الكميت وحياته المذهبية











الکميت وحياته المذهبية



يجد الباحث في خلال السير وزبر الحديث شواهد واضحة علي أن الرجل لم يتخذ شاعريته وما کان يتظاهر به من التهالک في ولاء أهل البيت عليهم السلام، وسيلة لما يقتضيه النهمة، وموجبات الشره من التلمظ بما يستفيده من الصلات و الجوائز، أو تحري مسانحات وجرايات، أو الحصول علي رتبة أو راتب، أني؟ و آل رسول الله کما يقول عنهم دعبل الخزاعي:


أري فيئهم في غيرهم متقسما
وأيديهم من فيئهم صفرات


وهم سلام الله عليهم فضلا عن شيعتهم.


مشردون نفوا عن عقر دارهم
کأنهم قد جنوا ما ليس يغتفر

[صفحه 198]

وقد انهالت الدنيا قضها بقضيضها علي أضدادهم يوم ذلک من طغمة الامويين ولو کان المتطلب يطلب شيئا من حطام الدنيا، أو حصولا علي مرتبة، أو زلفة تربي به لطلبها من أولئک المتغلبين علي عرش الخلافة الاسلامية، فرجل يلوي بوجهه عنهم إلي اناس مضطهدين مقهورين، ويقاسي من جراء ذلک الخوف والاختفاء تتقاذف به المفاوز والحزون، مفترعا ربوة طورا، ومسفا إلي الاحضة تارة، وورائه الطلب الحثيث، وبمطلع الاکمة النطح والسيف، ليس من الممکن أن يکون ما يتحراه إلا خاصة فيمن يتولاهم، لا توجد عند غيرهم، وهذا هو شأن الکميث مع أئمة الدين عليهم السلام فقد کان يعتقد فيهم أنهم وسائله إلي المولي سبحانه، وواسطة نجاحه في عقباه، وإن مؤدتهم أجر الرسالة الکبري.

روي الشيخ الاکبر الصفار في «بصاير الدرجات» باسناده عن جابر قال: دخلت علي الباقر عليه السلام فشکوت إليه الحاجة فقال: ما عندنا درهم. فدخل الکميت فقال: جعلت فداک أنشدک؟ فقال: انشد فأنشده قصيدة فقال: يا غلام؟ اخرج من ذلک البيت بدرة فادفعها إلي الکميت. فقال: جعلت فداک أنشدک اخري؟ فانشده فقال: يا غلام؟ اخرج بدرة فادفعها إليه. فقال: جعلت فداک أنشدک اخري؟ فانشده فقال: يا غلام؟ اخرج بدرة فافعها إليه. فقال: جعلت فداک والله ما احبکم لعرض الدنيا وما أردت بذلک إلا صلة رسول الله وما أوجب الله علي من الحق. فدعا له الباقر عليه السلام فقال: يا غلام ردها إلي مکانها. فقلت: جعلت فداک قلت لي: ليس عندي درهم وأمرت الکميت بثلاثين ألفا[1] فقال: ادخل ذلک البيت. فدخلت فلم أجد شيئا، فقال: ما سترنا عنکم أکثر مما أظهرنا. ألحديث.

قال صاعد: دخلنا مع الکميت علي فاطمة بنت الحسين عليه السلام فقالت: هذا شاعرنا أهل البيت وجاءت بقدح فيه سويق فحرکته بيدها وسقت الکميت فشربه ثم أمرت له بثلاثين دينارا ومرکب، فهملت عيناه وقال: لا والله لا أقبلها إني لم احبکم للدنيا. «الاغاني» 15 ص 123.

وللکميت في رده الصلات الطايلة علي سروات المجد من بني هاشم مکرمة

[صفحه 199]

ومحمدة عظيمة أبقت له ذکري خالدة وکل من تلکم المواقف شاهد صدق علي خالص ولائه و قوة ايمانه، وصفاء نيته، وحسن عقيدته، ورسوخ دينه، وإباء نفسه، وعلو همته، وثباته في مبدئه العلوي المقدس، وصدق مقاله للامام السجاد زين العابدين عليه السلام:

إني قد مدحتک أن يکون لي وسيلة عند رسول الله ويعرب عن ذلک کله صريح قوله:للامام الباقر محمد بن علي عليهماالسلام: والله ما احبکم لعرض الدنيا وما أردت بذلک إلا صلة رسول الله وما أوجب الله علي من الحق. وقوله الآخر عليه السلام:ألا والله لا يعلم أحد أني آخذ منها حتي يکون الله عزوجل الذي يکافيني. وقوله للامامين الصادقين عليهماالسلام: والله ما أحببتکم للدنيا ولو أردتهالاتيت من هو في يديه ولکني أحببتکم للآخرة. وقوله لعبدالله بن الحسن بن علي عليه السلام: والله ما قلت فيکم إلا لله وما کنت لآخذ علي شيئ جعلته لله مالا ولا ثمنا. وقوله لعبدالله الجعفري: ما أردت بمدحي إياکم إلا الله ورسوله، ولو أک لآخذ لکم ثمنا من الدنيا. وقوله لفاطمة بنت الامام السبط: والله إني لم احبکم للدنيا. وهذا شأن الشيعة سلفا وخلفا، وشيمة کل شيعي صميم، وأدب کل متضلع بالنزعات العلوية، وروح کان علوي جعفري، وهذا شعار التشيع ليس إلا. وبمثل هذا فيعمل العاملون.

