حديث دهاء قيس











حديث دهاء قيس



يجد القارئ شواهد قوية علي ذلک من مواقفه العظيمة في المغازي، ونظراته العميقة في الحروب، وآرائه المتبعة في مهمات القضايا، وأفکاره العالية في إمارته، وإعظام الامام أميرالمؤمنين محله من الدهاء، وإکباره رأيه في حکومته، فإنه لما قدم قيس من ولاية مصر علي علي، وأخبره الخبر الجاري بينه وبين رجال مصر ومعاوية علم أنه کان يقاسي امورا عظاما من المکايدة، فعظم محل قيس عنده، وأطاعه في الامر کله تاريخ الطبري 5 ص 231.

فعندها تجد سيد الخزرج قيس في الطبقة العليا من أصحاب الرأي ومن مقدمي رجالات النهي والحجا، وتشاهد هناک آيات عقله المطبوع والمکتسب، وتعده أعظم دهاة العرب حين ثارت الفتن، وسعرت نار الحرب، إن لم نقل: أعظم دهاة العالم، ونري له التقدم في الفضيلة علي الخمسة[1] الذين عدوه منهم، وأولاهم بالعقلية الناضجة، وتجد دون محله الشامخ ما في الاستيعاب 2 ص 538 وغيره[2] من: انه أحد الفضلاء الجلة من دهاة العرب من أهل الرأي والمکيدة في الحرب، مع النجدة والسخاء والشجاعة. قال الحلبي في سيرته. من وقف علي ما وقع بينه وبين معاوية لرأي العجب من وفور عقله. وقال إبن کثير في البداية 8 ص 99: ولاه علي نيابة مصر وکان يقاوم بدهائه وخديعته وسياسته لمعاوية وعمرو بن العاص.

وکان الامام السبط الحسن يوصي أمير عسکره عبدالله بن العباس وهو أمير إثني عشر ألفا من فرسان العرب، وقراء مصر بمشاورة قيس بن سعد والمراجعة إليه في مهام الحرب مع معاوية والاخذ برأيه في سياسة الجيش، کما يأتي حديثه.

وکان ثقيلا جدا علي معاوية وأصحابه، ولما قدم قيس إلي المدينة من مصر

[صفحه 73]

أخافه مروان والاسود بن أبي البختري فظهر قيس إلي علي عليه السلام فکتب معاوية إلي مروان والاسود يتغيظ عليهما ويقول: أمددتما عليا بقيس بن سعد ورأيه و مکايدته، فوالله لو انکما أمددتماه بمأة ألف مقاتل ما کان ذلک بأغيظ إلي من إخراجکما قيس بن سعد إلي علي تاريخ الطبري 6 ص 53 وعالج معاوية قلوب أصحابه وأمنهم من ناحية قيس بإفتعال کتاب عليه وقرائته علي أهل الشام کما يأتي تفصيله.

وکان قيس يري نفسه في المکيدة والدهاء فوق الکل وأولي الجميع ويقول: لولا أني سمعت من رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: ألمکر والخديعة في النار. لکنت من أمکر هذه الامة[3] ويقول: لولا الاسلام لمکرت مکرا لا تطيقه العرب[4] .

فشهرته بالدهاء مع تقيد المعروف بالدين، وکلاءته حمي الشريعة، وإلتزامه البالغ في إعمال الرأي بما يوافق رضي مولاه سبحانه، وکفه نفسه عما يخالف ربه، تثبت له الاولوية والتقدم والبروز بين دهاة العرب، ولا يعادله من الدهاة الخمسة الشهيرة أحد إلا عبدالله بن بديل وذلک لاشتراکهما في المبدء، وإلتزامهما بالدين الحنيف، والکف عن الهوي، والوقوف عند مضلات الفتن.

