مقدمة التحقيق











مقدمة التحقيق



الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام علي اشرف رسله محمد نبيه الامين، صلوات اللّه عليه وعلي اهل بيته الائمة الميامين، معدن التقي، والعروة الوثقي.

وبعد:

ان تراثنا الثري الذي وصلنا من سلفنا صانعي المجد والمعبر عن نهضة امتنا وهويتها قد ضم في ثناياه ما لا يحصي کثرة من الکنوز التي تکشفت لنا ولا تزال تتکشف يوما بعد يوم، وذلک يستدعينا ان نرفع دوما رؤوسنا باعتزاز وشعور ملؤه الفخر والکبرياء، حيث ان تراثنا لم يکن يوما ما ترفا فکريا، وفيه تجلت حضارتنا ونجت من الاضمحلال.

ولا يخفي علي کل متتبع کثرة الصرخات التي اطلقها اعداء التراث الاسلامي، وکم سعوا في تجريد المسلمين عما يملکه الاسلام من مقومات حضارية؟ وکم ارادوا من زعزعة ثقتنا في تراثنا الثمين والتجاوز علي ذخائره؟ وکم وجهوا الينا من مطاعن ومثالب؟ وکم...؟

غير ان تلک الصرخات لم تکن الا صيحة في واد، لانها مغرضة لم يرد منها الا الشر، ولم يبعثها الا الشر، فيوم يوجهون سهامهم نحو کتابنا العزيز، وفي آخر نحو سنتنا الثابتة، وفي آخر نحو لغتنا الاصيلة، وفي آخر نحو علمائنا الاعلام

[صفحه 8]

واساطين المذهب، وفي آخر نحو عقولنا السليمة، وهکذا دواليک، وما فتئوا يحاربوننا بکل ما اوتوا من قوة، لکنهم عادوا في خزيهم تعلوهم الخيبة، وبقي تراثنا مشعلا للتراث الانساني، ومنارا للعلم والفضيلة، ودعامة قوية في صرح الحضارات العالمية، وفيضا يغذي الارض بالحياة والهدي والنور المرقرق الدفاق.[1] .

واستتبع مواضع اقدام اولئک الاعداء من حسب علينا من ضعاف اليقين وسذج التفکير، او ممن امتاز بضحالة معرفته بتاريخ تراثنا الاسلامي، فاخذ يضرب علي وتر نغماتهم، وبدا يقتنص تلک النغمات وينظمها بتنظيم جديد، محاولا القطع بين ماضينا وحاضرنا، متعمدا الغاء الوعي الجماهيري، مسايرا اهواء ورغبات زعمائه واربابه.

ومن هنا يتوجب علينا في ظل الفترة الدقيقة الراهنة التي تجتازهاامتنا تعبئة کل الجهود والامکانات للرقي بوجودنا الي وجود اعز وافضل، وصحيح ان امتنا قد مرت بعصور ازدهار وانحطاط الا انهاامة عريقة، ولا تستطيع ان تحمي وجودها وتتابع سيرها علي مراقي تقدمها ما لم تستقري ء ماضي خطواتها علي درب الزمن،وتدرک سر قوتها وبقائها، وعوامل ضعفها وتخلفها.

وان قضية تراثنا في جوهرها قضية وجود ومصير تتسع ابعادها زمانا فتستوعب الماضي والحاضر والمستقبل، واذا اردنا لتراثنا ان ياخذ مکانه المرموق بين قضايانا الحيوية ما علينا الا التصدي لنشره ووضعه في موضعه الصحيح من هذه الحرب العلمية، فانه بمثابة العامل الحي الذي يحيط بکل فعاليات الامة ومکتسباتها.

ومما يؤسف له ان لفظ «التراث» قد حد بحدود لدي الکثيرين ممن تقع

[صفحه 9]

علي عاتقهم مسؤولية اقامته وصيانته، بل والنهل من هذا البحر المعطاء، واصبح التراث لديهم وکانه مخطوطات قديمة في علوم العربية والاسلام قد اکل عليها الزمن وشرب، تحتاج لمن ينفض عنها الغبار قبل ان يقوم باي شي ء آخر.

فقد غاب عنهم ان تراثنا هو معاد معنوي، وهو غذاء وضياء، قد استوعب ثمار عقول سلفنا الصالح في مختلف مجالات العلم والمعرفة، من رياضيات ونجوم وکيمياء وطب، وغيرها من العلوم التي تکمن في اعماق جذور ذاتنا، والتي لاتجد من يعني بها، وان تلک النهضة الجبارة قد سبقت ظهور المطبعة واجهزة الاعلام والنشر، فاعتمد الکتاب علي الخط والنسخ في الجمع والتدوين والتاليف والنشر، وان صرف النظر عن الماضي من المحال، لانه صرف عن الزمان، وصرف عن الذات، والزمان قطعة منا وعبثا نرتبه في الذات الي ماض وحاضر ومستقبل، ونقسمه الي ساعات وايام، فنحن نعيش الزمان کله، شئنا ذلک ام ابينا، بالقوة او بالفعل، يقول ذلک علم النفس، ويحکيه علم الاجتماع.[2] .

