مصارع القرون عوامل انحطاط الأمم











مصارع القرون عوامل انحطاط الأمم



«مصارع القرون» تعبير استعمله الإمام في إحدي خطبه فقال «واعتَبِرُوا بِما قد رأيتُم مِن مصارِع القُرُونِ قبلَکُم».[1] ويريد به الأمم الماضية أو الأجيال الماضية، فالقرن في اللغة جماعة الناس في عصر واحد.[2] فالإمام في هذا التعبير يوجّه الأفکار نحو التأمل في مصائر الأمم والشعوب، وکيف ولماذا تضعف وتتفسخ ويصيبها الإنحطاط والتخلف؟.

ويتساءل الإمام في خطبة أخري- ربّما تکون آخر خطبة، أو في أواخر کلامه في حشد عام-[3] عن مصير الدّول والشّعوب القديمة، فيقول مخاطباً أصحابه: «... وإنَّ لکُم فِي القُرُونِ السّالِفةِ لعِبرةً، أين العمالِقةُ وأبناء العمالِقةِ؟ أين الفراعِنةُ وأبناءُ الفراعِنةِ؟ أين أصحابُ مدائنِ الرَّسِّ الّذين قتلُوا النَّبِيِّين، وأطفأُوا سُننَ المُرسلِين،[4] وأحيواسُننَ الجبَّارِينَ؟ أين الّذِينَ ساروا بِالجُيوشِ، وهزمُوا بِالالُوفِ، وعسکرُوا العساکِر، ومدَّنُوا المدائن؟».[5] .

لقد کان الوضع الذاخلي لمجتمع الإمام أثناء حکمه العاصف يقتضيه أن يستعين بالتاريخ ليواجه ما کان يتردّي فيه هذا المجتمع- في العراق بوجه خاص- من انقسامات قبلية، ومواقف عنصرية، وتسلط لرؤساء المجموعات القبلية علي قبائلهم، وافتتان کثير من النابهين في المجتمع والقياديين في المجموعات القبلية بالسخاء الّذي کانوا يتسامعون به عن معاوية بالنّسبة إلي أنصاره السياسيين... وکان يري ببصيرته النافذة أنّ هذه الطريق تؤدي بالمجتمع إلي الکارثة: ستنهکه النّزاعات الدّاخلية، وتخلخل بنيانه وتذهب بتماسکه، وتدفع بقياداته إلي خيانة مجتمعها والإرتماء في أحضان الحکم الأموي الإستبدادي في سوريا، وتفقد العراق دوره القيادي في دولة الخلافة، فتجعله تابعاً صغيراً للشام.

وکان الإمام علي يواجه هذا الخطر بشتي الأساليب، وعلي مختلف المستويات.

ومن الأساليب الّتي استعملها علي المستوي الشعبي أسلوب التنظير بالتاريخ لحال مجتمعه، عاملاً علي أن يکوّن لدي الناس العاديّين وعياً تاريخيّاً، ورؤيةً للحاضر واقعيةً تدرک ما فيه من خطورة وإحساساً بمخاطر الممارسات الّتي تسود المجتمع... کلّ ذلک لأجل أن يبعث في نفوسهم وعقولهم الحذر والتبصّر حين تعرض عليهم خيارات سبّبت للأمم الماضية نکبات أضعفتها أو حطمتها.

ومن الأمور الهامة الّتي يجب التّنبيه عليها أنّ الإمام في تصويره لانحطاط الأمم ومصارع القرون لا يردّ ذلک إلي أسباب غيبية، وإنّما يعرض أسباباً موضوعية لهذا الإنحطاط کما سنري.

وأفضل الأمثلة الّتي يحتويها نهج البلاغة في موضوعنا هو الخطبة المسماة «القاصعة»[6] وهو يعرض فيها الآفات الّتي تعرّض مجتمع العراق للخطر، ويذکر النظائر التاريخيّة لذلک عارضاً أسباب الإنحطاط.

عالج الإمام في هذه الخطبة آفة شديدة الخطورة کانت تتعاظم وتستفحل في مجتمع العراق في ذلک الحين. تلک هي آفة الصّراع الدّاخلي الّذي کان يمزق وحدة المجتمع العراقي ويشلّ فاعليته وينعکس بآثاره السّيئة وتفاعلاته المشؤومة علي سائر دولة الخلافة.

وقد کان هذا الصّراع يبدو للمراقب بوجوه متنوعة

1- الصّراع القبلي :

فقد نشطت الرّوح القبلية والقيم القبلية، وعادت إلي الظهور فارضة منطقها في رسم خريطة العلاقات الإجتماعية والسّياسيّة داخل المجتمع، وکان ظهور الرّوح القبلية نتيجة لجملة من الأخطاء الّتي ارتکبت في عهد إدارة الخليفة الثالث عثمان بن عفان. وکانت أخطاء في السّياسة، وفي الإدارة، وفي التنظيم الإقتصادي، وفي التّوجيه الثقافي العام.

ويبدو أنّ هذه الرّوح القبلية قد سبّبت تخريباً واسع النطاق داخل المجتمع العراقي، ونرجح أنّ معاوية بن أبي سفيان کان يستغلّها للإمعان في تصديع وحدة مجتمع العراق.

ويبدا أنّ هذه الرّوح القبلية الّتي کان يذکّيها أصحاب المصالح الخاصة قد أفلحت إلي حدّ بعيد في تمزيق وحدة المجتمع، وإشاعة روح الشکّ والضغينة بين فئاته السّياسيّة، وداخل کلّ فئة أيضاً. يصوّر لنا ذلک نصّ في إحدي خطب الإمام يحذّر ويؤنّب فيه مجتمعه، قال: «قدِ اصطلحتُم علي الغِلِّ فيما بينکُم[7] ونبت المرعي علي دِفِنکُم.[8] وتصافيتُم علي حُبِّ الآمالِ. وتعاديتُم فِي کسبِ الأموالِ. لقد استهام بِکُمُ الخبث،[9] وتاه بِکُمُ الغُرورُ،[10] واللهُ المُستعانُ علي نفسِي وأنفُسِکُم».[11] .

وقد روي ابن أبي الحديد في شرحه علي نهج البلاغة ما يصور التخريب والتمزيق اللّذين کانت تحدثهما هذه الرّوح القبلية، قال: «وقيل أنّ أصل هذه العصبية وهذه الخطبة أنّ أهل الکوفة کانوا قد فسدوا في آخر خلافة أميرالمؤمنين، وکانوا قبائل في الکوفة، فکان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة أخري، فينادي باسم قبيلته: يا للنّخع! مثلاً، أو يالکندة نداء عالياً يقصد به الفتنة وإثارة الشّر، فيتألّب عليه فتيان القبيلة الّتي مرّ عليها، فينادون: يالتميم! ويالربيعة! ويقبلون إلي ذلک الصائح فيضربونه، فيمضي إلي قبيلته فيستصرخها، فتسلّ السّيوف وتثور الفتن،ولا يکون لها أصل في الحقيقة إلا تعرّض الفتيان بعضهم ببعض».[12] .

وما لا يري ابن أبي الحديد له أصلاً نري له أصلاً في دسائس معاوية أو عملائه الّذين نقدّر أنَّهم يشجّعون أمثال هذه الممارسات القبليّة، ويمدّونها بمزيد من أسباب الإثارة والهياج ليزيدوا مجتمع العراق إنهاکاً وتمزّقاً. وکذلک نري لها أصلاً في سياسات رؤساء القبائل الّذين کان نهج عليّ السّياسيّ يهدّد سلطانهم ونفوذهم، فکانوا يشجّعون العامّة والبسطاء علي أمثال هذه الممارسات ليثبّتوا سلطانهم علي قبائلهم.

2- الصّراع العنصري :

لقد کان مجتمع العراق، کغيره من بلاد الإسلام في ذلک الحين، يضمّ مجموعات کبري من المسلمين غير العرب الّذين أدّي التّوسّع في الفتوح خارج شبه الجزيرة العربية إلي احتلال بلادهم في إيران ومستعمرات الإمبراطوريّة البيزنطيّة (مصر وسوريا، وغيرهما)، ومن ثم أدّي إلي دخول کثير منهم في الإسلام.

وقد کان هؤلاء- من الناحية النظرية- يتمتعون بحقوق مساوية لحقوق المسلمين العرب کما يتحملون واجبات مساوية. لقد ضمن لهم الإسلام مرکزاً حقوقياً مساوياً تماماً للمسلمين العرب، ولکنهم کانوا من الناحية الواقعية يعانون من التمييز العنصري بسبب انطلاق الرّوح القبلية والعصبية العربية.

وقد ألغي الإمام علي فور تسلّمه السلطة جميع مظاهر التّمييز العنصري والعصبية العنصرية الّتي کان يعاني منها، بشکل أو بآخر، المسلمون غير العرب.

وقد أثار ذلک ردود فعل سلبيّة عند زعماء القبائل، فاحتجوا علي التسوية في العطاء بينهم وبين الموالي (المسلمين غير العرب)، واندفعوا ينصحون الإمام عليّاً قائلين: «يا أميرالمؤمنين، أعطِ هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش علي الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من النّاس».[13] .

وکان هؤلاء ينظرون في نصيحتهم هذه وينطلقون في نظريتهم السّياسيّة هذه من التجربة الّتي کان يقوم بها معاوية بن أبي سفيان.

ولکنّ الإمام علياً کان ينطلق في ممارسته السّياسيّة من قاعدة أخري، فأجابهم قائلاً: «أتأمُرُونِّي أن أطلُب النَّصر بِالجورِ فِيمن وليتُ عليهِ؟!! واللهِ لا أطُورُ[14] بهِ ما سمر سمِير،[15] وما أمَّ نجم فِي السَّماء نجماً».[16] .

وتشتمل الخطبة القاصعة علي عدّة شواهد تدلّ علي أنّ ما کان يثير في نفس الإمام قلقاً عميقاً ليس الصّراع القبلي المستفحل وحده، بل الصّراع العنصري أيضاً.

هذا الصراع بوجهيه- القبليّ والعنصريّ- کان، بالإضافة إلي أنّه آفة في ذاته، يؤدّي إلي توليد آفات أخري:

1- يعمّق ويرسّخ الواقع الإجتماعي القبلي والتکوين الإجتماعي القبلي للمجتمع في الثقافة العامّة، والبنية النّفسية للفرد، وبذلک يحول دون تطوّر الترکيب الإجتماعي من طور القبلية الّتي تقسم المجتمع إلي وحدات تقوم علي علاقة الدّم إلي طور التّوحد علي أساس العقيدة والشّريعة والمؤسسات والمصالح المشترکة، وهو يؤدّي بالتّالي إلي أن يکون معوّقاً حضارياً أيضاً يجمّد المجتمع في حالة التخلف علي صعيد المؤسسات والإنجازات التنظيمية.

2- يزيد ويعزّز سلطة رؤساء القبائل علي قواعدهم القبلية، فيؤثر ذلک علي فاعلية أجهزة السّلطة المرکزية ويضعفها.

3- يؤثر علي تلاحم المجتمع- وهو في حالة حرب مع القوي الخارجة علي الشّرعية في الشام، ومع الخوارج.

4- يعزّز إمکانات تسلل معاوية بن أبي سفيان إلي داخل التکوينات السياسية في مجتمع العراق، وهي القبائل.

وننتقل الآن إلي عرض الشّواهد من الخطبة القاصعة.[17] .

بيّن الإمام أوّلاً أنّ الکبرياء من صفات اللّه تعالي. ومن ثمّ فليس للناس أن يتکبّر بعضهم علي بعض.

