وصايا الجليل جلّ وعلا لنبيّه الأكرم محمّد















وصايا الجليل جلّ وعلا لنبيّه الأکرم محمّد



1/8108- عن أميرالمؤمنين صلوات اللَّه عليه: إنّ النبيّ صلي الله عليه و آله سأل ربّه سبحانه ليلة المعراج، فقال: يا ربّ أيّ الأعمال أفضل؟ فقال اللَّه عزّ وجلّ: ليس شي‏ء عندي أفضل من التوکّل عليّ والرضي بما قسمت.

يا محمّد وجبت محبّتي للمتحابّين فيّ، ووجبت محبّتي للمتعاطين فيّ، ووجبت محبّتي للمتواصلين فيّ، ووجبت محبّتي للمتوکّلين عليّ، وليس لمحبّتي علم ولا غاية ولا نهاية، وکلّما رفعت لهم علماً وضعت لهم علماً اُولئک الذين نظروا الي المخلوقين بنظري إليهم، ولا يرفعوا الحوائج إلي الخلق، بطونهم خفيفة في أکل الحرام (حلال)، نعيمهم في الدنيا ذکري ومحبّتي ورضائي عنهم.

يا أحمد إن أحببت أن تکون أورع الناس فازهد في الدنيا وارغب في الآخرة. فقال: إلهي کيف أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة؟ قال: خُذ من الدنيا خِفّاً من الطعام والشراب واللباس ولا تدّخر لغد ودم علي ذکري. فقال: يا ربّ وکيف

[صفحه 141]

أدوم علي ذکرک؟ فقال: بالخلوة عن الناس وبغضک الحلو والحامض وفراغ بطنک وبيتک من الدنيا.

يا أحمد فاحذر أن تکون مثل الصبيّ إذا نظر إلي الأخضر والأصفر (أحبّه)، وإذا اُعطي شيئاً من الحلو والحامض اغترّ به. فقال: يا ربّ دلّني علي عمل أتقرّب به إليک، فقال: اجعل ليلک نهاراً ونهارک ليلاً، قال: يا ربّ کيف ذلک؟ قال: اجعل نومک صلاة وطعامک الجوع.

يا أحمد وعزّتي وجلالي ما من عبدٍ مؤمن ضمن لي بأربع خصال إلّا أدخلته الجنّة: أن يطوي لسانه فلا يفتحه إلّا بما يعنيه، ويحفظ قلبه من الوسواس، ويحفظ علمي ونظري إليه، ويکون قرّة عينه الجوع.

يا أحمد لو ذقت حلاوة الجوع والصمت والخلوة، وما ورثوا منها، قال: يا ربّ ما ميراث الجوع؟ قال: الحکمة وحفظ القلب والتقرّب إليّ والحزن الدائم وخفّة المؤنة بين الناس، وقول الحق، ولا يبالي عاش بيسر أو بعسر.

يا أحمد هل تدري بأيّ وقت يتقرّب العبد إليّ؟ قال: لا يا ربّ، قال: إذا کان جايعاً أو ساجداً.

يا أحمد عجبت من ثلاثة عبيد: عبددخل في الصلاة وهو يعلم إلي من يرفع يديه وقدّام من هو وهو ينعس، وعجبت من عبدٍ له قوت يوم من الحشيش أو غيره وهو يهتمّ لغدٍ، وعجبت من عبدٍ لا يدري أنّي راضٍ عنه أم ساخط عليه وهو يضحک.

يا أحمد إنّ في الجنّة قصراً من لؤلؤة، ودرّة فوق درّة ليس فيها قصم ولا وصل، فيها الخواص، أنظر إليهم کلّ يوم سبعين مرّة، واُکلّمهم کلّما نظرت إليهم وأزيد في ملکهم سبعين ضعفاً، وإذا تلذّذ أهل الجنّة بالطعام والشراب تلذّذوا بکلامي وذکري وحديثي، قال: يا ربّ ما علامات اُولئک؟ قال: (هم في الدنيا) مسجونون،

[صفحه 142]

قد سجنوا ألسنتهم من فضول الکلام، وبطونهم من فضول الطعام.

يا أحمد إنّ المحبّة للَّه هي المحبّة للفقراء، والتقرّب إليهم، قال: يا ربّ ومن الفقراء؟ قال: الذين رضوا بالقليل، وصبروا علي الجوع، وشکروا علي الرخاء، ولم يشکوا جوعهم ولا ظمأهم، ولم يکذبوا بألسنتهم، ولم يغضبوا علي ربّهم، ولم يغتمّوا علي ما فاتهم، ولم يفرحوا بما آتاهم.

يا أحمد محبّتي محبّة للفقراء فأَدنِ الفقراء وقرّب مجلسهم منک، وأبعد الأغنياء وأبعد مجلسهم منک فإنّ الفقراء أحبّائي.

يا أحمد لا تتزيّن بلبس (بلين) اللباس، وطيب الطعام، ولين الوطاء، فإنّ النفس مأوي کلّ شرّ، وهي رفيق کلّ سوء، تجرّها إلي طاعة اللَّه، وتجرّک إلي معصيته، وتخالفک في طاعته، وتطيعک فيما تکره، وتَطغي إذا شبعت، وتشکو إذا جاعت، وتغضب إذا افتقرت، وتتکبّر إذا استغنت، وتنسي إذا کبرت، وتغفل إذا أمنت، وهي قرينة الشيطان، ومثل النفس کمثل النعامة تأکل الکثير وإذا حمل عليها لا تطير، وکمثل الدفلي لونه حسن وطعمه مرّ.

