التاريخ يعيد نفسه











التاريخ يعيد نفسه



هل يعيد التاريخ نفسه؟

من البديهي أنّ التّاريخ لا يعود مرة أخري إلي ساحة الحاضر أو المستقبل، إذا أردنا من هذه القضية عودة تفاصيله وجزئيات أحداثه، فالأحداث ليست أشياء مجرّدة تقع في الفراغ دون أن تکون لها صلة بالبشر، وإنّما الأحداث بما هي صنع البشر تحمل السّمات الشخصية الخاصة لصانعيها: تحمل طابع مصالحهم الآنية، وأمزجتهم وعواطفهم، وأخلاقياتهم وطريقة فهمهم للحياة... وقد تنعدم هذه السمات الشخصية المميّزة مع أصحابها، ولن تعودَ علي الإطلاق. وإذن، فالتاريخ بهذا المعني لا يعود ولا يتکرر.

إنّ ما حدث في الماضي قد حدث مرة واحدة، ولن يحدث مرة أخري، لن يتکرر، علي الإطلاق.

أمّا إذا أردنا من هذه القضية عودة نمط الحرکة التّاريخيّة ومظاهره العامة وآثارها النّفسيّة والإجتماعيّة في المجتمع فإنّ التاريخ يعود بالتأکيد حين تتوفّر في الحاضر... في نسيجه الإجتماعي وعلاقاته الإنسانية الأسباب الموضوعية الّتي أدّت إلي نشوء نمط الحرکة التاريخيّة في الماضي.

إنّ الإنسان هو الإنسان في کلّ زمان.

إنّه يتحرک في الزّمان والمکان مدفوعاً- فرداً وجماعةً ومجتمعاً- بمصالحه وعلاقاته وعواطفه، والعقائد والشرائع والمثل والقيم الأخلاقية والرّوحية إذا تأصّلت فيه وتعمقت في وجدانه وکيّفت نظرته إلي الکون والحياة والإنسان فإنها تکون قادرة علي أن تدخل تغييراً عميقاً علي عواطفه ومصالحه وعلاقاته في المجتمع والعالم، ومن ثمّ فإنّها تکون قادرة علي تغيير تاريخه ونقله إلي مسار جديد، ما دامت لا تواجه عقبات تشلّ فاعليتها وتأثيرها.

أمّا إذا فشلت العقائد والشرائع والمثل والقيم الأخلاقية والرّوحية في إدخال التغيير المناسب لها علي تکوين الإنسان النفسي وعلي تقديره لمصالحه،لأنها لم تتأصّل في أعماقه ولم تغيّر نظرته إلي الکون والحياة والإنسان، فإنّ تاريخه في هذه الحالة سيتکرر.

إنّ هذا التاريخ الجديد لن يحمل نفس السّمات والخصائص الماضية في الغالب، ولکنّه يحمل نفس الروح، ويخلّف في المجتمع نفس الآثار الّتي کانت في الماضي تحمل أسماء جديدة وتقدم نفسها بمبرّرات جديدة لا تعدو أن تکون مجرّد قشرة خادعة يستطيع المؤرخ الباحث أن يکتشف ما وراءها فيتجاوزها إلي العمق ليجد الواقع القديم تحت الأشکال الجديدة.[1] .

في أول خطبة خطبها أميرالمؤمنين عليّ بعد أن بويع بالخلافة في المدينة نري أنّه قد لاحظ عودة الأشکال القديمة للإنقسامات القبلية والفئوية داخل المجتمع العربي الجاهلي إلي المجتمع الإسلامي في عهد عثمان وبعد مقتله بکلّ ما کانت تحتويه هذه الأشکال من روح قبلية وعنصرية، وأخلاقيات جاهلية رجعيّة.

وقد کانت عودة هذه الأشکال القديمة حاملة مضمونها الرجعي نتيجة لضمور المثل العليا والقيم المؤثرة في حرکة التاريخ الإسلامي، ونتيجة لضعف مؤسسة الخلافة في عهد عثمان، هذا الضعف الّذي مکّن القوي القديمة والقيم القديمة- الّتي لم تکن قد ماتت بعد، وإنّما کانت تعاني من حالة خمود وضمور- مکّنها من أن تستعيد فاعليتها، وتعود إلي التأثير في حرکة التاريخ تحت شعارات مناسبة تنسجم مع الإسلام في الشکل الخارجي.

لقد عادت إلي الظهور والفاعلية تلک القيم والمثل الجاهليّة القديمة الّتي کانت تقود حرکة التاريخ في المجتمع العربي وترسم ملامح هذا المجتمع وتوجه خطاه قبل بعثة الرّسول الأکرم وانتصار الإسلام.

وقد رأي أميرالمؤمنين عليّ هذه القيم البائدة العائدة من خلال رصده للظواهر الجديدة الّتي تبدو في حرکة الجماعات داخل المجتمع الإسلامي، وحرکة القيادات الّتي توجّه هذه الجماعات سراً وعلانيةً.