ثم عرض، ثانياً، لکبرياء أبليس، وتعصّبه ضدّ آدم مفتخراً بأصله، وذکّر بأن کبرياء إبليس کانت کارثة عليه إذ قضت علي منزلته العالية.

ثم قرن الإمام بين کبرياء إبليس وکبرياء البشر علي بعضهم، واعتبر المتکبرين أتباعاً لإبليس في هذا الخُلق الذميم: «صدَّقهُ بهِ أبناء الحمِيَّةِ،[18] وإخوانُ العصبيّةِ، وفرُسانُ الکِبرِ والجاهِليَّةِ، حتَّي إذا انقادت لهُ الجامِحَةُ مِنکُم،[19] واستحکمتِ الطَّماعِيّةُ مِنهُ فيکُم- فنجمتِ[20] الحالُ مِن السِّرِّ الخفِيِّ إلي الأمر الجلِيِّ- استفحل سُلطانُهُ عليکُم.[21] فأصبحتُم أعظم في دينِکُم حرجاً،[22] وأوروي فِي دُنياکُم قدحاً[23] مِن الّذين أصبحتُم لهُم مُناصِبينَ وعليهِم مُتألِّبينَ».

وهکذا بيّن لهم الإمام أن الشرّ والفساد النّاشئين عن العصبيّة، والصّراع النّاتج منها لا يقتصر تأثيرها علي الجانب الديني والإيماني فقط، وإنّما يتعدي ذلک إلي التّأثيرعلي الوضع الحياتي الدّنيوي، لهذه العصبيّة (أوري في دُنياکم قدحاً) من هؤلاء الّذين تخافون منهم علي امتيازاتکم المادّيّة فتتعصبون ضدّهم.

ثم أثار الإمام في أذهانهم ذکري تاريخية يعرفونها من القرآن، هي قصة ابني آدم: «ولا تکُونُوا کالمُتکبِّرِ علي ابنِ أمِّهِ من غيرِ ما فضلٍ جعلهُ اللهُ فيه سِوي ما ألحقتِ العظمةُ بِنفسِهِ مِن عداوةِ الحسدِ، وقدحتِ الحميّةُ في قلبه من نارِ الغضب،ونفخ الشيطانُ في أنفِهِ من ريحِ الکِبرِ الّذي أعقبهُ اللهُ بهِ النَّدامةَ، وألزمهُ آثام القاتِلين إلي يومِ القيامةِ».

ثم يعود الإمام إلي تأنيب سامعيه علي ما هم عليه من روح قبلية، وتعصب عنصري ذميم، مبيناً لهم أنّ هذه الآفة الخطيرة الوبيلة قد ابتليت بها الأمم الماضية وذاقت مرارتها: «ألا وقد أمعنتُم في البغي،[24] وأفسدتُم في الأرضِ، مُصارحةً للّه بالمُناصبةِ،[25] ومُبارزةً للِمؤمنينَ بِالمُحاربةِ (يقصد بالمؤمنين أولئک الّذين توجّه ضدهم العصبيّة) فاللّه اللّه في کِبرِ الحمِيَّةِ، وفخر الجاهليَّةِ، فإنَّه ملاقِحُ الشَّنآنِ[26] ومنافخُ الشيطانِ، الّتي خدعَ بِها الأُمم الماضِية والقُرُون الخالِية.[27] أمراً تشابهتِ القُلُوبُ فيه، وتتابعتِ القُرونُ عليهِ، وکِبراً تضايقتِ الصُّدُورُ بهِ».

ثم يوجّه الأنظار بصورة مباشرة إلي القيادات الّتي تغذّي هذه الآفة، وتؤجّج نارها وهم زعماء القبائل: «ألا فالحذر الحذر مِن طاعةِ ساداتِکُم، الّذين تکبَّرُوا عن حسبِهِم وترفَّعُوا فوق نسبِهِم... فإنَّهُم قواعِدُ أساسِ العصبِيَّةِ، ودعائمُ أرکانِ الفِتنةِ، وسُيُوف اعتِزاءِ[28] الجاهِلية. فاتقُوا اللّه ولا تکُونُوا لِنِعمِهِ عليکُم أضداداً، ولا لفضلِهِ عِندکُم حُسَّاداً، ولا تُطيعُوا الأدعياء الَّذِينَ شربتُم بصفوکُم کدرهُم،[29] وخلطتُم بصحَّتکُم مرضهُم، وأدخلتُم في حقِّکُم باطِلهُم، وهُم أساسُ الفُسُوقِ وأحلاسُ العُقُوقِ...».[30] .

ثم يعود الإمام إلي التنظير بالتاريخ، مذکّراً بالنهايات الفاجعة للأُمم والشعوب الّتي فتکت بها آفة التّعصب والتّناحر، مقابلاً ذلک بالنهج النبوي الإنساني البعيد عن الکبر: «فاعتبِرُوا بِما أصابَ الأُمم المُستکبِرين مِن قبِلکُم مِن بأسِ اللّهِ وصولاتِهِ، ووقائعِهِ ومثُلاتِهِ واتّعِظُوا بِمثاوي خُدُودهِمِ ومصارع جُنُبوبِهِم... فلو رخَّص اللّه في الکِبر لأحدٍ مِن عِبادِهِ لرخّص فيه لِخاصَّةِ أنبيائهِ...ولقد دخل مُوسي بنُ عِمران ومعهُ أخُوهُ هارُون- عليهِماالسّلام- علي فِرعون وعليهِما مدارعُ الصُّوفِ،[31] وبِأيديهِما العِصِيُّ، فشرطا لهُ- إن أسلم- بقاءَ مُلکِهِ، ودوام عِزّهِ، فقالَ: (ألا تعجبُون مِن هذينِ يشرِطانِ لي دوامَ العِزِّ وبقاء المُلکِ، وهُما بِما ترونَ مِن حالِ الفقرِ والذُّلِ)».

ويستمرّ الإمام في التّنظير التّاريخيّ، داعياً مستمعيه إلي فحص المواقف التاريخيّة الّتي مرّت علي الأمم السّابقة، وتجنّب الإختيارات والتّجارب الّتي أدّت إلي الإنحطاط والإنهيار، واختيار المسلکيّة الّتي ثبت بالتّجربة صلاحها: «... واحذرُوا ما نزلَ بِالاُممِ قبلکُم مِن المثُلاتِ بِسُوءِ الأفعالِ وذميمِ الأعمال. فتذکّرُوا في الخير والشَّرِّ أحوالهُم، واحذرُوا أن تُکُونُوا أمثالهُم. فإذا تفکَّرتُم في تفاوُتِ حاليِهم، فالزمُوا کُلَّ أمرٍ لزِمتِ العِزَّةُ بهِ شأنهُم، وزاحتِ الأعداءُ لهُ عنهُم.[32] ومُدَّتِ العافيةُ بهِ عليهِم، وانقادتِ النعمةُ لهُ معهُم، ووصلَتِ الکرامةُ عليهِ حبلهُم، مِن الإجتنابِ لِلفُرقةِ، واللُّزُوم للأُلفةِ، والتَّحاضِّ عليها،[33] والتَّواصي بِها. «واجتنبُوا کُلَّ أمرٍ کسر فِقرتهُم،[34] وأوهنَ مِنّتهُم[35] مِن تضاغُن القُلوبِ،[36] وتشاحُن الصُّدورِ، وتدابُرِ النُّفُوسِ وتخاذُلِ الأيدي...».[37] .

ويستمر الإمام في تنظيره التاريخي بتقديم أمثلة محددة من حياة الإسرائيليين والعرب، بعدما کان في تنظيره السّابق يذکر الأمم بشکل عام، دون أن يخصّ بالذّکر أمة بعينها: «... وتدبَّرُوا أحوال الماضِين مِن المُؤمِنينَ قبلکُم: کيف کانُوا في حالِ التّمحِيص[38] والبلاءِ. ألم يکُونُوا أثقلَ الخلائقِ أعباءً، وأجهد العِبادِ بلاءً[39] وأضيق أهلِ الدُّنيا حالاً. اتخذتهُم الفراعِنةُ عبيداً فسامُوهُم سُوء العذابِ، وجرَّعُوهُمُ المُرار،[40] فلم تبرحِ الحالُ بِهم في ذُلِّ الهلکةِ وقهرِ الغلبةِ... حتَّي إذا رأي اللّه سُبحانهُ جدّ الصَّبر منهُم علي الأذي في محبَّتهِ،[41] والإحتمالَ للمکرُوه من خوفِهِ، جعلَ لهُم في مضايقِ البلاءِ فرجاً، فأبدَلهُمُ العِزَّ مکان الذُّلِّ، والأمنَ مکان الخوف، فصاروا مُلوکاً حُکّاماً، وأئمَّةً أعلاماً... فانظُرُوا کيفَ کانُوا حيثُ کانتِ الأَمْلاءُ مجتمِعةً،[42] والأهواء مُؤتلِفةً، والقُلُوبُ مُعتدِلةً، والأيدي مُترادفِةً،[43] والسُّيوفُ مُتناحِرةً، والبصائرُ نافِذةً،[44] والعزائمُ واحِدةً، ألم يکُونُوا أرباباً في أقطارِ الأرضين، ومُلُوکاً علي رِقابِ العالَمِينَ.»

فانظُرُوا إلي ما صارُوا إليه في آخرِ أمُورِهم، حين وقعتِ الفُرقَةُ وتشتَّتتِ الألفةُ، واختلفتِ الکلِمةُ والأفئدَةُ، وتشعَّبُوا مُختلِفين، وتفرَّقُوا مُتحارِبين، قد خلع اللّه عنهُم لِباس کرامتِهِ. وسلبهُم غضارَة نِعمتِهِ،[45] وبقي قصصُ أخبارِهِم فِيکُم عِبراً لِلمعُتبرين مِنکُم.

«فاعتبِروا بحالِ ولدِ إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل عليهِمُ السلامُ، فما أشدَّ اعتِدالَ الأحوالِ[46] وأقربَ اشتِباه الأمثالِ.»

«تأمَّلُوا أمرهُم فِي حالِ تشتُّتهِم وتفرُّقهم ليالِي کانت الأکاسرةُ والقياصِرةُ أرباباً لهُم. يختارُونهم عن ريفِ الآفاق،[47] وبحرِ العِراقِ[48] وخُضرةِ الدُّنيا، إلي منابتِ الشِّيح ومهافِي الرِّيح،[49] ونَکد المَعاشِ[50] فترکُوهُم عالةً مساکِينَ، إخوانَ دبرٍ ووبرِ،[51] أذلَّ الاممِ داراً، وأجدبهُم قراراً، لا يأووُن إلي جناحِ دعوةٍ يعتصِمُون بها، ولا إلي ظِلِّ ألفةٍ يعتمدُون علي عِزِّها، فالأحوالُ مُضطرِبة، والأيدي مُختلفة، والکثرةُ متفرقة، في بلاءِ أزلٍ[52] وأطباقِ جهلٍ،[53] من بناتٍ موؤودةٍ، وأصنام معبُودةٍ، وأرحامٍ مقطُوعة، وغاراتٍ مشنُونةٍ.»