وکان أئمة الدين ورجالات بني هاشم يلحون في أخذ الکميت صلاتهم، و قبوله عطاياهم، مع إکبارهم محله من ولائه، وإعتنائهم البالغ بشأنه، والاحتفاء و التبجيل له، والاعتذار عنه بمثل قوم الامام السجاد صلوات الله عليه له: ثوابک نعجز عنه ولکن ماعجزنا عنه فإن الله لا يعجز عن مکافاتک. وهو مع ذلک کله کان علي قدم وساق من إباءه وإستعفاءه إظهارا لولاءه المحض لآل الله، وقد مر انه رد علي الامام السجاد عليه السلام أربعمائة ألف درهم وطلب من ثيابه التي تلي جسده ليتبرک بها. ورد علي الامام الباقر مائة ألف مرة، وخمسين ألف اخري وطلب قميصا من قمصه. ورد علي الامام الصادق ألف دينار وکسوة واستدعي منه أن يکرمه بالثوب الذي مس جلده. ورد علي عبدالله بن الحسين ضيعته التي أعطي له کتابها وکانت تسوي بأربعة آلاف دينار. ورد علي عبدالله الجعفري ما جمع له من بني هاشم ما کان يقدر بمائة ألف درهم.

[صفحه 200]

فکل من هذه خبر يصدق الخبر بان مدح الکميت عترة نبيه الطاهر وولائه لهم، وتهالکه بکله في حبهم، وبذله النفس والنفيس دونهم، ونيله من مناوئيهم، ونصبه العداء لمخالفيهم، لم يکن إلا لله ولرسوله فحسب، وما کان له غرض من حطام الدنيا وزخرفها، ولا مرمي من الثواب العاجل دون الآجل، وکل واقف عي شعره يراه کالباحث بظلفه عن حتفه، ويجده مستقتلا بلسانه، قد عرض لبني امية دمه، مستقبلا صوارمهم کما نص عليه الامام زين العابدين عليه السلام وقال: أللهم إن الکميت جاد في آل رسولک وذرية نبيک نفسه حين ضن الناس، وأظهر ما کتمه غيره. وقال عبدالله الجعفري لبني هاشم؟ هذا الکميت قال فيکم الشعر حين صمت الناس من فضلکم وعرض دمه لبني امية. وخالد القسري لما أراد قتله رأي في شعره غني وکفاية عن أي حيلة وسعاية عليه، فاشتري جارية وعلمها الهاشميات وبعثها إلي هشام بن عبدالملک وهو لما سمعها منها قال: استقتل المرائي. وکتب إلي خالد بقتله وقطع لسانه ويده.

فکان الکميت منذ غضاضة من شبيبته التي نظم فيها «الهاشميات» خائفا يترقب طيلة عمره مختفيا في زوايا الخمول إلي أن أقام بقريضه الحجة، وأوضح به المحجة، و أظهر به الحق، وأتم به البرهنة، وبلغ ضالته المنشودة من بث الدعاية إلي العترة الطاهرة، فلما دوخ صيت شعره الاقطار، وقرطت به الآذان، ودارت علي الالسن إستجاز الامام أبا جعفر الباقر عليه السلام أن يمدح بني امية صونا لدمه فأجاز له، رواه أبوالفرج في «الاغاني» 15 ص 126 باسناده عن ورد بن زيد أخي الکميت قال:أرسلني الکميت إلي أبي جعفر عليه السلام فقلت له: إن الکميت أرسلني إليک وقد صنع بنفسه ما صنع فتأذن له أن يمدح بني امية؟ قال: نعم هو في حل فليقل ما شاء. فنظم قصيدته الرائية التي يقول فيها.


فالآن صرت إلي امي
ة والامور إلي المصاير


ودخل علي أبي جعفر عليه السلام فقال له: يا کميت؟ أنت القائل:


فالآن صرت إلي امي
ة والامور إلي المصاير

[صفحه 201]

قال: نعم، قد قلت ولا والله ماأردت به[2] إلا الدنيا ولقد عرفت فضلکم قال: أما إن قلت ذلک إن التقية لتحل.

وروي الکشي في رجاله ص 135 باسناده عن درست بن أبي منصور قال: کنت عند أبي الحسن موسي عليه السلام وعنده ألکميت بن زيد فقال للکميت: أنت الذي تقول:


فالآن صرت إلي امي
ة والامور إلي المصاير


قال: قد قلت ذلک فوالله مارجعت عن ايماني، وإني لکم لموال، ولعدوکم لقال، ولکني قلته علي التقية. قال: أما لان قلت ذلک إن التقية تجوز في شرب الخمر. لفت نظر أحسب ان الامام المذکور في حديث الکشي هو أبوعبدالله الصادق عليه السلام ولا يتم ما فيه من أبي الحسن موسي عليه السلام، إذا الکميت توفي بلا اختلاف أجده سنة 126 قبل ولادة أبي الحسن موسي بسنتين أو ثلاث. کما لا يتم القول باتحاده مع حديث أبي الفرج المروي عن الامام أبي جعفر إذ درست بن أبي منصور لا يروي عنه عليه السلام وليس من تلک الطبقة.



صفحه 198، 199، 200، 201.





  1. في مناقب ابن شهر اشوب 5 ص 7: خمسين الف درهم.
  2. اي اراد بقوله: صرت. مصير الدنيا اليهم لا الخلافة.