ولا يغيب عن بالنا ان امتنا في الوقت الذي کانت تعيش فيه نهضتها المبارکة کان الغرب الاوربي يعيش في ظلمات عصوره الوسطي.

تقول الدکتورة عائشة عبدالرحمن «بنت الشاطي ء»:

کانت النهضة العلمية تساير عصور القوة للدول الثلاث، وکان بيت الحکمة في بغداد، ومکتبة العزيز في القاهرة، ومکتبة الزهراء في قرطبة، عنوان هذه النهضة، ورمزا معبرا عنها، وآية من آيات عزها.

کما کانت دور الکتب العامرة في المشرق، ومن اشهرها: مکتبة المدرسة النظامية، وخزائن کتب النجف الاشرف، وخزانة سيف الدولة في حلب، والمدرسة النورية، ومکتبة ابي الفدا في حماة، والظاهرية في دمشق، وبني عمار

[صفحه 10]

في طرابلس...

وفي المغرب مکتبات: الجامع الاعظم في القيروان، وجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين في فاس، والحکمة في مراکش، والجامع الاعظم في مکناس...

کانت هذه الدور الثقافية وامثالها مما لا يتسع المجال لاستيعابه، تعطي تفسيرا تاريخيا لهذه النهضة التي حملت امتنا لواءها في العصر الوسيط.[3] .

ومن ثم لا تلبث جيوش هولاکو ان تندفع الي المشرق کالاعصار المارد، فتتهاوي حينئذ حصون الشرق الاسلامي حصنا في اثرحصن، وانهدت صروحنا العلمية وکنوز ثقافتنا ومعالم حضارتنا، حتي قيل: ان الکتب قد سدت مجري دجلة، وجاز الناس عليها مابين شطيه کانها جسر معقود.

وهناک في اقصي المغرب لقيت مکتبة الزهراء ودور العلم بالاندلس نفس المصير الذي لقيته دور المشرق، وان اختلفت الاسباب.

وفي ظلمة الليل الغاشي هان تراثنا علي قومنا وهم في سباتهم ابان العصر الترکي، وجهلوا قدره، فلم يعودوا يرون فيه وفي ماضينا سوي رکام هين لا قيمة له، او اکفان موتي واضرحة قبور خاوية.

وتزامنت افاقة اوربا من سباتها المظلم مع ذلک التدهور التاريخي لتراثنا، وقد انار فکرنا الاسلامي مسري اوربا الي عصر نهضتها الحديثة.

وما ان تمت عملية انتقال الحضارة من المشرق الي المغرب ازداد حرص اهل الغرب علي تراثنا الراحل عنا والحال لديهم، ولم يکتفوا بما وصل اليهم من ذخائرنا بل اخذوا بتجنيد الشياطين والابالسة ممن عد منهم او منا لسلب ما تبقي في ايدينا کي يتسني لهم اکتشاف سر وجودنا، وطبيعة مزاجنا، وملامح عقليتنا،

[صفحه 11]

فيسهل استعمارنا عند ذلک، هذا من جهة.

ومن جهة اخري ان هذا تراث مشترک لا يصح ان يتخلي عنه من تحضر عن مسؤوليته في الکشف به عن معالم التطور البشري مابين الماضي والحاضر، وقد قيل: ان نابليون جاء معه بجنود من العلماء لدراسة احوال الشعب المصري والکشف عن اسرار تاريخه القديم.

وفي نفس الوقت لا ننکر ان لهم الفضل ولا زالوا في حفظ تراثنا الواصل اليهم والمساهمة بنشره ايضا، الا ان تعصبهم لدينهم وقومياتهم ترک آثارا فيما نشروا، فنشاهد الکثير من التواء الاساليب واضطراب المناهج والاعتساف في تاويل النصوص، وکنتيجة لذلک فانها تعطي نتائج محرفة تخدش عقيدتنا، وتؤيد تلک المزاعم التي يتبجح بها اعداؤنا.


صفحه 8، 9، 10، 11.








  1. نفائس المخطوطات بتحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين: 5.
  2. من وحي الحسين للدکتور مهدي فضل اللّه: 38.
  3. تراثنا بين ماض وحاضر: 29-28.