«فانظُروا إلي مواقِعِ نعمِ اللهِ عليهِم حينَ بعثَ إليهِم رسُولاً، فعقدَ بمِلِّتهِ طاعتهُم، وجمع علي دعوتهِ أُلفتهُم کيف نشرتِ النِّعمةُ عليهم جناحَ کرامتِها، وأسالت لهُم جداول نعيمها. والتفَّتِ المِلَّةُ بهم في عوائد برکتِها، فأصبحُوا في نعمتها غرقين[54] وفي خُضرةِ عيشِها فکهين[55] قد تربَّعتِ الأمُورُ بهم[56] في ظلِّ سُلطانٍ قاهرٍ وآوتهُمُ الحالُ إلي کنفِ عزٍّ غالبٍ[57] وتعطَّفتِ الأمُورُ عليهم في ذُري ملکٍ ثابتٍ[58] فهُم حُکّام علي العالمين، ومُلُوک في أطرافِ الأرضين. يملِکُون الأمُور علي من کان يملِکُها عليهم، ويُمضُون الأحکام فيمن کان يُمضِيها فيهم، لا تُغمزُ لهم قناة، ولا تُقرعُ لهم صفاة...»[59] .

«وإنَّ عندکُمُ الأمثالُ من بأسِ اللّه وقوارعهِ، وأيَّامهِ ووقائعهِ،[60] فلا تستبطئُوا وعيدهُ جهلاً بِأخذهِ وتهاوُناً ببطشهِ، ويأساً من بأسِهِ فإنَّ اللّه سُبحانهُ لم يلعنِ القرن الماضي بين أيديکُم إلا لترکِهم الأمرَ بالمعرُوف والنّهي عن المُنکرِ، فلعن اللّه السُّفهاء لرُکُوب المعاصي، والحُلماءَ لترکِ التناهي».[61] .

5- المعروف والمنکر والأکثرية الصّامتة من فرائض الإسلام الکبري فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر.

وقد ورد تشريع هذه الفريضة في الکتاب الکريم والسّنّة الشّريفة في عدة نصوص دالّة علي وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر علي جميع المسلمين بنحو الواجب الکفائي.[62] .

کما وردت نصوص أخري کثيرة في الکتاب والسّنّة، منها ما يشتمل علي بيان الشّروط التي يتنجز بها وجوب هذه الفريضة علي المسلم. ومنها ما يضي ء الجوانب السّياسية والإجتماعية لهذه الفريضة، کما يوضح المبدأ الفکري الإسلامي العام الّذي ينبثق منه هذا التّشريع، دلّ علي وجوب هذه الفريضة من الکتاب الکريم قوله تعالي: «ولتکُن مِنکُم أُمَّة يدعُون إلي الخيرِ ويأمُرُون بِالمعرُوفِ وينهون عن المُنکرِ، أُولئک هُمُ المُفلحُون».[63] .

فقد دلّت هذه الآية علي وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر من جهة دلالة لام الأمر في «ولتکن» علي الوجوب.

کما أنّ ظاهرها أنّ الواجب هنا کفائي لا عيني، لأن مفاد الأمر تعلّق بأن تکون في المسلمين أُمّة تأمر وتنهي، لا بجميعهم علي نحو العينيّة الإستغراقيّة وعليه فإذا قامت جماعة منهم بهذا الواجب سقط الوجوب عن بقيّة المکلّفين کما هو الشّأن في الواجب الکفائي.


ولم يحدّد في القرآن والسّنّة عدد مخصوص لأفراد هذه الأمّة، فيراعي في عدد الأفراد القائمين بالواجب مقدار الوفاء بالحاجة.

وقد جعل اللّه تعالي في کتابه الکريم وعي هذه الفريضة، وأدائها حين يدعو وضع المجتمع إلي ذلک، من صفات المؤمنين الصّالحين، فقال تعالي: «والمُؤمِنُون والمُؤمِناتُ بعضُهُم أولياءُ بعضٍ يأمُرُون بِالمعرُوفِ، وينهون عن المُنکرِ، ويُقيمُون الصَّلاةَ وُيؤتُون الزَّکاة ويُطيعُون اللّه ورسُولهُ اُولئک سيرحمُهُمُ اللّه إن اللّه عزيز حکيم».[64] .

فقد دلّت الآية المبارکة علي تضامن المؤمنين بعضهم مع بعض في عمل الخير والبرّ والتقوي، وأنّهم جميعاً من جنود هذه الفريضة حين يدعوهم الواجب إليها.

وسياق الآية الکريمة دالّ علي وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر، من حيث أن بقيّة ما ورد في الآية کلّه من الواجبات المعلومة في الشريعة (الصّلاة، والزّکاة، وطاعة اللّه ورسوله)،[65] وإن لم تکن الدّلالة السّياقيّة من الدّلالات الّتي لها حجيّة في استظهار الأحکام الشّرعية.

وکما ورد مدح المؤمنين والمؤمنات- کأفراد- في الآية الآنفة، فقد ورد في آية أخري مدح المسلمين کافّة- کأمّة ومجتمع- من حيث وعيهم لهذه الفريضة وعملهم بها، وتلک هي قوله تعالي: «کُنتُم خير أُمَّةٍ أُخرِجت لِلناسِ تأمُرُون بِالمعرُوفِ وتنهون عن المُنکرِ، وتُؤمنُون بِاللّه».[66] .

وقد مدح اللّه في کتابه الکريم المسلمين من أهل الکتاب، أتباع الأنبياء السّابقين قبل بعثة النّبيّ محمّد (ص) بوعيهم لهذه الفريضة والعمل بها، ممّا يکشف عن أنّها فريضة عريقة في الإسلام منذ أقدم عصوره وصيغهِ، وأنّها قد کانت فريضة ثابتة في جميع مراحله التّشريعيّة الّتي جاء بها أنبياء اللّه تعالي جيلاً بعد جيل. قال تعالي: «ليسُوا سواءً مِن أهلِ الکتابِ أُمَّة قائمة يتلُون آياتِ اللهِ آناء الليلِ وهُم يسجُدُون. يُؤمنُون بِاللّه واليوم الآخرِ، ويأمُرُون بِالمعرُوف وينهون عن المُنکرِ، ويُسارعُون في الخيراتِ وأُولئک مِن الصّالحين».[67] .

وقد کان إحياء هذه الفريضة، وجعلها إحدي هواجس المجتمع من شواغل الإمام الدّائمة. وقد تناولها في خطبه وکلامه- کما تعکس لنا ذلک النّماذج الّتي اشتمل عليها نهج البلاغة- من زوايا کثيرة: تناولها کقضيّة فکريّة لا بدّ أن توعي لتغني الشّخصية الواعية، وباعتبارها قضية تشريعية تدعو الأمّة والأفراد إلي العمل.

ومن هذين المنظورين عالجها بعدة أساليب.

لقد أعطاها منزلة عظيمة، تستحقها بلا شک، بين سائر الفرائض الشرعيّة، فجعلها إحدي شعب الجهاد الأربع: «.. والجهادُ منها- من دعائمِ الإيمانِ- علي أربعِ شُعبٍ: علي الأمرِ بالمعرُوف والنَّهي عن المُنکرِ، والصِّدقِ في المواطن، وشنآن الفاسقينَ، فمن أمرَ بالمعرُوفِ شدَّ ظُهُور المؤمنين، ومن نهي عن المُنکرِ أرغم أنُوف الکافرين ومن صدق في المواطن قضي ما عليه، ومن شنِئ الفاسِقِين وغضِب للّه غضِب اللّهُ لهُ وأرضاهُ يوم القيامةِ».[68] .

وجعل الإمام هذه الفريضة، في کلام له آخر، تتقدم علي أعمال البرّ کلّها، فقال:«... وما أعمالُ البِرِّ کُلُّها، والجهادُ في سبيلِ اللّه عندَ الأمرِ بالمعرُوفِ والنَّهي عنِ المُنکرِ إلا کنفثةٍ[69] في بحرٍ لُجِّيٍّ...».[70] ومن السّهل علينا أن نفهم الوجه في تقدّم هذه الفريضة علي غيرها إذا لاحظنا أنّ أعمال البرّ تأتي في الرّتبة بعد استقامة المجتمع وصلاحه المبدئي- الشّرعي والأخلاقي- وأنّ الجهاد لا يکون ناجعاً إلا إذا قام به جيش عقائدي، وهذه کلّها تتفرع من الوعي المجتمعي للشريعة والأخلاق، ومن الحد الأدني للإلتزام المسلکي بهما.

في بعض کلماته بيّن الإمام جانباً من الأسباب الموجبة لهذا التّشريع، فقال: «فرضَ اللّهُ... والأمرَ بالمعرُوفِ مصلحةً للعوامِّ، والنَّهي عن المُنکرِ ردعاً للسُّفهاءِ».[71] .

فعامّة النّاس الّذين قد يقعون في إثم ترک الواجبات لأنّهم لا يعرفونها علي وجهها أو يجهلونها، يمکّنهم الأمر بالمعروف من التعلّم والتفقّه، بالإضافة إلي أولئک الّذين يقعون في إثم ترک الواجب وهم يعرفون الواجب والحرام حيث يردّهم الأمر بالمعروف إلي جادّة الصّواب والإستقامة، کما يرد إليها السّفهاء الّذين يتجاوزون في لهوهم وعبثهم حدود اللّه.

وللأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر مراتب متدرجة من الأدني إلي الأعلي، فهي فريضة مرنة تستجيب للحالات المتنوعة، وللأوضاء المختلفة. فربّ إنسان تنفع في ردعه الکلمة، وربّ إنسان لا ينفع في شأنه إلا العنف.

ولکلّ حالة طريقة أمرها ونهيها الّتي يقدّرها الآمر والنّاهي العارف، ويتصرّف بقدرها فلا يتجاوزها إلي ما فوقها حيث لا تدعو الحاجة إليه، ولا ينحطّ بها إلي ما دونها حيث لا يؤثّر ذلک في ردع السّفيه عن غيّه وحمله علي الإستقامة والصّلاح.

وثمّة حالات من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر لا بدّ فيها من القتال، وهذه حالات تحتاج إلي أن يقود عملية الأمر والنهي فيها الحاکم العادل. وفي هذه الحالات الخطيرة جدّاً لا يجوز لآحاد الناس أو جماعاتهم أن يقوموا بها دون قيادة حاکم شرعي عادل.

وإذا کانت مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر تتدرج صاعدة من الإنکار بالقلب إلي الإنکار باللّسان إلي الإنکار باليد، وللإنکار باللّسان درجات، وللإنکار باليد درجات...

وإذا کانت الحالات العادية للأمر والنّهي تتفاوت في خطورتها وأهميتها بما يستدعي هذه المرتبة من الإنکار أو تلک...

فإنّ الحالات الکبري الّتي لا بدّ فيها من تدخل الحاکم العادل والأمّة کلّها قد تبلغ درجة من الخطورة لا بدّ فيها من الإنکار بالقلب واللّسان وأقصي حالات الإنکار باليد- أعني القتال.

وهذا هو ما کان يواجهه المجتمع الإسلامي في عهد الإمام عليه السّلام، متمثلاً تارة في ناکثي البيعة الّذين خرجوا علي الشرعيّة واعتدوا علي مدينة البصرة، ولم تفلح دعوته لهم بالحسني في عودتهم إلي الطاعة واضطروه إلي أن يخوض ضدّهم معرکة الجمل في البصرة. أو المتمردين علي الشرعية في الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان الّذي رفض جميع الصيغ السّياسيّة الّتي عرضها عليه الإمام ليعود من خلالها إلي الشرعية. أو المارقين الخوارج علي الشّرعيّة والّذين رفضوا کلّ عروض السّلام الّتي قُدِّمت لهم، وأصروا علي الفتنة ومارسوا الإرهاب ضدّ الفلاحين والآمنين والأطفال والنّساء...

