مُجتهِد ينجُو، وطالِب يرجُو، ومُقصِّر في النَّار...»

اليمينُ والشِّمالُ مضلَّة، والوُسطي الجادَّةُ[30] منهج عليهِ باقي الکِتابِ والسُّنَّةِ وآثارِ النبُّوةِ. إن اللّه داوي هذهِ الأُمّةَ بدوائينِ: السوط والسَّيف، لا هوادةَ[31] عندَ الإمامِ فيهما. استتِروا في بُيُوتِکُم[32] وأصلِحُوا ذات بينِکُم، والتَّوبةُ من ورائکُم. من أبدي صفحتهُ لِلحقِّ هلکَ...[33] انظُرُوا: فإن أنکرتُم فانکرُوا، وإن عرفتُم فآزرِرُوا... وقلَّما أدبر شي ء فأقبلَ. ولئن رُجِعت إليکُم أمُورُکُم إنّکم لسُعداءُ وإنّي لأخشي أن تکُونُوا في فترةٍ، وما علينا إلا الإجتهادُ...».[34] .

حذّرهم، أوّلا، من إثارة القلاقل والإضطربات.

ثم أثار في عقولهم وقلوبهم عقيدة البعث واليوم الآخر.

ثم بيّن لهم أن الإنحراف عن منهج الکتاب والسّنة إلي اليمين أو إلي الشمال يؤدّي بصاحبه إلي الضّلال والتّيه، ولذا فإنّ نبض الجاهلية العائد ضلال.

ثم کشف لهم عن أنّ المرحلة تقتضي الحکم أن يکون صارماً (السّوط والسّيف)، ولذا،فإنّ علي النّاس ألا يخوضوا في أيّ شأن يزيد الوضع سوءاً بإثارة العصبيّات القبليّة والنّزعات العشائريّة، داعياً إيّاهم إلي أن يکفّوا ويتوبوا عمّا سلف منهم من إفساد.

ثمّ أعطاهم حق الرّقابة، وطالبهم بحقه في تأييدهم ومؤازرتهم.

ثم أبدي تشاؤمه من المستقبل وشکّه في عودة النهج النّبوي إلي سابق قوّته (قلَّما أدبرَ شي ء فأقبل)، ولکنه، مع ذلک، لم يفقد الأمل في تحسن الأوضاع، ( لئن رُجعت إليکُم أُمُورُکم إنَّکُم لسُعداء).

ثمّ حذرهم من أنّ علي الآمال المشرقة في التغيير نحو الأحسن... نحو النّهج النّبوي الصافي، أن تضامن نفسها، وأن يعود أصحابها إلي شي ء من الواقعّية في تطلعاتهم: «... وإنّي لأخشي أن تکُونُوا في فترةٍ».

قال ابن أبي الحديد في شرح هذه الفترة: «الفترة هي الأزمنة الّتي بين الأنبياء إذا انقطعت الرّسل فيها، کالفترة بين عيسي عليه السّلام ومحمّد صلّي اللّه عليه وآله، لأنّه لم يکن بينهما نبي، بخلاف المدّة الّتي کانت بين موسي وعيسي عليهماالسّلام لأنّه بعث فيها أنبياء کثيرون. فيقول عليه السّلام: إني لأخشي ألا أتمکن من الحکم بکتاب اللّه تعالي فيکم، فتکونواکالأمم الّذين في أزمنة الفترة لا يرجعون إلي نبي يشافههم بالشّرائع والأحکام. وکأنّه عليه السّلام کان يعلم أنّ الأمر سيضطرب عليه.

«ثمّ قال: (وَما علينا إلا الإجتهادُ) يقول: أنا أعمل ما يجب عليّ من الإجتهاد في القيام بالشريعة وعزل ولاة السوء وأمراء الفساد عن المسلمين، فإن تم ما اُريده فذاک، وإلا کنت قد أعذرت».[35] .

إنّ الإمام عليه السّلام قبل الحکم، إذن، بمزيج من التّشاؤم والأمل، ولکن سرعان ما تسرّب الذّبول إلي شعلة الأمل، فإنّ القوي المترددة سرعان ما أخذت تنحاز رويداً رويداً نحو المعسکر المناهض للنَّهج النّبوي، إن لم يکن في العلن ففي السّر... هذا من جهة، ومن جهة أخري راحت الجماهير الغاضبة، المترعة قلوبها بآمال التّغيير تضغط في سبيل التّغيير دون أن تقدّر ظروف المرحلة. وکان اتباع سياسة متوازنة ضرورة حيويّة لئلا ينفجر المجتمع من الدّاخل بانحياز قوي موالية للنّهج النّبوي، ولکنها غير واعية وغير ناضجة، نحو معسکر الثّورة المضادّة.

وهکذا، فبعد الصّدمة الّتي شلّت قوي الثّورة المضادّة، وبعد فترة الإنتظار الّتي مرّت بها الفئات الأخري من الأمّة، تفجّر الموقف من جديد، وعاد الغليان إلي المجتمع، وعادت حالة الإختلاط والإضطراب المحمومة.

وظهرت للإمام عليّ في هذه المرحلة الّتي بلغت فيها أزمة الحکم وأزمة الفکر الذّروة- ظهرت له بوضوح تام موجع ومدم للقلب معالم تاريخ المستقبل للأمّة الإسلاميّة حافلاً بالأهوال والمآسي، وبکلّ ما فيه من ظلام ودماء، وتمزقات وانهيارات، تتخللها هنا وهناک، في بعض الأحيان، لمعات نور وحالات سلام عارضة، وآمال مضيئة ملهمة، وخيبات أمل قاسية.

