حديث زهد قيس











حديث زهد قيس



لا نحاول في البحث عن هذه النواحي في أي من التراجم سرد تاريخ امة غابرة، أو ذکريات أماثل الامة أو حثالتها في القرون الخالية فحسب، بل إنما نخوض فيها بما فيها من عظات دينية، وفلسفة أخلاقية، وحکم عملية، ومعالم روحية، ومصالح إجتماعية، ودستور في مناهج السير إلي المولي سبحانه، وبرنامج في إصلاح النفس، ودروس في التحلي بمکارم الاخلاق التي بعث لاتمامها نبي الاسلام.

وهناک نماذج من نفسيات شيعة العترة الطاهرة وما لهم دون مناوئيهم من خلاق من المکارم والفضايل والقداسة والنزاهة يحق بذلک کله أن يکون کل من نظراء قيس قدوة للبشر في السلوک إلي المولي، وقادة للخلق في تهذيب النفس، ومؤدبا للامة بالخلايق الکريمة، ومصلحا للمجتمع بالنفسيات الراقية، والروحيات السليمة، فلن تجد فيهم جرف منهال، ولاسحاب منجال[1] .

ففي وسع الباحث أن يستخرج من تاريخ تلکم النفوس القدسية من قيس ومن يصافقه في المبدء الديني، ومن ترجمة من يضادهم في التشيع بآل الله من عمرو بن العاص ومن يشاکله، حقيقة راهنة دينية أثمن وأغلي من معرفة حقايق الرجال، و الوقوف علي تاريخ الاجيال الماضية، ويمکنه أن يقف بذلک علي غاية کل من الحزبين ألعلوي والاموي مهما يکن القارئ شريف النفس، حرا في تفکيره، غير مقلد ولا أمعة، مهما حداه التوفيق إلي اتباع الحق. والحق أحق أن يتبع، غير ناکب عن الطريقة المثلي في البخوع للحقايق، والجنوح إليها.

[صفحه 90]

فخذ قيس بن سعد وعمرو بن العاص مثالا من الفريقين وقس بينهما، وضع يدک علي أي مأثرة تحاوله من طهارة مولد، وإسلام، وعقل، وحزم، وعفة، وحناء، وشمم، وإباء، ومنعة، وبذخ، وصدق، ووفاء، ووقار، ورزانة، ومجد، ونجدة، و شجاعة، وکرم، وقداسة، وزهد، وسداد، ورشد، وعدل، وثبات في الدين، وورع عن محارم الله، إلي مآثر اخري لا تحصي، تجد الاول منهما حامل عب کل منها بحيث لو تجسم أي من تلکم الصفات ليکون هو مثاله وصورته. وهل تري الثاني کذلک؟ أللهم؟ لا. بل کل منها في ذاته محکوم بالسلب، أضف إلي مخازفي المولد والمحتد والدين والفروسية والاخلاق والنفسيات کلها، وسنلمسک کل هذه بيديک عن قريب إنشاء الله تعالي.

عندئذ يعرف المنقب نفسية کل من إمامي الحزبين إذ الناس علي دين ملوکهم ويکون علي بصرة من أمرهما، وحقيقة دعوة أي منهما، وتکون أمثلتهما نصب عينيه، إن لم يتبع ألهوي، ولا تضله تعمية من يروقه جهل الامة الاسلامية بالحقايق بقوله في مقاتلي أميرالمؤمنين والخارجين عليه: إنهم کانوا مجتهدين مخطئين ولهم أجر واحد، أو بقوله: ألصحابة کلهم عدول. وإن فعل أحدهم ما فعل وجنت يداه ما جنت، وخرج عن طاعة الامام العادل، وسن لعنه وسبه وحاربه وقاتله وقتله.

فالناظر إلي هذه التراجم بعين النصفة إذا أمعن فيها بما فيها من المغازي المذکورة يعتقد بأن[2] أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدي وهدي فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة وإن السنن لنيرة لها أعلام، وإن البدع لظاهرة لها أعلام، وإن شر الناس عندالله إمام جائر ضل واضل به، فأمات سنة مأخوذة، وأحيا بدعة متروکة، وصدق بقول النبي الطاهر: يؤتي يوم القيامة بالامام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقي في نار جهنم، فيدور فيها کما تدور الرحي، ثم يرتبط في قعرها.

لعل الباحث لا يمر علي شئ من خطب سيد الخزرج وکتبه وکلمه ومحاضراته إلا ويجده طافحا بقداسة جانبه عن کل ما يلوث ويدنس من إتباع الهوي، وبزهادته

[صفحه 91]

عن حطام الدنيا، معربا عن ورعه عن محارم الله وخشونته في ذات ربه، وتعظيمه شعائر الدين، وقيامه بحق النبي الاعظم، ورعايته في أهل بيته وذويه بکل حول وطول، وبذل النفس والنفيس دون کلائة دينه وإعلاء کلمة الحق، وإرحاض معرة الباطل، وإصلاح الفاسد، وکسر شوکة المعتدين، وبعد اليأس عن صلاح امته، والعجز عن الدعوة إلي الحق، لزم عقر داره بالمدينة المشرفة بقية حياته، وأقبل علي العبادة حتي أدرکه أجله المحتوم کما ذکره إبن عبدالبر في الاستيعاب 2 ص 524.

وأوفي کلمة في زهده وعبادته ما قاله المسعودي في مروج الذهب 2 ص 63 قال: کان قيس بن سعد من الزهد والديانة والميل إلي علي بالموضع العظيم، وبلغ من خوفه لله وطاعته إياه أنه کان يصلي فلما أهوي للسجود إذا في موضع سجوده ثعبان عظيم مطرق، فمال علي الثعبان برأسه وسجد إلي جانبه، فتطوق الثعبان برقبته، فلم يقصر من صلاته، ولا نقص منها شيئا حتي فرغ ثم أخذ الثعبان فرمي به. کذلک ذکر الحسن إبن علي بن عبدالمغيرة عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن الامام علي بن موسي الرضا عليه السلام. ا ه . والحديث الرضوي هذا رواه الکشي بإسناده عنه عليه السلام في جاله ص 63.

وکان ذلک الخشوع والاقبال إلي الله في العبادة، وإفراغ القلب بکله إلي الصلاة من وصايا والده الطاهر له قال: يا بني؟ اوصيک بوصية فاحفظها فإذا أنت ضيعتها فأنت لغيرها من الامر أضيع، إذا توضأت فأتم الوضوء، ثم صل صلاة امرء مودع يري أنه لا يعود،وأظهر اليأس من الناس فإنه غني، وإياک وطلب الحوائج إليهم فإنه فقر حاضر، وإياک وکل شئ تعتذر منه تاريخ إبن عساکر 6 ص 90.

وکان من دعاء سيدنا المترجم کما في «الدرجات الرفيعة» «وتاريخ الخطيب» وغيرهما قوله: أللهم؟ ارزقني حمدا ومجدا، فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال أللهم؟ وسع علي، فإن القليل لا يسعني ولا أسعه. وفي البداية والنهاية 8 ص 100. کان قيس يقول أللهم؟ ارزقني مالا وفعالا، فإنه لا تصلح الفعال إلا بالمال.

ومعلوم ان طلب المال غير مناف للزهادة فإن حقيقة الزهد أن لايملکک المال لا أن لا تملک المال.

[صفحه 92]



صفحه 90، 91، 92.





  1. مثل يضرب. جرف منهال: إي لا حزم عنده ولاعقل. سحاب منجال: أي لا يطمع في خيره.
  2. من هنا إلي آخر الکلمة لمولانا أميرالمؤمنين الا کلمتي صدق والطاهر.