في هذه الحالات وأمثالها علي المسلم المستقيم أن يبرأ من الإنحراف في قلبه، وأن يدينه علناً بلسانه، وأن ينخرط في أيّ حرکة يقودها الحاکم العادل لتقويم الإنحراف بالقوة إذا اقتضي الأمر ذلک.

قال عليه السلام، فيما يبدو أنه تقسيم لمواقف النّاس الّذين کان يقودهم من المنکر المبدئي الخطير الّذي کان يهدّد المجتمع الإسلامي کلّه في استقراره، وتقدمه، ووحدة بنيه: «فمِنهُمُ المُنکرُ للمُنکرِ بيدِهِ ولسانهِ وقلبهِ، فذلک المُستکمِلُ لِخصالِ الخيرِ. ومنهُمُ المُنکِرُ بِلسانهِ وقلبهِ والتَّارکُ بيدهِ فَذلِکَ مُتمسِّک بخصلتين من خصالِ الخيرِ ومُضيع خصلةً، ومنهُم المُنکِرُ بقلبهِ والتَّارکُ بيدهِ ولسانهِ فذلِکَ الَّذي ضيَّع أشرفَ الخصْلَتين من الثَّلاثِ وتمسَّک بِواحدةٍ. ومنهُم تارک لإنکارِ المُنکرِ بلسانهِ وقلبهِ ويدهِ فذلِک ميِّتُ الأحياءِ».[72] .

ونلاحظ أنّ الإمام سمّي التّارک، في هذه الحالة الخطيرة، لجميع مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر «ميّت الأحياء» ونفهم صدي هذا الوصف إذا لاحظنا أنّ إنساناً لا يستشعر الأخطار المحدقة بمجتمعه، ولا يستجيب لها أيّ استجابة، حتي أقل الإستجابات شأناً وأهونها تأثيراً، وأقلها مؤونةً وهي الإنکار بالقلب الّذي يقتضيه مقاطعة المنکر واعتزال أهله- أنّ إنساناً کهذا بمنزلة الجثة الّتي لا تستجيب لأيّ مثير، لأنّها خالية من الحياة الّتي تشعر وتستجيب.

ويقول عبدالرحمان بن أبي ليلي الفقيه، وهو ممّن قاتل مع الإمام في صفّين، أنّ الإمام کان يقول لهم حين لقوا أهل الشّام: «أيُّها المؤمنُون. إنَّهُ من رأي عُدواناً يُعملُ بهِ، ومُنکراً يُدعي إليه فأنکرهُ بِقلبهِ فقد سلمَ وبَرئَ، ومن أنکرهُ بِلسانهِ فقد أُجِرَ، وهو أفضلُ من صاحبهِ. ومن أنکرهُ بالسَّيف لِتکُون کلِمةُ اللّه هي العُليا وکلِمةُ الظّالمين هي السُّفلي فذلک الّذي أصاب سبيل الهُدي وقام علي الطَّريقِ، ونوَّر في قلبِه اليقينُ».[73] .

ونلاحظ هنا أنّ الإمام وضع للإنکار بالسّيف- وهو أقصي مراتب الإنکار باليد- شرطاً، هو أن تکون الغاية منه إعلاء کلمة اللّه لا العصبيّة العائلية أو العنصريّة، ولا المصلحة الخاصة، والعاطفة الشّخصية. وهذا شرط في جميع أفعال الإنسان، وفي جميع مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر، إِلا أنّ الإمام عليه السّلام صرّح به في هذه المرتبة لخطورة الآثار المترتبة علي القيام بها من حيث أنّها قد تؤدّي إلي الجرح والقتل.

ويقدّر الإمام أنّ کثيراً من الناس يتخاذلون عن ممارسة هذا الواجب الکبير فلا يأمرون بالمعروف تارکه ولا ينهون عن المنکر فاعله بسبب ما يتوهمون من أداء ذلک إلي الإضرار بهم: أن يعرضوا حياتهم للخطر، أو يعرضوا علاقاتهم الإجتماعية للإهتزاز والقلق، أو يعرضوا مصادر عيشهم للإنقطاع... وما إلي ذلک من شؤون.

وقد لحظ الشارع هذه المخاوف، فجعل من شروط وجوب الأمر والنهي عن المنکر عدم ترتب ضرر معتدٍّ به علي الآمر والناهي.

ولکنّ کثيراً من الناس لا يريدون أن يمسّهم أيّ أذي أو کدر. وهذا موقف ذاتي وأناني شديد الغلوّ لا يمکن القبول به من إنسان يفترض فيه أنه ملتزم بقضايا مجتمعهِ کما هو شأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنکر. فهو إنسان يستبدّ به القلق لأيّ انحراف يراه، ويدفعه قلقه وأخلاقه إلي أن يتصدّي للإنحراف بالشّکل المناسب، وهو الّذي قال فيه الامام في النّص السّابق «المستکمل لخصال الخير».

لقد نبّه الإمام- في موضعين من نهج البلاغة علي أنّ التّخاذل عن الأمر والنهي خشية التعرض للأذي ناشئ عن أوهام ينبغي أن يتجاوزها المؤمن الملتزم بقضية مجتمعه، فلا يجعلها هاجسهُ الّذي يشلّه فيحول بينه وبين الحرکة المبارکة المثمرة، فقال الإمام فيما خاطب به أهل البصرة في إحدي خطبه، وقد کانوا بحاجة إلي هذا التّوجيه، لما شهدته مدينتهم، وتورّط فيه کثير منهم من فتنة الجمل: «وإنّ الأمرِ بالمعرُوفِ والنَّهي عنِ المُنکرِ لخُلُقان مِن خُلُق اللّه سُبحانهُ، وإنَّهُما لا يُقرِّبان مِن أجلٍ، ولا ينقصانِ مِن رزقٍ».[74] .

ونوجّه النظر إلي قوله عليه السّلام أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر خلقان من خلق اللّه عزّوجلّ، فاللّه هو الآمر بکلّ معروف، والناهي عن کلّ منکر، وإذن، فإنّ المؤمن الملتزم بقضية مجتمعه الواعي للأخطار المحدقة به، يمتثل- حين يأمر وينهي- للّه تعالي ويتبع سبيله الأقوم.

وقال الإمام في موقف آخر: «وإنَّ الأمرَ بالمعرُوف والنَّهي عنِ المُنکرِ، لا يُقرِّبان من أجلٍ ولا ينقُصان من رزقِ».[75] .

قلنا إنّ إحياء هذه الفريضة، وجعلها إحدي هواجس المجتمع الدّائمة، وإحدي الطّاقات الفکرية الحيّة المحرّکة للمجتمع کان من شواغل الإمام الدّائمة.

وکان يحمله علي ذلک عاملان: أحدهما أنّه إمام المسلمين، وأميرالمؤمنين، ومن أعظم واجباته شأناً أن يراقب أمّته، ويعلّمها ما جهلت، ويعمّق وعيها مما علمت، ويجعل الشّريعة حيّة في ضمير الأمة وفي حياتها.

وثانيهما هو قضيته الشّخصيّة في معاناته لمشاکل مجتمعه الدّاخلية والخارجية في قضايا السّياسة والفکر.

فقد کان الإمام يواجه في مجتمعه حالة شاذة لا يمکن علاجها والتغلب عليها إِلا بأن يجعل کلّ فرد بالغ في المجتمع- والنّخبة من المجتمع بوجه خاص- من قضية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر، في کلّ موقف تدعو الحاجة إليهما وخاصة في المواقف الخطيرة، قضية التزام شخصي واع وصارم.

لقد شکا الإمام کثيراً من النّخبة في مجتمعه، وأدان هذه النّخبة بأنّها نخبة فاسدة في الغالب لأنّها لم تلتزم بقضية شعبها ووطنها وإنّما تخلّت عن هذه القضية سعياً وراء آمال شخصية وغير أخلاقية...

أکثر من هذا: لقد اتّهم الإمام هذه النخبة مراراً بأنّها خائنة. ومن مظاهر عدم التزامها بقضية شعبها أو خيانته هو تخليها الّذي لا مبرّر له عن ممارسة واجبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر.

وإذ يئس الإمام من التّأثير الفعّال في هذه النّخبة فقد توجّه بشکواه رأساً إلي عامة الشّعب محاولاً أن يحرکه في اتجاه الإلتزام العملي بقضيته العادلة، موجهاً وعيه نحو الأخطار المستقبلية، محذراً له من تطلّعات نخبته.

نجد هذا التّوجه نحو عامة الشعب مباشرة ظاهراً في الخطبة القاصعة الّتي تضمّنت ألواناً من التّحذير، النّابض بالغضب، من السقوط في حبائل النّخبة.

وکانت قضية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر- فيما يبدو- والتراخي أو اللامبالاة الّتي تظهرها النّخبة نحو هذه القضية- إحدي أشدّ القضايا إلحاحاً علي ذهن الإمام وأکثرها خطورة في وعيه.

وکان أسلوب التّنظير بالتاريخ إحدي الوسائل الّتي استعملها الإمام في تحذيره لشعبه وفي تعليمه الفکري لهذه الفريضة.

لقد کانت شکواه وتحذيراته المترعة بالمرارة والألم نتيجة لمعاناته اليومية القاسية من مجتمعه بوجه عام ومن نخبة هذا المجتمع بوجه خاص.

ولا بدّ أنّ هؤلاء وأولئک قد سمعوا من الإمام مراراً کثيرة مثل الشّکوي التّالية الّتي قالها في أثناء کلام له عن صفة من يتصدّي للحکم بين الأمة وليس لذلک بأهل: «إلي اللّه أشکُو مِن معشر يعيشُون جُهالاً ويمُوتُون ضُلالاً. ليس فيهم سِلعة أبورُ[76] مِن الکتاب إذا تُلي حقَّ تلاوتهِ، ولا سلعة أنفق بيعاً ولا أغلي ثمناً مِن الکِتاب إذا حُرِّف عن مواضعهِ، ولا عندهُم أنکر من المعرُوف ولا أعرفُ من المُنکرِ».[77] .

کان النّهج الّذي سار عليه الإمام في حکمه نهج الإسلام الّذي يستجيب لحاجات عامّة النّاس في الکرامة، والرّخاء، والحرّيّة.

وکان هذا النّهج يتعارض، بطبيعة الحال، مع مصلحة طبقة الأعيان وزعماء القبائل الّذِين اعتادوا علي الإستماع بجملة من الإمتيازات في العهد السّابق علي خلافة أميرالمؤمنين علي (ع).

وقد کان لهذه الطّبقة ذات الإمتيازات أعظم الأثر في الحيلولة بشتّي الأساليب دون تسلّم الإمام للسّلطة في الفرص الّتي مرّت بعد وفاة رسول اللّه (ص)، وبعد وفاة أبي بکر، وبعد وفاة عمر، ولکنَّه بعد وفاة عثمان تسلّم السلطة علي کراهية منه لها، وعلي کراهية من النّخبة له، فقد قبلت به مرغمة لأن الضغط الذي مارسته الأکثرية الساحقة من المسلمين في شتّي حواضر الإسلام شلّ قدرة النّخبة المالية وطبقة الأعيان علي التأثير في سير الأحداث، فتکيّفت مع الوضع الجديد الّذي وضع الإمام علياً- بعد انتظار طويل- علي رأس السّلطة الفعليّة في دولة الخلافة.

وقد کشفت الأحداث الّتي ولدت فيما بعد عن أنّ هذا التکيّف کان مرحليّاً، رجاء أن تحتال في المستقبل، بطريقة ما- لتأمين مصالحها وامتيازاتها.