لقد رأي، رأي بحدس يضيئه نور نبويّ، وعقل مستوعب لحرکة التاريخ وآليتها الّتي تکاد أن تکون رياضيّة- رأي الفتنة آتية بکلّ ظلامها، وحيلها، وتلبيسها الحق بالباطل.

ورأي بعدها انتصار حرکة الرّدة بقيمها الجاهليّة، بلبسها للإسلام (لبس الفرو مقلوباً).

ورأي بعد ذلک معاناة الأمة: فسمع بقلبه الکبير أنين المظلومين الّذين تسحقهم أنيابها الوحشية، ورأي بقلبه الکبير نزيف الدّماء من ضحاياها، وأحسّ بأعمق أعماق کرامته الإنسانية ذلّ الإنسان المسلم في مجتمع الرّدة، وبکي بحرارة ومرارة لکلّ ما سيصيب الناس بعده.

ورأي بعد ذلک نار الثّورة تحرق کلّ شي ء، وتهدم کلّ شي ء، تستلهم حقّ الناس ومرارتهم... ولکنها ثورة تقع في أخطاء الفتنة في أحيان، وفي مهاوي الرّدة في أحيان، وقلّما تهتدي الطّريق الوسطي...

ورأي أخيراً، في البعيد البعيد... بعد طول عذاب وعناء، نور الأمل الآتي في النّهاية... نور الخلاص.







  1. لا تقوم له القلوب: لا تجرئ عليه. لا تثبت عليه العقول: لا تکاد تفهمه وتحققه، يومئ بذلک إلي المشکلات الإجتماعية والأزمات الّتي عصفت بالمجتمع کلّه.
  2. أغامت: حجبها الغيم، کناية عن صعوبة إيجاد الحلول المقبولة من الجميع.
  3. المحجّة: الطّريقة الواضحة- وتنکرت: التبس أمرها علي النّاس.
  4. نهج البلاغة-رقم النّص: 92.
  5. العوذ المطافيل: الإبل والضّباء ذات الأولاد، وهي جمع عائذة، ومطفل کناية عن اللّهفة الّتي توجهوا بها إليه طالبين منه قبول بيعتهم،کما اللّهفة الّتي تقبل بها أمّ الطّفل علي ولدها.
  6. نهج البلاغة- رقم النّص:137.
  7. الإربة: الغرض والرّغبة.
  8. نهج البلاغة- رقم النّص: 205.
  9. التّداک الإزدحام- تصوير لحالهم في الإقبال علي البيعة.
  10. الهيم: العطاش: تصوير لرغبتهم العارمة في إنجاز البيعة.
  11. الهدج: مشي الضّعيف. بيان لإقبال الجميع علي البيعة، حتّي أولئک الذين لهم من سنهم العالية أو مرضهم عذر يعفيهم من مشقة التّزاحم علي البيعة.
  12. الکعاب: جمع کاعبة: الفتاة ينهد ثدياها. وحسرت کشفت عن وجهها کناية عن إقبال النّاس جميعاً وفرحتهم بالبيعة.
  13. نهج البلاغة- رقم النّص: 229.
  14. نهج البلاغة- رقم النّص:131.
  15. آسي: أحزن- الماضي منه: أسيت بمعني حزنت.
  16. يلي: يکون والياً وحاکماً علي الأُمة.
  17. خولاً: عبيد، يعني لئلا يستعبدوا النّاس ويذلّوهم.
  18. حرباً- أعداء يحاربونهم.
  19. نهج البلاغة- باب الکتب- رقم النّصّ: 62.
  20. تمالأوا: تواطأوا واتفقوا وتعاونوا.
  21. السّخطة: البغض والنّعرة.
  22. فيالة الرّأي: ضعفه وسخفه.
  23. أفاءها اللّه.. أرجعها إليه، من فاء بمعني رجع.
  24. النّعش، من نعش ينعش: بمعني رفع السّنة إلي مقام العمل والتّطبيق.
  25. .نهج البلاغة- رقم النّص: 169.
  26. نهج البلاغة- باب الحکم- رقم: 18.
  27. حِرتَ: من «حار» أي تحيّر.
  28. نهج البلاغة- باب الحکم- رقم: 262.
  29. لا يرعين.. أي لا يبقين، أرعيت عليه أي أبقيت: يقول: من سالم وهدأ فإنّما سلّم نفسه وأبقي عليها.
  30. الجادّة: الطريق المستقيمة الواضحة.
  31. الهوادة: الرفق والصلح، وأصله اللّين.
  32. استتروا في بيوتکم: لا يريد منع التّجول کما يقولون في أيّامنا، وإنّما يريد النّهي عن التّجمعات ذات الطابع التّحزبي القبائلي الّتي تدفع إليها العصبية القبلية کما إِنّه لا ينهاهم عن النقد السّياسي لأنه قال (فإن أنکرتم فانِکروا).
  33. الصّفحة: جانب الوجه، أو هي الوجه. يريد الإمام أنّ من تعرّض للحق بمخالفته وتجاوزه يهلک، لأنّه سيعاقب.
  34. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 1: 276-275 ورواها الشّريف الرّضي في نهج البلاغة بتغيير بعض العبارات، انظر الخطبة رقم: 176 «ومن خطبة له عليه السّلام في الشّهادة والتّقوي» وقيل: إنّه خطبها بعد مقتل عثمان في أوّل خلافته.
  35. المصدر السابق:281:1.