التاريخ في مجال السّياسة











التاريخ في مجال السّياسة



تمهيد

السّياسة لدي رجل العقيدة ورجل الدّولة الحاکم القائد- وهو ما کانه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب- أداة للتّغلّب علي سلبيات الماضي والحاضر من أجل التّوصل إلي أوضاع حياتية أفضل في المستقبل لأکبر قدر من النّاس.

والسّياسة، في الوقت نفسه، أداة للمحافظة علي إيجابيّات الماضي والحاضر أمام عواصف التغيير والتقلّبات المفاجئة التي قد تحمل للمجتمع السّياسي في ثناياها نذر کارثة.

السّياسة، إذن، ليست فنّ التغيير فقط، إنّها فنّ الثّبات أيضاً.

إنّ السّياسي الأمين علي قضية مجتمعه، يعيش في أبعاد الزّمان کلّها- ماضيه وحاضره ومستقبله- ويتعامل مع حقائق الماضي، وواقع الحاضر، وآمال ومخاوف ومطامح المستقبل، يقود، بحذر لا يبلغ الجمود ومغامرة لا تبلغ التّهوّر، مجتمعه نحو آفاق جديدة دون أن يبتر استمراريّته وبعده في الماضي.

نقول هذا في مواجهة دعاة التغيير منا في عصرنا هذا، التغيير الّذي يستهدف استئصال جذورنا لقذفنا في الفراغ تحت شعار: ريادة المستقبل، جاعلين منا ساحة لتجربة النّظريات والأفکار الّتي توضع في مراکز الحضارة الحديثة في أوربّا وأمريکا والإتحاد السّوفياتي.

نقول هذا داعين إلي إعادة النّظرة في هذا النهج لمصلحة نهج آخر أقلّ غلوّاً، وأکثر واقعية، وأوثق صلة بتکويننا العقيدي والحضاري والثّقافي، وأشدّ مواءمة لمصالحنا في الحاضر والمستقبل، وأوفق بدورنا الّذي نطمح إلي استعادته لنساهم به في إنقاذ الإنسان الحديث بتقويم الحضارة الحديثة، وتصحيح مسارها نحو وضعيّة ملائمة لتکوين الإنسان.

لقد کانت سياسة أميرالمؤمنين علي (ع)- کما سنري وجوهاً منها في الفصول التالية.. محکومة بهاجس واحد کبير ونبيل: تکوين الإنسان المسلم المتکامل القوي السّعيد، والمجتمع المسلم المتکامل القوي السّعيد، الإنسان والمجتمع المؤهلين ليکونا قوة خيّرة في العالم، يمثلان طموح الإنسانيّة الدّائم المتوهج نحو مثل أعلي.

وقد کانت، لذلک سياسة لا تستمد مقوّماتها من الحفاظ علي الذّات وعلي مصالح الحاکم وأُسرته، فلقد کانت أُسرة أميرالمؤمنين علي أکثر النّاس حرماناً من خيرات حکمه، وکان هو عليه السّلام أکثر حرماناً من أسرته.

وکانت سياسته تستضي ء بنور الفکر، وتستهدي تعليم اللّه، وتنفلق من قيم الأخلاق والمناقب الّتي تشرّف الإنسان، ولذا فقد کانت سياسة الإمام إنسانية بکلّ ما لهذه الکلمة من محتوي.

لم تکن أبداً سياسة الأفعال وردود الأفعال، وحسابات الأرباح والخسائر للحاکم وآله وبطانته... هذه السّياسة التي تحمل روح الطيش والغريزة، وتوجّه بعقليّة مزيج من روح الغاية وروح التّجارة.

وقد کان أميرالمؤمنين علي في سياسته أميناً لعقيدته، أميناً لشريعته، فلا ينحرف عنهما أبداً، ولا يتجاوزهما- کما لا يقصّر عنهما- في أمر من الأمور أو في حالة من الحالات.

أميناً لأخلاقيّاته القرآنيّة- النّبويّة، ولذا فقد جعل من العمل السّياسي ممارسة رفيعة للمناقب، أميناً لمجتمعه، فيشرکه في اتخاذ القرارات بعد أن يبصّره بعواقب سوء الإختيار: «... ولقد أصبحنا في زمانٍ قد اتخذَ أکثرُ أهلِهِ الغدر کَيساً[1] ونسبهُم أهلُ الجهلِ فيهِ إلي حُسنِ الحِيلةِ. ما لهُم! قاتَلهُمُ اللّه! قد يري الحُوَّلُ القُلَّب[2] وجه الحِيلةِ ودُونها مانِع من أمرِ اللّه ونهيهِ، فيدعُها رأي عينٍ بعد القُدرةِ عليها، وينتهزُ فُرصتها من لا حريجة[3] لهُ في الدِّينِ».[4] .

وقال في موقف آخر: «واللّه ما مُعاويةُ بِأدهي مِنَّي، ولکُنَّهُ يغدِرُ ويفجُرُ. ولولا کراهِيةُ الغدرِ لکُنتُ مِن أدهي النّاسِ. ولکِن کُلُّ غُدرةٍ فُجّرة، وکُلُّ فُجّرَةٍ کُفرة «وِلِکُلِّ غادرٍ لِواء يُعرفُ به يوم القيامةِ»[5] واللّه ما أُستغفلُ بالمکيدَةِ، ولا اُستغمَزُ[6] بالشَّديدةِ».[7] .

وبعد هذا التمهيد، کيف تعامل أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب مع التّاريخ في مجال تعليمه السّياسي.







  1. الکيس: الفطنة والذّکاء.
  2. الحوّل القلّب: هو البصير بتحويل الأمور وتقليبها.
  3. الحريجة: التحرج والتحرز من الآثام.
  4. نهج البلاغة- الخطبة رقم:41.
  5. حديث مروي عن النّبي (ص).
  6. لا أستغمز علي البناء للمجهول- لا يستضعفني الرّجل القوي. والغمز- بفتح الميم- الرّجل الضّعيف.
  7. نهج البلاغة- رقم النّص:200.