وحين يئست طبقة الأعيان هذه من إمکان التّأثير علي الإمام وتبدّدت أحلامهم في تغيير نهجه في الإدارة وسياسة المال وتصنيف الجماعات تغييراً ينسجم مع مصالحهم فيحفظ لها مراکزها القديمة، ويبوّئها مراکز جديدة ويمدّها بالمزيد مِن القوة والسّلطات علي القبائل والموالي من سکّان المدن والأرياف... حين يئست هذه الطّبقة من کلّ هذا وانقطع أملها.. طمع کثير من أفراد هذه الطّبقة بتطلّعاته إلي الشّام ومعاوية بن أبي سفيان، فقد رأوا في نهجه وأسلوبه في التّعامل مع أمثالهم ما يتّفق مع فهمهم ومصالحهم... وتخاذل بعض أفرادها عن القيام بواجباتهم العسکرية في مواجهة النشاط العسکري المتزايد الّذي قام به الخارجون عن الشّرعية في الشّام، هذا النّشاط الّذي اتّخذ في النّهاية طابع الغارات السّريعة وحروب العصابات.

وکان تخاذلاً لا يمکن تبريره بجبنهم فشجاعتهم ليست موضع شک علي الإطلاق.

ولا يمکن تبريره بقلّتهم، فقد کانت الأمّة قادرة علي أن تزود حکومتها الشرعية بجيوش جرّارة وجنود أقوياء مدربين جعلت منهم طبيعتهم، وثقافتهم، وحروب الفتح الّتي خاضوها مدة سنوات طويلة من خيرة المقاتلين في العالم.

ولا يمکن تبريره بنقص في التّسليح وعدة الحرب وعتادها، فقد کانت معامل السّلاح نشطة لتأمين إحتياطي ضخم من السّلاح لمجتمع کان لا يزال محارباً.

ولا يمکن تبريره بسوء الحالة الإقتصاديّة، فقد کان المال العام وفيراً بعد أن أصلحت الإدارة الماليّة في خلافة الإمام.

لم يکن إذن ثمة سبب للتّخاذل سوي الموقف السّياسي غير المعلن الّذي صممت النّخبة من الأعيان وزعماء القبائل علي التّمسک به والتّصرّف في القضايا العامّة وفقاً له، إلي النّهاية، وذلک بهدف تفريغ حکومة الإمام علي من قوة السّلطة، وجعلها عاجزة عن الحرکة بسبب عدم توفّر الوسائل الضّرورية لها، وهذا ما يؤدّي في النّهاية إلي انتصار التّمرّد علي الشّرعية.

کان هذا الموقف السّياسي غير المعلن هو سبب التّخاذل.

وقد کان هذا الموقف غير معلن، بل کان قادة هذه النّخبة يوحون بإخلاصهم وتفانيهم، لأنّ هذه النخبة کانت تخاف، إذا أعلنت موقفها وکشفت عن نواياها وأهدافها البعيدة وأمانيها المخزية، من جمهور الأمّة أن يکتشف لعبتها ضد آماله ومصالحه، فيدينها ويعاقبها.

وقد حفظ لنا الشريف في نهج البلاغة نصوصاً کثيرة يلوم فيها الإمام نخبة مجتمعه لوماً قاسياً مرّاً علي تراخيهم وتخاذلهم عن القيام بالتزاماتهم العسکرية في الدّفاع عن الشرعية، ولا شکّ أنّ الإمام في آخر عهده کان مضطرّاً للإکثار من هذا اللّوم والتقريع، کقوله في إحدي خطبه: «ألا وإنّي قد دعوتُکم إلي قتالِ هؤلاءِ القوم ليلاً ونهاراً، وسِرّاً وإعلاناً، وقلتُ لکُم: اغزُوهُم قبل أن يغزوکُم، فو اللّه ما غُزي قوم قطُّ في عُقرِ دارهِم[78] إلا ذلُّوا، فتواکلتُم وتخاذلتُم،[79] حتّي شُنَّت[80] عليکُمُ الغاراتُ، ومُلِکت عليکُمُ الأوطانُ...فيا عجباً! عجباً واللّهُ يُميتُ القلب، ويجلبُ الهمَّ، من اجتماع هؤلاء القوم علي باطلِهم، وتفرُّقِکم عن حقِّکم! فقُبحاً لکُم وترحاً[81] حين صِرتُم غرضاً يُرمي: يُغارُ عليکم ولا تُغيرُون، وتُغزون ولا تغزُون، ويُعصي اللّه وترضون.»

فإذا أمرتُکم بالسَّيرِ إليهم في أيّامِ الحرِّ قلتُم: هذه حمارةُ القيظ أمهلنا يُسبخُ عنّا الحرُّ،[82] وإذا أمرتُکُم بالسير إليهم في الشتاء قلُتُم: هذه صبارَّةُ القُرِّ[83] ... کُلُّ هذا فِراراً من الحرِّ والقُرِّ، فإذا کُنتُم مِن الحرِّ والقُرِّ تفرُّون، فأنتُم واللّهِ من السيف أفرُّ.

«يا أشباه الرِّجالِ ولا رجال! حلُومُ الأطفالِ، وعُقُولُ ربَّاتِ الحجالِ[84] لوددتُ أنّي لم أرکُم ولم أعرفکُم معرفةً- واللّه- جرَّت ندماً وأعقبت سدماً.»[85] .

«قاتلکُمُ اللّهُ! لقد ملأتُم قلبي قيحاً، وشحنتُم صدري غيظاً، وجرعتُمُوني نُغب التَّهمامِ أنفاساً[86] وأفسدتُم عليّ رأيي بالعصيانِ والخذلانِ، حتَّي لقد قالت قُريش:إن ابن أبي طالبٍ رجُل شُجاع ولکن لا عِلم لهُ بالحرب، للهِ أبُوهُم وهل أحد منهُم أشدُّ لها مراساً وأقدمُ فيها مقاماً منِّي لقد نهضتُ فيها وما بلغتُ العشرين وهأنذا قد ذرَّفتُ[87] علي السِّتِّين! ولکن لا رأي لِمن لا يُطاعُ».[88] .

بهذه المرارة، وبهذا الغضب، وبهذه السّخرية، وبهذا الإحتقار کان الإمام يواجه هذه النخبة الّتي تخاذلت عن القيام بواجبها، أو خانت قضية شعبها.

ويبدو أن هذه الطبقة- أو فريقاً منها- کانت تحاول، ستراً لمواقفها الّتي عمل الإمام علي فضحها، أن تتظاهر في بعض الحالات بالغيرة والحميّة الدّينية، فتتخذ مواقف لفظية آمرة بالمعروف ناهية عن المنکر دون أن تترجم ذلک إلي أفعال وممارسة عملية، شأنها في ذلک شأن الکثيرين ممّن يسترون خياناتهم وأنانيتهم، وحرصهم علي المتاع الدّنيوي بالمواقف الأخلاقية اللّفظية.

ولکنّ الإمام عليّاً کان يعرف هؤلاء، ومن السّهل معرفتهم في کلّ زمان، وکان يفضح هذه المواقف المنافية بقسوة، لأنها تضيف إلي جريمة الخيانة السّياسيّة رذيلة النّفاق والتّمويه علي بسطاء النّاس، فيقول مبصِّراً مجتمعه بفساد العلاقات الناشئ من فساد النّخبة: «... وهل خُلقتُم إلا في حُثالةٍ[89] لا تلتقي إلا بذمِّهمُ الشَّفتان، استصغاراً لقدرهِم، وذهاباً عن ذکرهِم، فإنّا للّه وإنا إليه راجعون.»

ظهر الفسادُ فلا مُنکر مُغيِّر، ولا زاجر مُزدجِر. أفبهذا تُريدُون أن تجاورُوا اللّه في دارِ قُدسهِ، وتکُونوا أعزَّ أوليائهِ عندهُ؟ هيهات! لا يخدعُ اللّه عن جنَّتهِ، ولا تُنالُ مرضاتُهُ إلا بطاعتهِ.

«لعن اللّهُ الآمرين بالمعرُف التّارکين لهُ، والنّاهين عن المُنکر العاملين بهِ».[90] .

وإذا کانت مصلحة الحکم المستبد الطبقي أو الفئوي تقضي بأن يصمت الشعب ولا يرتفع منه صوت اعتراض أو احتجاج، أو إدانة مهما أصابه من مظالم، ومهما حلّ بحقوقه من انتهاکات، فإنّ مصلحة الحکم الشّعبي الملتزم بالمصالح الحقيقيّة للناس العاديّين البسطاء هي علي العکس من ذلک... إنّ مصلحة هذا الحکم الّذي يستمدّ فاعليته وقوته من مجموع الشعب هي في أن يتکلّم النّاس في الشّأن السّياسي مؤيدين أو منتقدين لحماية مصالحهم الحقيقيّة في مواجهة البني العليا في المجتمع الّتي تتبع سياسات مضادّة لمصالح مجموع الشعب علي المدي القريب أو البعيد، والّتي تعمل باستمرار لتکوين حالات اجتماعية، ومشاغل واهتمامات فکريّة تصرف فئات الشعب عن مصالحها الجوهرية[91] وتقعد بها عن مساعدة الحکم الشّعبي الّذي يمثل هذه المصالح ويعمل لتحقيقها، هذا إذا لم تفلح هذه البني العليا في أن تؤلّب بعض فئات الشّعب- نتيجة للتّضليل- ضد هذا الحکم.

وسکوت الشّعب في حالة النّشاط المعادي الّذي تقوم به البني العليا، أو عدم مبالاته، بترک السّاحة خالية أمام هذه القوي لتفسد علي الحکم الشّعبي سياساته المستقبليّة دون أن تخشي عقاباً، لأنّ الحکم في هذه الحالة يقف في مواجهة تلک القوي وهو أعزل، وهذا يمنعها من التّغلب عليه أو من تجاوزه. وهذا ما کان يحدث في کثير من الحالات في عهد الإمام عليه السّلام، وکان يثير غضبه علي النّخبة لفسادها، ويحمله علي کشف عيوبها أمام أعين النّاس.

لقد کان الإمام عليه السّلام حريصاً أشدّ الحرص علي أن يحرّک الجماهير ويدفع بها دوماً إلي أن تعبّر عن رأيها، وتعلن عن مواقفها.

وتعکس لنا النّصوص إدراک الإمام العميق للأهميّة الکبري والحاسمة الّتي تبيّنها هذه المسألة في عمله السّياسي، وذلک في مظهرين:

الأوّل: کثرة المناسبات الّتي أثار فيها الإمام موضوع الأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر، وتنوّع الأساليب الّتي شرحه بها. وهذا أمر ملفت للنّظر بالنّسبة إلي حکم شرعي ثابت في القرآن الکريم والسّنّة النبوية ويعتبره الفقهاء من الأحکام القطعية الضّرورية، إنّ هذا الإهتمام المستمر علي مسألة الأمر والنّهي يکشف عن أنّ الإمام کان يواجه في المجتمع حالة غفلة عن الحکم الشّرعي بوجوب الأمر والنهي، وحالة تراخ عن القيام بهذه الفريضة الإسلامية علي وجهها، وهذه الغفلة وهذا التّراخي حملاه علي أن يذکّر المسلمين بفريضة الأمر والنّهي ما استطاع.

الثّاني: عنف الأسلوب الّذي عبّر به الإمام عن أفکاره وعن معاناته حين کان يوجّه خطاباته إلي المسلمين في هذا الموقف أو ذاک مقرّعاً لائماً، أو مشجعاً حاثاً لهم علي أداء هذه الفريضة... وهو ما يکشف عن أنّ الإمام يعاني من قلق عميق وغضب مکبوت نتيجة لما يراه في المجتمع من إهمال. وتراخ.