وقد رأي مع ذلک الأفاعيل التي ستنجم عن هذه الحرکة الرجعية للتاريخ في الإسلام، والمآسي الکبري الّتي ستنزل بالمسلم فرداً وجماعةً ومجتمعاً ودولةً ومؤسساتٍ نتيجة لانبعاث هذه الرّوح الشّريرة من جديد.

قال عليه السلام: «ذِمَّتِي بِماا أقُولُ رهِينة[2] وأنا بِهِ زعِيم.[3] إنَّ من صرَّحت لهُ العِبرُ عمّا بين يديهِ مِن المثُلاتِ[4] حجزتهُ التّقوي عن تقحُّمِ الشُّبُهاتِ،[5] ألا وإنّ بلِيَّتکُم قد عادت کهيئتِها[6] يوم بعثَ اللهُ نبِيَّهُ صلَّي اللهُ عليهِ وسلَّم. والّذي بعثهُ بِالحقِّ لتُبلبلُنَّ[7] بلبلةً، ولتُغربلُنَّ[8] غربلةً، ولتُساطُنَّ سوط القِدرِ[9] حتي يعُودَ أسفلُکُم أعلاکُم، وأعلاکُم أسفلکُم...».[10] .

يقول لهم: إنّ البليّة (الفساد الإجتماعي، والإنحطاط الأخلاقي والحضاري) الّتي کانت تسم الحياة العربية في الجاهلية نتيجة لسيادة قيم الجاهلية ونظرة الجاهلية إلي الکون والحياة والإنسان- هذه البليّة قد عادت کما کانت عشية بعثة الرسول الأکرم (ص) لأنّ القيم الّتي ولّدت هذه البليّة في الماضي الجاهلي قد دبّت فيها الحياة من جديد علي حساب القيم الجديدة الّتي جاء بها الإسلام، هذه القيم الّتي تقلّص نفوذها وتأثيرها، بسبب عوامل متنوعة، علي الإنسان المسلم، وأدّي ذلک إلي حدوث ثغرات نفذت منها القيم القديمة فعادت من جديد.

ثم أنذر الإمام علي مجتمعه بأنّ هذه البليّة الّتي عادت ستکون لها آثار مأساوية علي المجتمع الإسلامي.

ستنجم عن هذه البليّة الأزمات الإجتماعية والثورات الّتي ستلقي بالمجتمع في غمار حروب أهلية مدمّرة، ولا بدّ أن تکون هذه الأزمات والحروب الأهلية أضرس،وأعم شراً، وأشدّ فتکاً مِمّا کان يحدث في الجاهلية.

ستکون في المجتمع نتيجة لعودة هذه البليّة بلبلة (اختلاط وتداخل) وشد وجذب ينتج عن الأزمات والثورات ويولّدها.

وسيکون حال المجتمع- نتيجة لهذه البليّة العائدة- حال القدر التي تغلي علي النار وتختلط فيها المواد، ولا يستقر علي حال، ولا ينعم بالطمأنينة، وإنّما هو في قلق دائم، واضطراب مستمرّ.

سيؤدّي ذلک إلي الغربلة، وتمييز مواقف الرجال والجماعات، لأنّ المحن والأزمات تفرز الفئات الإجتماعية، وتحدّد سماتها.

ولکن کلّ ما سيحدث لن يتضمّن شيئاً من الخير، بل سيعود علي المجتمع بالشّرور، وسيؤدّي بالمجتمع إلي التمزق الّذي يشلّ الفاعلية، ويعطّل الطاقات الإيجابية، بل يهددها، ويعوق حرکة التقدّم.

ستکون جاهلية تتغشّي بشعارات الإسلام، جاهلية بعثتها القيم الجاهلية الّتي عادت إلي الحياة، فکانت هي، بدل القيم الإسلامية الجديدة، الأسباب الموضوعية لتحريک الإنسان المسلم في الزّمان والمکان.

هکذا يصوّر الإمام عودة التّاريخ.

وفي خطبة أخري خطبها الإمام بذي قار[11] وهو في طريقه من المدينة إلي البصرة بعد أن خرج عليه الزبير بن العوام وطلحة بن خويلد وأمّ المؤمنين عائشة فاتحين بخروجهم أبواب الفتنة الّتي عصفت بالمسلمين، والحرب الأهلية الّتي مزّقت وحدتهم... هذه الفتنة الّتي ولّدتها القيم الجاهلية الّتي تنبّأ الإمام بها في خطبته الأولي... في هذه الخطبة بيّن الإمام عليه السّلام أنّ مسيره لمواجهة المظهر الأول للفتنة هو کمسيره مع رسول اللّه (ص) لمواجهة قوي الجاهلية، وأنّ الروح المحرکة واحدة في الحالين رغم اختلاف المظهر الخارجي الّذي قد يوحي للساذجين بخلاف ذلک، ولکنّه لا يخدع الخبير.