وکلامه لمالک الاشتر مالک وما مالک؟ ينم عن غزارة عقله، وحسن تدبيره، وإستقامة رأيه، وقوة إيمانه، وهو من غرر الکلم، ودرر الحکم، رواه شيخ الطايفة في أماليه ص 86 في حديث طويل فقال: قال الاشتر لعلي عليه السلام: دعني يا أميرالمؤمنين؟ اوقع بهؤلاء الذين يتخلفون عنک. فقال له: کف عني. فانصرف الاشتر وهو مغضب، ثم إن قيس بن سعد لقي مالکا في نفر من المهاجرين والانصار فقال: يا مالک؟ کلما ضاق صدرک بشيئ أخرجته، وکلما إستبطأت أمرا إستعلجته، إن أدب الصبر: ألتسليم، وأدب العجلة: ألاناة، وإن شر القول: ما ضاهي العيب، وشر الرأي: ما ضاهي التهمة، فإذا ابتليت فاسأل، وإذا امرت فأطع، ولا تسأل قبل البلاء، ولا تکلف قبل أن ينزل الامر، فإن في أنفسنا ما في نفسک، فلا تشق علي صاحبک.

[صفحه 74]

ولما بويع أميرالمؤمنين بلغه: ان معاوية قد وقف من إظهار البيعة له وقال: إن أقرني علي الشام وأعمالي التي ولانيها عثمان بايعته. فجاء المغيرة إلي أميرالمؤمنين فقال له: يا أميرالمؤمنين؟ إن معاوية من قد عرفت وقد ولاه الشام من کان قبلک فوله أنت کيما تتسق عري الامور ثم اعز له إن بدالک فقال أميرالمؤمنين: أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلي خلعه؟ قال: لا. قال: لا يسألني الله عزوجل عن توليته علي رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبدا، وما کنت متخذ المضلين عضدا، لکن أبعث إليه وأدعوه إلي ما في يدي من الحق، فإن أجاب فرجل من المسلمين، له مالهم، و عليه ماعليهم، وإن أبي حاکمته إلي الله، فولي المغيرة وهو يقول: فحاکمه إذا، فحاکمه إذا، فأنشأ يقول:


نصحت عليا في ابن حرب نصيحة
فرد فما مني له الدهر ثانيه


ولم يقبل النصح الذي جئته به
وکانت له تلک النصيحة کافيه


وقالوا له: ما أخلص النصح کله
فقلت له: إن النصيحة غاليه


فقام قيس بن سعد فقال: يا أميرالمؤمنين؟ إن المغيرة أشار عليک بأمر لم يرد الله به، فقدم فيه رجلا وأخر فيه اخري، فإن کان لک الغلبة يقرب إليک بالنصيحة، و إن کانت لمعاوية يقرب إليه بالمشورة. ثم أنشأ يقول:


يکاد ومن أرسي بثيرا مکانه[5] .
مغيرة أن يقوي عليک معاويه


وکنت بحمد الله فينا موفقا
وتلک التي أرءاکها غير کافيه


فسبحان من علا السماء مکانها
وأرضا دحاها فاستقرت کماهية


فکان هو صاحب الرأي الوحيد بعين الامام الطاهر تجاه تلک الآراءالتعسة الفارغة عن النزعات الروحية في کل منحسة ومتعسة بين حاذف وقاذف[6] .



صفحه 73، 74.





  1. هم: معاوية. عمرو بن العاص. قيس بن سعد. المغيرة بن شعبة. عبدالله بن بديل: راجع تاريخ الطبري 6 ص 94، کامل ابن الاثير 3 ص 143، اسد الغابة 4 ص 215.
  2. اسد الغابة 4 ص 215، الاصابة 3 ص 249، تهذيب التهذيب 8 ص 395، السيرة الحلبية 3 ص 93.
  3. اسد الغابة 4 ص 215، تاريخ ابن کثير 8 ص 101.
  4. الدرجات الرفيعة، الاصابة 3 ص 249.
  5. الواو: للقسم. بثير مصغرا. جبل معروف بمني.
  6. مثل يضرب لمن هوبين شرين: الحاذف بالعصا، القاذف بالحصا.