وقد حثّ الإمام المسلمين علي الإلتزام العملي بفريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر في حياتهم العامّة وعلاقاتهم الإجتماعية والسّياسيّة بأساليب متنوعة،ونظر إليها من زوايا متعدّدة.

ومن جملة الأساليب الّتي اتّبعها في تعليمه الفکري والسّياسي بِالنّسبة إلي هذه الفريضة أسلوب التّنظير التّاريخي، فمن ذلک قوله في الخطبة القاصعة: «وإنَّ عِندکُمُ الأمثال مِن بأسِ اللّه وقوارعهِ، وأيّامهِ ووقائعهِ، فلا تستبطئُوا وعيدهُ جهلاً بأخذهِ، وتهاوُناً ببطشهِ، ويأساً من بأسهِ، فإنّ اللّه سُبحانهُ لم يلعنِ القرن الماضي بين أيديکُم، إلا لترکِهمُ الأمر بالمعرُوف والنّهي عن المُنکر، فلعنَ اللّه السُّفهاء لِرُکُوبِ المعاصي، والحُلماء لترک التَّناهي».[92] .

نلاحظ أنّ الإمام عبّر في هذا النّص، کما في نصوص أخري- عن إنکاره بشأن ما يراه في مجتمعه من تهاون وتراخ في امتثال فريضة الأمر والنّهي، بأسلوب شديد الوقع يتجاوز النصيحة الرّقيقة الهادئة إلي الإنذار الشّديد، والتّحذير من أهوال کبري مقبلة، واستعان علي تصوير ذلک بالتذکير بما حلّ في القرن الماضي من اللّعن نتيجة لإهماله هذه الفريضة أو تراخيه عن القيام بها.

واللّعن هنا ليس عقاباً روحياً وأخروياً فقط، إنّه هنا يأخذ معني سياسيّاً، إنّ اللّعن هو البعد عن رحمة اللّه ورعايته، وهذا يعني أنّ الملعون يتعرّض للنّکبات السياسيّة والإجتماعيّة الّتي تؤدي به في النهاية إلي الإنحطاط والإنهيار.

والظاهر أنّ الإمام يعني بالقرن الماضي الإسرائيليّين، فإنّ في کلامه هنا قبساً من الآية الکريمة: «لُعِنَ الذينَ کفرُوا من بني إسرائيلَ علي لِسانِ داوُد وعيسي بن مريم، ذلک بما عصوا وکانُوا يعتدُونَ. کانوا لا يتناهونَ عن مُنکرٍ فعلُوهُ لبئسَ ما کانُوا يفعلُون».[93] .

في النّص التالي اتّبع الإمام أسلوب التّنظير بالتاريخ أيضاً في تعليمه الفکري لمجتمعه بشأن فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر، معيداً إلي أذهان مستمعيه قصة ثمود القرآنية، والنّکبة المرعبة الّتي أبادتهم حين عصوا أمر اللّه تعالي إليهم في شأن ناقة نبيهم صالح (ع).

وليس من همنا هنا عرض الحادث التاريخي القرآني، وإنّما نبغي الکشف عن استخدام الإمام للتاريخ في تعليمه الفکري.

والإمام في التّنظير الوارد في النّص التّالي يثير مسألة ذات أهمية بالغة في العمل السّياسي، وهي أنّ حرکة التاريخ تقودها دائماً جماعة قليلة العدد من الناس تملک القدرة علي الحرکة فتبادر إلي اتخاذ المواقف، في حين أنّ غيرها من الناس يکون في حالة سکون، فتکوّن بحرکتها وقائع جديدة تحمل الناس علي قبولها، وتضع السّلطة أمام أمر واقع.

وحين تکون هذه الجماعة المتحرکة القليلة العدد ملتزمة بقضايا مجتمعها، عاملة في سبيل مصلحته، فإنّ واجب المجتمع أن يساندها ويقدّم لها العون المعنوي والمادّي في جهادها.

أمّا حين تعمل هذه الجماعة ضد مصالح المجتمع العليا والحقيقة- رغم ما توشّي به عملها من ألوان خادعة- فإنّ علي المجتمع أن يتحرک ويقف في وجهها، ويلجم اندفاعها ذوداً عن مصالحه.

أمّا سکوت المجتمع وسکونه وسلبيته تجاه مواقف هذه الجماعة فإنّه جريمة يرتکبها في حق نفسه، لأن الکارثة حين تقع في النهاية نتيجة لأعمال الجماعة المتحرکة لا تميّز بين المسبّبين لها وبين السّاکتين عنهم. إنّها حين تقع تصيب بشرورها المجتمع کلّه، بل لعلّها، في قضايا السّياسة والفکر، تصيب السّاکتين عنها أکثر ممّا تصيب المسبّبين لها، والّذين تکمن مصلحتهم في الإنحراف والتزوير.

ومن هنا فإنّ ما اصطلح عليه في لغة السّياسة في هذه الأيام باسم الأکثريّة الصّامتة، هذه الأکثريّة الّتي لا تبدي فيما يجري أمامها وعليها ولا تعيد، وإنما تقبل ما يقوم به الآخرون مختارة أو مرغمة، راضية أو ساخطة،... هذه الأکثريّة الصّامتة بموقفها هذا تقوم بدور الخاذل للحق أو المتواطئ علي الجريمة.

وذلک لأن الصّمت في هذه الحالات ليس علامة علي البراءة والطّيبة، وإنّما هو علامة الجبن والغفلة والفرار من المسؤولية.

وهذه السّلبية الّتي هي في مستوي الجريمة لا تعفي من العقاب، والعقاب في هذه الحالة لا تقوم به السّلطة وإنّما تقوم به القوانين الإجتماعية الّتي تصنع الکارثة، يقوم به القدر الّذي لا يميّز بين السّاکن والمتحرک وإنّما يجرف الجميع، يقوم به اللّه تعالي الّذي يؤاخذ الجميع بذنوبهم: المتحرکين بذنب المعصية، والساکتين بذنب توفير أجواء الجريمة أمام المجرمين ليرتکبوا جرائمهم.

ولذا، فإنّ الأکثرية الصّامتة، من هذا المنظور، لا تضمّ أبرياء، وإنّما تضمّ متواطئين وجبناء، سبّبوا، بإيثارهم للسّلامة الشخصية العاجلة، کوارث عامّة مستقبليّة، وجبنهم الّذي يکشف عن أنانيتهم الرّخيصة والذلّيلة يکشف عن أنّهم ليسوا جيلاً صالحاً لأن يبني حياة مزدهرة.

إنّ الکوارث الإجتماعية، کالکوارث الطّبيعيّة، تجرف في طريقها، حين تقع النّبات النّافع والنّبات الضّار، ولا تميّز بينهما في الدّمار.

قال عليه السلام: «... وإنّهُ سيأتي عليکُم من بعدي زمان ليس فيه شي ء من الحقِّ، ولا أظهر من الباطلِ، ولا أکثر من الکذبِ علي اللّه ورسُوله، وليس عند أهلِ ذلک الزمان سلعة أبور من الکتاب إذا تُلي حقَّ تلاوته، ولا أنفق منهُ إذا حُرِّفَ عن مواضعه، ولا في البلاد شي ء أنکرَ من المعرُوف ولا أعرف من المنکرِ، فقد نبذ الکتاب يومئذٍ حملتُهُ، وتناساهُ حفظتُهُ فالکِتابُ يومئذٍ وأهلُهُ طريدانِ منفيّانِ، وصاحبان مُصطحبان في طريقٍ واحدٍ لا يؤويهُما مؤو... فالکتابُ وأهلُهُ في ذلک الزمانِ في النّاسِ وليسا فيهم، ومعهُم وليسا معهُم، لأنّ الضَّلالةَ لا تُوافِق الهُدي وإن اجتمعا...».[94] .

وتصور الفقرة الأخيرة من هذا النّص أبلغ تصوير واقع الإنفصال بين الأمّة وبين قيادتها الفکريّة نتيجة لاغترابها الثقافي، وانفصالها- في مجال تکوين المفاهيم والتوجيه- عن أُصولها الفکريّة.

وهذا الإغتراب الثّقافي- الحضاري النّاشئ عن هجر الأصول- وليس عن التّفاعل مع الآخرين- يؤدّي إلي موقف في المنکر والمعروف خطير، فإنّ ثمّة مقياسينِ للقيم والمثل الأخلاقية. أحدهما المقياس الموضوعي، والآخر المقياس الذّاتي.

المقياس الموضوعي هو الّذي يجعل شريعة المجتمع وعقيدته منبعاً للقيم الأخلاقية ففي مجتمع إسلامي، مثلاً، يکون منبع القيم هو العقيدة والشّريعة الإسلاميتان.

وکذلک الحال في مجتمع مسيحي مثلاً أو بوذي.

وهذا المقياس يقضي بأن يکون المجتمع ملتزماً بعقيدته وشريعته في مؤسساته ونظمه وعلاقاته بدرجة تجعله تعبيراً عن تلک العقيدة والشّريعة.

والمقياس الذّاتي هو الّذي يجعل منبع القيم الأخلاقية شخص الإنسان، فالإنسان في هذه الحالة هو الّذي يخترع أخلاقياته وقيمه الّتي تکيّف سلوکه تجاه المجتمع وعلاقاته في داخل المجتمع، ويستبعد هذا المقياس أي مصدر للقيم خارج الذّات للقيم والأخلاقيّات.

قال عليه السلام: «أيُّها النّاسُ. إنَّما يَجمَعُ النّاسَ الرِّضَي والسُّخْطُ، وَانَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُل وَاحِد، فَعَمَّهُمُ اللّه بِالعَذابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَي».[95] .

وقد حذر الإمام بجتمعه في إحدي استبصاراته نحو المستقبل من وضعية فکرية وثقافية تودّي إالي هجر الأصول الثقافية والفکرية التي تکوّن روح المجتمع الإسلامي وتسمه بطابعه الخاص المميّز له عن سائر التجمعات الثقافية- الحضارية، وتعطيه دوره المميز والخاص في حرکه التاريخ العالمي وبناء الحضارة... وتؤدي به- نتيجة لاتبثاقه عن أصوله- إلي أن يکون نسخة من ثقافة أُخري، ووحدة من وحدات حضارة اخري، وتغدو الاصول الثقافية التي ترجع کلّها الي الکتاب والسنّة مجرّد أشکال يتداولها النّاس دون أن يکون لها دور في تکوين المفاهيم، وبناء الشخصية، ورسم طريق العمل.

إنّ المسلمين أنفسهم، يومئذٍ سينبذون الکتاب باعتباره مصدراً للمفاهيم الفکريّة،ويتّجهون نحو منابع غريبة عن ثقافتهم وحضارتهم، وعقيدتهم وشريعتهم، وتاريخهم،يستمدّون منها الغذاء العقلي والنفسي، والتوجيه السلوکي.

وننبّه هنا إلي أنّ الإغتراب الثقافي النّاشئ عن هجر الاُصول- وهو ما حذّر الإمام منه- غير الإنفتاح الثقافي- الحضاري الذي يتولّد من الطموح إلي التّفاعل مع الآخرين واکتشاف صيغهم الحضاريّة والتعرّف علي فتوحهم الفکريّة مع الحفاظ علي الأصول، والأمانة للذّات ومقوّماتها...