قال عليه السلام: «... أما واللّه إن کُنتُ لفِي ساقتِها[12] حتّي تولَّت بِحذافيرِها[13] ما عجزتُ ولا جبُنتُ. وإنَّ مسيرِي هذا لِمِثلِها، فلأَنقُبنَّ[14] الباطِل حتَّي يخرُج الحقُّ مِن جنبِهِ. مالي ولِقُريش!! واللّه لقد قاتلتُهم کافرِين، ولأُقاتِلنَّهُم مفتُونين،

وإنّي لصاحِبُهُم بِالأمسِ کما أنا صاحِبُهُمُ اليومَ»).[15] .

کان الإمام يتحدث عن شأن الجاهلية في مواجهة الإسلام، وعن کفاحه مع رسول اللّه (ص) ضد الجاهلية. ثم بيّن أنّ مسيره هذا إلي البصرة لمثل ما کان يکافحه من مظاهر عناد الجاهلية في حياة رسول اللّه (ص).

إنّ التاريخ قد عاد، ولکن تحت شعارات جديدة. قال ابن أبي الحديد في شرح هذا النص: «وشبّه عليه السّلام أمر الجاهلية أمّا بعجاجة ثائرة، أو بکتيبة مقبلة للحرب، فقال: إني طردتُها، فولّت بين يديّ، ولم أزل فِي ساقتِها أنا أطردها وهي تنطرد أمامي، حتَّي تولَّت بِأسرِها، ولم يبق مِنها شي ء، ما عجزتُ عنها،ولا جبُنتُ مِنها.»

«ثمّ قال: وإنّ مسيري هذا لِمِثلِها، فلأنقُبنّ الباطِل، کأنّه قد جعل الباطل کشي ء قد اشتمل علي الحق واحتوي عليه، وصار الحق في طيّه، کالشي ء الکامن المستتر فيه، فأقسم لينقُبنّ ذلک الباطل إلي أن يخرج الحق من جنبِه».[16] .

وهکذا يصوّر الإمام عودة التاريخ حين تنشط الأسباب القديمة الّتي أنتجت الأحداث والمواقف القديمة، فتؤدّي إلي تکرار المواقف والإتجاهات ولکن تحت شعارات جديدة تتناسب مع الثقافة السائدة في المجتمع.

وثمّة نصوص أخري، غير ما ذکرنا، منثورة في نهج البلاغة، تتضمّن الدّلالة علي هذه الحقيقة.







  1. من الظواهر الهامة الّتي نقدّر أنّها تستحق من المفکرين والمؤرخين بحثاً معمقاً، ظاهرة الإنقسامات الإقليمية في العالم العربي، فإنّنا نقدّر أنّها تعبير جديد عن القبلية، تحت أسماء جديدة وبمبرّرات تلائم المناخ الثقافي الحاضر والوعي السياسي السائد. ونقدّر أنّ فشل فکرة الوحدة العربية لا يرجع فقط إلي عمل الإستعمار التخريبي وإنّما نشأ من وجود استعداد للتشرذم أعان الإستعمار علي رسم سياساته وإنجاحها في هذا المجال ولولا ذلک لما وُفِّق الإستعمار إلي بلوغ غايته.
  2. رهينة: من الرهن. جعل ذمته رهناً علي ما يقول.
  3. زعيم: کفيل بصدق ما يقول.
  4. العبر: ما أصاب النّاس من «مثلات» عقوبات إذا دعاها الإنسان علي سبيل الإعتبار، فيتعظ بتجربة الّذين أصابتهم العقوبات من قبله.
  5. الشّبهات: الأفعال والمواقف الغامضة الّتي لم يبت في الشرع الرخصة في فعلها. يريد أنّ العبرة بالماضين تحجر الإنسان عن الوقوع فيما وقعوا فيه من أخطاء.
  6. رجعت البلية کما کانت في الماضي الجاهلي.
  7. البلبلة: الإختلاط، کناية عن الأزمات الإجتماعية والثّورات.
  8. الغربلة: من الغربال: يريد أنّ التجارب الآتية ستميّز المواقف، وتکشف الأشخاص علي حقيقتهم.
  9. السوط: الخلط-سوط القدر: کما تمزج مواد الطبخ في القدر، وتختلط وتغلي سيکون المجتمع نتيجة للثّورات والأزمات الإجتماعية.
  10. نهج البلاغة- رقم الخطبة 16.
  11. ذو قار: موضع قريب من البصرة. اشتهر في التاريخ باعتباره الميدان الّذي جرت فيه، أول ظهور الإسلام، في سنة610 م معرکة بين الفرس والعرب حيث هاجم ثلاثة آلاف عربي من قبيلة بکر بن وائل المنطقة الفراتية، وهزموا الفرس هزيمة حاسمة في ذي قار.
  12. السّاقة: مؤخرة الجيش الّتي تسوقه. شبه الجاهلية بجيش مهزوم يطرده ويلاحقه.
  13. ولّت بحذافيرها: ذهبت وطردت بأسرها (الجاهلية).
  14. النقب: الثقب.
  15. نهج البلاغة: رقم الخطبة 33.
  16. ابن أبي الحديد- شرح نهج البلاغة بتحقيق محمّد أبوالفضل إبراهيم- دار إحياء الکتب العربية- القاهرة- الطبعة الأولي: 1378هجري1959 م/ ج 2 ص 186-185.