فهذا الإنفتاح أمر مطلوب مرغوب، وقد مارسه المسلمون وکانوا سادة فيه حين أنشأواالحضارة الإسلاميّة العظيمة التي انفتحت علي کلّ الإنجازات الخيّرة في الحضارات الأخري، فاکتشفوها وکيّفوها وفقاً لقيم الإسلام، ومفاهيم الإسلام، وأخلاقيات الإسلام المستمدة من الکتاب والسّنّة والفقه.

وحينئذٍ يقع التعارض بين عقيدة المجتمع الرّسمية وشريعته، وبين أخلاقيّات وقيم أفراده وفئاته، ففي مجتمع إسلامي، مثلاً، أو مسيحي أو بوذي، لا بّد أن نکتشف- في حالة شيوع المقياس الذاتي للقيم بين الأفراد- أن التزام المجتمع بعقيدته وشريعته التزام شکلي يرافق الإلحاد العملي.

والأثر الذي يترتب علي التزام المقياس الموضوعي للقيم في المجتمع أو المقياس الذّاتي هام جداً.

أولاً: يؤدّي اعتماد المقياس الموضوعي إلي نمو الفرد دون عُقد وتمزقات داخلية، لأنه يوفّر حالة التّجانس والتّکامل بين محتوي الضّمير والعقل وبين التعبير السّلوکي في العلاقات مع المجتمع وفي داخله.

أمّا اعتماد المقياس الذّاتي فإنّه يؤدّي إلي خلاف ذلک، لأنّ اتباع المقياس الذّاتي يحدث للفرد تمزقات داخلية وعُقداً في نفسه، لأنّه يجعله دائماً في حالة تعارض وتجاذب بين الزام العقيدة والشّريعة وبين رغبات الذّات باعتبارها مصدراً للقيم، ويؤدي ذلک إلي انعکاسات ضارة لا تقتصر علي الأفراد، وإنّما تتجاوزهم إلي المجتمع نفسه.

وثانياً: إنّ المقياس الموضوعي بما يوفّره من تجانس في داخل الفرد بين أخلاقياته من جهة ومعتقده وشريعته من جهة أخري يؤدي إلي تلاحم واسع النطاق داخل المجتمع، ويکوّن لدي المجتمع نظرة إلي المشکلات، ويؤدّي أيضاً إلي تکوين مواقف واحدة أو متقاربة بين الجماعات تجاه التّحديات الّتي تواجه المجتمع.

أمّا اعتماد المقياس الذّاتي فإنّه يؤدّي إلي العکس من ذلک. إنّه يؤدّي إلي تخلخل البنية الإجتماعية، وتعدّد الفئات ذات المنازع الفکريّة والسّياسيّة المختلفة، ويکوّن مناخاً ملائماً لتولّد المشاکل الإجتماعية وتعاظمها، لأنّ المقياس الذّاتي لدي الأفراد والجماعات شديد التنوّع والإختلاف.

وهذا التّشرذم يؤدّي: أمّا إلي العجز عن اتخاذ مواقف موحّدة علي الصّعيد القومي أو الوطني نتيجة لتعدّد الإرادات والميول، وأمّا إلي الإستسلام للدّعاية السّياسيّة الّتي يخطط لها وينفذها فريق من ذوي الأغراض والغايات الخاصة يخضع عقول الناس لمفاهيمه وقناعاته، ويحملها علي قبول اختيارات قد لا تنسجم مع المصالح الحقيقية للأمّة، وإنّما تنسجم مع مصالح هذا الفريق الّذي يملک وسائل الدّعاية والإعلان والإعلام، وهذا هو ما يحدث في العصر الحديث، ويؤدّي إلي کوارث کبري علي الأصعدة الوطنية في بعض الحالات، وعلي الصعيد العالمي في بعض الحالات الأخري، حيث يعرّض سلام العالم کلّه أو سلام قارّة بکاملها لمطامح ومطامع حفنة صغيرة من الناس تکيّف عقول شعوب بکاملها، دافعة بها إلي اتخاذ مواقف سياسيّة تناقض مصالحها الوطنية، ومصالح جميع الشّعوب، وقضية فلسطين أکبر شاهد علي ما نقول.

لقد نبّه الإمام عليه السّلام إلي هذا الخطر، وحذّر منه مجتمعه، فقال: «فيا عجباً، وما لي لا أعجبُ مِن خطإِ هذه الفرقِ علي اختلاف حُججها في دينها، لا يقتصُّون أثر نبيٍّ، ولا يقتدُون بعملِ وصيٍّ، ولا يؤمنون بغيبٍ، ولا يعفُّون[96] عن عيبٍ. يعملُون في الشُّبُهات ويسيُرون في الشَّهواتِ. المعروفُ فيهم ما عرفُوا والمُنکر عندهُم ما أنکروا. مفزعُهُم في المُعضلاتِ إلي أنفُسهم وتعويلُهُم في المُهمّاتِ علي آرائهم، کأنَّ کُلَّ امرئٍ منهُم إمام نفسهِ، قد أخذَ منها فيما يري بعُريً ثقاتٍ وأسبابٍ مُحکماتٍ».[97] .

وأخيراً، لقد بلغ من خطورة فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر عند الإِمام علي (ع) أنّه جعلها إحدي وصاياه البارزة الهامّة لابنيهِ الإمامين الحسن والحسين.

وقد تکرّرت هذه الوصية مرتين. إحداهما لابنه الإِمام الحسن في وصيته الجامعة الّتي کتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفّين. والأخري في وصيته للإمامين الحسن والحسين في وصيته لهما وهو علي فراش الإستشهاد بعد أن ضربه ابن ملجم المرادي بالسّيف.

قال عليه السّلام في الوصية الأولي: «... وأمُر بِالمعرُوفِ تکُن من أهلهِ، وانکرِ المُنکر بيدک ولِسانِک وباين[98] من فعلهُ بجُهدک وجاهد في اللّه حقَّ جهادِه ولا تأخُذک في اللّه لومةُ لائمٍ.»[99] .

وقال عليه السّلام في الوصية الثّانية: «... اُوصيکُما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغهُ کتابي... وعليکُم بالتّواصُلِ والتّباذُلِ، وإيَّاکُم والتّدابُر والتّقاطُع، لا تترُکُوا الأمر بالمعروفِ والنَّهي عن المُنکرِ فيُولي عليکُم شرارُکُم، ثُمَّ تدعُون فلا يُستجابُ لکُم».[100] .

سلام اللّه علي عليّ في الخالدين.







  1. نهج البلاغة: رقم الخطبة 161.
  2. وردت هذه الکلمة کثيراً في الکتاب الکريم في سور مکيّة ومدنية، والمراد بها، علي الظاهر، هذا المعني. وورد له في کلام بعض أهل اللغة تفسير زماني، فقيل: القرن مدة أغلب أعمار الناس، وهو سبعون سنة، وقيل: ثمانون، وقيل: ثلاثون سنة. وقيل: القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم، قلّ زمانه أو کثُر- وهذا التفسير الأخير يلحلظ معني حضارياً للکلمة.
  3. قال الشّريف في نهج البلاغة: «رُوي عن نوف البکالي، قال: خطبنا بهذه الخطبة أميرالمؤمنين علي (ع) بالکوفة، وهو قائم علي حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، وعليه مِدرعة من صوف، وحمائل سيفه من ليف، وفي رجليه نعلان من ليف، وکأن جبينه ثفِنةُ بعير، فقال عليه السلام... قال: وعقد للحسين عليه السّلام في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد رحمه اللّه في عشرة آلاف، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف، ولغيرهم علي أعداد أخر، وهو يريد الرّجعة إلي صفين، فما دارت الجمعة حتّي ضربه الملعون ابن ملجم لعنه اللّه فتراجعتِ العساکر، فکنا کأغنام فقدت راعيها تختطفها الذّئاب من کلّ مکان».
  4. ورد ذکر هؤلاء في الکتاب الکريم مرتين: في سورة الفرقان (مکّيّة-) 25 الآية 38 «وعاداً وثمُود وأصحابَ الرَّسِّ وقُروناً بين ذلِک کثِيراً» وفي سورة ق (مکية-50) الآية 12 «کذَّبت قبلهُم قومُ نُوحٍ وأصحابُ الرَّسِّ وثمُودُ». والرّس في اللّغة: البئر المطوية بالحجارة، والرّس اسم بئر کانت لبقية من ثمود- أو لقوم بعد ثمود-أرسل اللّه إليهم رسولاً فکذّبوه فأهلکهم اللّه. وقيل أنّ الرّسّ اسم نهر کان هؤلاء علي شاطئه.
  5. نهج البلاغة: رقم الخطبة 182.
  6. قال ابن أبي الحديد في شرح هذه الکلمة: «يجوز أن تسمي هذه الخطبة «القاصعة» من قولهم: قصعت الناقة بجرّتها، وهو أن تردها إلي جوفها أو تخرجها من جوفها لتملأ فاها، فلما کانت الزواجر والمواعظ في هذه الخطبة مردّدة من أوّلها إلي آخرها شبهها بالناقة الّتي تقصع الجرّة. ويجوز أن تسمي القاصعة لأنها کالقاتلة لإبليس وأتباعه من أهل العصبية، من قولهم: قصعت القملة إذا هشمتها وقتلتها. ويجوز أن تسمي القاصعة لأن المستمع لها المعتبر بها يذهب کبره ونخوته، فيکون من قولهم: قصع الماء عطشه، أي أذهبه، وسکنه». شرح نهج البلاغة- ج/13 ص 128.
  7. الغل: الحقد، اتفقتم علي تمکين الحقد في نفوسکم.
  8. الدّفن: جمع دفنة، ما يتجمد ويتلبد من الضابط وردت الماشية، ينبت عليه العشب ونبتت المرعي عليه: استر بظواهر النفاق الإجتماعي فيبدو ظاهره سليماً أخضر وواقعه بشع منفر. شهروا أحقادهم الّتي يسترونها بالنفاق فيما بينهم بهذه القذارة الّتي يسترها العشب فتبدو جملة تخدع بظاهرها وهي في الواقع قذرة نجسة.
  9. استهام بکم: تعلق بکم الشيطان فأغواکم.
  10. الغرور: ما يسبّب الإنخداع.
  11. نهج البلاغة- رقم الخطبة- 133.
  12. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة ج 13 ص 168-167.
  13. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة.
  14. أطور به: من طار يطور، بمعني: حام حول الشّي ء، وقاربه، يعني: لا أقارب الجور فيمن ولّيت عليه.
  15. ما سمر سمير: يعني مدي الدّهر.
  16. نهج البلاغة- رقم النص 126 ما أمّ نجم فِي السماء.. يعني مدي الدّهر. في هذا الموضوع راجع کتابنا (دراسات في نهج البلاغة) الطبعة الثانية، فصل (المجتمعات والطبقات الإجتماعيّة) وکتابنا (ثورة الحسين)، الطبعة الخامسة- ص172-101.
  17. نهج البلاغة- رقم الخطبة:192.
  18. الحميّة: الأنفة والغضب.
  19. الجامحة: من جموح الفرس- أراد أنّ الفئة الّتي لم تطع إبليس وجمحت عنه عادت فأطاعته واتّبعت سبيله في الکبرياء. أو أنّ الفئة الّتي جمحت عن الشرع انقادت إلي إبليس.
  20. نجم: ظهر. أي أنّ العصبية بعد ما کانت خفية في النّفوس ظهرت في ممارسات علنية.
  21. استفحل: قوي واشتدّ وصار فحلاً.
  22. الحرج: لغة في الحرج- بفتح الرّاء- وهو الإثم. يريد: إنّکم بطاعتکم لإبليس أصبحتم أعظم إثماً في دينکم. ورواية النّسخة المتداولة من النهج (فأصبح)، ولا يستقيم المعني عليها، ورواية ابن أبي الحديد في شرحه (فأصبحتم) وقد اعتمدناها لأنّها أوفق بالمعني.
  23. أوري: اشد قدحاً وتوليداً للنار. کناية عن تخريب دنياهم بالفتن والقلاقل.
  24. أمعنتم في البغي: بالغتم فيه، من أمعن في الأرض، أي ذهب فيها بعيداً.
  25. مصارحة للّه..: أي مکاشفة يعني الإعلان بالمعاصي، وعدم التستر في شأن العصبيّة والتکبر الجاهلي.
  26. ملاقح جمع ملقح، وهو المصدر من لقحت: والشّنآن: البغض يريد أنّ الکبر والفخر الجاهلي مکان البغضاء والحقد ومثارهما.
  27. منافخ الشيطان: جمع منفخ، مصدر من نفخ: يعني أن الکبر والفخر هما المکان الّذي ينفخ فيه الشّيطان من نفس الإنسان فيدفعها إلي الشّر والجريمة.
  28. اعتزاء الجاهلية: الإعتزاء هو الإنتساب، أي أنّهم يفتخرون بأنسابهم وآبائهم، کقولهم: يا لفلان، أو: يا لآل فلان.
  29. المراد من هذه الجملة وما بعدها أنّ هؤلاء الزعماء يفسدون بنزعاتهم الشرّيرة حياتکم وإيمانکم وطهارة نفوسکم.
  30. الأحلاس: جمع حلس. وهو کساء رقيق يکون علي ظهر البعير ملازماً له، فقيل لکلّ ملازم أمر: هو حلس ذلک الأمر. فهؤلاء المغدون من رؤساء القبائل ملازمون للعقوق والتنکر لنعم اللّه ولأحکام الشرع وقواعد الأخلاق.
  31. مدارع الصّوف: جمع مدرعة- بکسر الميم- وهي کالکساء.
  32. زاحت: بعدت. وله: لأجله، يعني: الزموا کل أمر خافتهم الأعداء بسببه.
  33. التحاض، صيغة تفاعل من الحض بمعني الحث والترغيب، يعني أن يحث بعضکم بعضاً علي الإتحاد والتعاون.
  34. الفقرة: واحدة فقر الظهر. ويقال لمن اصابته مصيبة شديدة: قد کسرت فِقرته. يعني اجتنبوا کلّ ما أضعف الأمم السّابقة وسبب لها الإنحطاط.
  35. المنة: القوة، ومعني الجملة کسابقتها.
  36. تضاغن القلوب وتشاحن الصّدور بمعني واحد: تبادل البغضاء بين فئات المجتمع.
  37. تخاذل الأيدي: ألا ينصر الناس بعضهم بعضاً ولا يتعاونون في حالات الخطر.
  38. التّمحيص: التّطهير والتّصفية.
  39. أجهد العباد: أکثرهم تعباً.
  40. المرار: شجر مر في الأصل، کناية عمّا أصابهم من العذاب والهوان علي أيدي الفراعنة.
  41. رأي اللّه منهم جد الصّبر، أي أشد الصّبر.
  42. الأملاء: الجماعات، الواحد: ملأ، يريد اتحاد الفئات الإجتماعية وتعاونها.
  43. مترادفة: متعاونة.
  44. البصائر نافذة: الإرادة عازمة جازمة غير متردّدة للعلم بحقيقة الموقف أو الشّي ء.
  45. الغضارة: النّعمة اللّينة الطّيّبة.
  46. ما أشدّ اعتدال الأحوال: ما أشبه الأشياء بعضها ببعض.
  47. الرّيف: الأرض ذات الخصب والزرع، والجمع أرياف.
  48. بحر العراق: دجلة والفرات. قال ابن أبي الحديد: 173:13 «أمّا الأکاسرة فطردوهم عن بحر العراق، وأمّا القياصرة فطردوهم عن ريف الآفاق أي عن الشّام وما فيه من المرعي والمنتجع».
  49. يقصد البادية الخالية مِن الزّرع والمياه والعمران.
  50. نکد المعاش: قلّته، وصعوبة الحصول عليه، وخشونته.
  51. عالة: فقراء (دبر ووبر) دبر البعير عقرة القتب. والوبر للبعير بمنزلة الصّوف للضأن. يريد أنّهم کانوا عالة فقراء يمثل البعير ثروتهم، ومرضه شغلهم الشاغل.
  52. الأزل: الضّيق والشّدّة، يريد بلاء شديداً شغلهم عن کلّ شي ء.
  53. أطباق، جمع طبق. أي جهل متراکم بعضه فوق بعض.
  54. غرقين: من الغرق، مبالغة في وصف ما هم فيه من النعمة.
  55. فکهين: بمعني ناعمين.
  56. تربّعت الأمور بهم، أي أقامت، من: ربع بالمکان أي أقام فيه، يعني استقرار أحوالهم السّياسيّة والمعيشيّة.
  57. آوتهم الحال: ضمتهم وأنزلتهم، والکنف: الجانب.
  58. تعطّفت.. کناية عن السّعادة والإقبال، يقال: تعطّف الدّهر علي فلان، أي أقبل حظّه وسعادته، والذّري الأعالي،جمع ذروة، کناية عن عزّهم وقوّتهم وامتناعهم.
  59. لا تغمز.. لا تقرع.. مثل يضرب لمن لا يجترأ عليه لعزته وقوته.
  60. الأمثال هي ما ورد في القرآن بما قصّه اللّه تعالي من أحوال الأمم القديمة وکيف نزلت بها الکوارث نتيجة لممارساتها المنحرفة.
  61. التّناهي مصدر تناهي القوم عن کذا، أي نهي بعضهم بعضاً. يقول: لعن اللّه الماضين من قبلکم لأنّ سفهاءهم ارتکبوا المعصية. وحلماءهم لم ينهوهم عنها وهذا من قوله تعالي في شأن بني إسرائيل (کانُوا لا يتناهَونَ عن مُنکرٍ فعلُوهُ لبِئسَ ما کانُوا يفعلونَ) سورء المائدة/ 79.
  62. من جملة تقسيمات الواجب عند علماء أُصول الفقه تقسيمه إلي واجب عيني وواجب کفائي. ويعنون بالواجب العيني ما يتعلق بکلّ مُکلَّف ولا يسقط عن أحد من المکلّفين بفعل غيره. ويعنون بالواجب الکفائي ما يطلب فيه وجود الفعل من أيّ مکلّف کان، فهو يجب علي جميع المکلّفين ولکن يکتفي بفعل بعضهم فيسقط عن الآخرين. نعم إذا ترکه جميع المکلّفين فالجميع مذنبون. وأمثلة الواجب الکفائي کثيرة في الشّريعة منها تجهيز الميّت والصّلاة عليه، ومنها الحِرَف والصّناعات والمِهَن الّتي يتوقف عليها انتظام شؤون حياة النّاس ومنها الإجتهاد في الشّريعة، ومنها الأمر بالمعروف والنّهي عن المنکر.
  63. سورة آل عِمران (مدنيّة- 3) الآية: 104.
  64. سورة التّوبة (مدنيّة- 9) الآية:71.
  65. ربّما يکون المراد من طاعة اللّه ورسوله، بعد ذکر الأمر والنّهي والصّلاة والزّکاة- الطاعة في الشّأن السّياسي، فلا يکون من ذکر العامّ بعد الخاص.
  66. سورة آل عِمران (مدنيّة-3) الآية:110.
  67. سورة آل عِمران (مدنيّة-3) الآية:114-113.
  68. نهج البلاغة- باب الحکم- رقم النّص:31.
  69. النفثة- کالنّفخة لفظاً ومعني بزيادة ما يمازج النفس من الريق عند النّفخ.
  70. نهج البلاغة- باب الحکم- رقم النّص:374.
  71. نهج البلاغة- باب الحکم- رقم النص: 252.
  72. نهج البلاغة- باب الحکم- رقم النص:374.
  73. نهج البلاغة- باب الحکم- رقم النّص:373.
  74. نهج البلاغة- رقم الخطبة 156.
  75. نهج البلاغة- باب الحکم- رقم النّص 374.
  76. أبور- علي وزن أفعل- من البور، الفاسد، بار الشي ء أي فسد، وبارت السّلعة أي کسدت ولم تنفق، وهذا هو المراد هنا: أنّ العمل الحق بالقرآن کاسد لا يقبله الناس ولا يتعاملون معه.
  77. نهج البلاغة، الخطبة رقم:17.
  78. عُقر دارهم: أصل دراهم، والعُقر: الأصل، ومنه: العقار للنخل، کأنّه أصل المال.
  79. تواکلتم: من وکلت الأمر إليک ووکلته إليّ، أي لم يتوله أحد منا، ولکن أحال به کلّ واحد علي الآخر.
  80. شُنّت الغارات: فرقت، أي نشبت الحروب الصّغيرة في أماکن متعدّدة (حرب العصابات).
  81. دعاء عليهم بالخزي والسّوء: القبح، والتّرح.
  82. حمارّة القيظ: شدّة حره. ويسبخ عنا الحر: بمعني يخفّ، ويلطف الهواء.
  83. صبارّة الشّتاء: بتشديد الرّاء- شدة برد الشّتاء. وهذه هي الأعذار الّتي کانوا يبرّرون بها تخاذلهم ويلوذون بها دون کشف موقفهم السّياسي الّذي بيّناه.
  84. الحجال: جمع حجلة، وهي بيت يزين بالسّتور، والثّياب، والأسرّة.
  85. السّدم: الحزن والغيظ.
  86. النّغب: جمع نغبة: وهي الجرعة، والتّهمام: الهمم، أنفاساً: جرعة بعد جرعة.
  87. ذرّفت: زدت علي السّتين.
  88. نهج البلاغة- الخطبة رقم:27.
  89. الحثالة: الردي ء من کلّ شي ء.
  90. نهج البلاغة- الخطبة رقم 129.
  91. في المؤتمر الّذي عقده الخليفة عثمان بن عفان، عند تعاظم موجة الإحتجاج والتّذمر- وجمع الولاة والعمال الکبار- لمعالجة الموقف المتفجّر بالغضب والنّقمة علي سياسة الدّولة- کان اقتراح عبداللّه بن عامر، حاکم ولاية البصرة أن تحبس الجيوش حيث هي (تجمر) ولا يؤذن لها بالعودة ليشغل الجنود بمشاکل حياتهم اليوميّة عن النشاط السّياسي- ومن المؤسف أنّ هذا الإقتراح هو الّذي تمّ العمل به فأدي إلي الفتنة الکبري.
  92. نهج البلاغة: الخطبة رقم:192.
  93. سورة المائدة (مدنيّة-5) الآية:79-78.
  94. نهج البلاغة- الخطبة رقم 147.
  95. نهج البلاغة- رقم النص201.
  96. ولا يعِفّون: أي يستحسنون ما بدا لهم استحسانه، ويستقبحون ما خطر لهم قبحه بدون رجوع إلي دليلٍ بيّن، أو شريعة واضحة. يثق کلّ منهم بخواطر نفسه، کأنّه أخذ منها بالعروة الوثقي علي ما بها من جهل ونقص.
  97. نهج البلاغة- الخطبة رقم 88.
  98. باين: أي باعِد وجانِب.
  99. نهج البلاغة- باب الکتب- رقم النّص:31.
  100. نهج البلاغة- باب الکتب- رقم النّص:47.