يا أحمد أبغض الدنيا وأهلها وأحبّ الآخرة وأهلها، قال: يا ربّ ومن أهل الدنيا ومن أهل الآخرة؟ قال: أهل الدنيا من کثر أکله وضحکه ونومه وغضبه، قليل الرضا لا يعتذر إلي من أساء إليه، ولا يقبل عذر من اعتذر إليه، کسلان عند الطاعة، شجاع عند المعصية، أمله بعيد وأجله قريب، لا يحاسب نفسه، قليل المنفعة کثير الکلام، قليل الخوف، کثير الفرح عند الطعام، وإنّ أهل الدنيا لا يشکرون عند الرخاء ولا يصبرون عند البلاء، کثير الناس عندهم قليل، يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون، ويدّعون بما ليس لهم، ويتکلّمون بما يتمنّون، ويذکرون مساوي الناس ويخفون حسناتهم.

قال: يا ربّ کلّ هذا العيب في أهل الدنيا؟ قال: يا أحمد إنّ عيب أهل الدنيا

[صفحه 143]

کثير، فيهم الجهل والحمق، لا يتواضعون لمن يتعلّمون منه، وهم عند أنفسهم عقلاء وعند العارفين حمقاء.

يا أحمد إنّ أهل الخير وأهل الآخرة رقيقة وجوههم، کثير حياؤهم، قليل حمقهم، کثير نفعهم، قليل مکرهم، الناس منهم في راحة وأنفسهم منهم في تعب، کلامهم موزون، محاسبين لأنفسهم، متعبين لها، تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، أعينهم باکية وقلوبهم ذاکرة، إذا کتب الناس من الغافلين کتبوا من الذاکرين، في أوّل النعمة يحمدون وفي آخرها يشکرون، دعاؤهم عند اللَّه مرفوع، وکلامهم مسموع، تفرح الملائکة بهم، ويدور دعاؤهم تحت الحجب يحبّ الربّ أن يسمع کلامهم کما تحبّ الوالدة الولد، ولا يشغلهم (عن اللَّه شي‏ء) طرفة عين، ولا يريدون کثرة الطعام ولا کثرة الکلام، ولا کثرة اللباس، الناس عندهم موتي واللَّه عندهم حيّ قيّوم کريم، يدعون المدبرين کرماً، ويريدون المقبلين تلطّفاً، قد صارت الدنيا والآخرة عندهم واحدة، يموت الناس مرّة ويموت أحدهم في کلّ يوم سبعين مرّة من مجاهدة أنفسهم ومخالفة هواهم، والشيطان الذي يجري في عروقهم، ولو تحرّکت ريح لزعزعتهم، وإن قاموا بين يديّ کأنهم بنيان لا أري في قلبهم شغلاً لمخلوق.

فو عزّتي وجلالي لأحيينّهم حياة طيّبة إذا فارقت أرواحهم من جسدهم، لا اُسلّط عليهم ملک الموت ولا يلي قبض روحهم غيري، ولأفتحنّ لروحهم أبواب السماء کلّها، ولأرفعنّ الحجب کلّها دوني، ولآمرنّ الجنان فلتزيننّ والحور العين فلتزفنّ والملائکة فلتصلّين والأشجار فلتثمرنّ وثمار الجنّة فلتدلينّ، ولآمرنّ ريحاً من الرياح التي تحت العرش، فلتحملنّ جبالا من الکافور والمسک الأذفرفلتصيرنّ وقوداً من غير النار فتدخلنّ به، ولا يکون بيني وبين روحه ستر فأقول له عند قبض روحه: مرحباً وأهلاً بقدومک عليَّ، اصعد بالکرامة والبشري والرحمة والرضوان، وجنّات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبداً إنّ اللَّه عنده أجر عظيم،

[صفحه 144]

فلو رأيت الملائکة کيف يأخذ بها واحد ويعطيها الآخر.

يا أحمد إنّ أهل الآخرة لا يهنؤهم الطعام منذ عرفوا ربّهم، ولا تشغلهم مصيبة منذ عرفوا سيّئاتهم، يبکون علي خطاياهم، يتعبون أنفسهم ولا يريحونها، وأنّ راحة أهل الجنّة في الموت، والآخرة مستراح العابدين، مونسهم دموعهم التي تفيض علي خدودهم، وجلوسهم مع الملائکة الذين عن أيمانهم وعن شمائلهم، ومناجاتهم مع الجليل الذي فوق عرشه، وإنّ أهل الآخرة قلوبهم في أجوافهم قد قُرِحَت يقولون: متي نستريح من دار الفناء إلي دار البقاء.

يا أحمد هل تعرف ما للزاهدين عندي (في الآخرة)؟ قال: لا يا ربّ، قال: يبعث الخلق ويناقشون بالحساب، وهم من ذلک آمنون، إنّ أدني ما اُعطي للزاهدين في الآخرة أن اُعطيهم مفاتيح الجنان کلّها حتّي يفتحوا أيّ باب شاؤوا ولا أحجب عنهم وجهي، ولاُنعمنّهم بألوان التلذّذ من کلامي، ولاُجلسنّهم في مقعد صدقٍ واُذکرنّهم ما صنعوا وتعبوا في دار الدنيا، وأفتح لهم أربعة أبواب: باب تدخل عليهم الهدايا منه بکرةً وعشياً من عندي، وباب ينظرون منه إليّ کيف شاؤوا بلا صعوبة، وباب يطّلعون منه إلي النار فينظرون منه إلي الظالمين کيف يعذّبون، وباب يدخل عليهم من الوصايف والحور العين، قال: يا ربّ من هؤلاء الزاهدون الذين وصفتهم؟ قال: الزاهد هو الذي ليس له بيت يخرب فيغتمّ بخرابه، ولا له ولد يموت فيحزن لموته، ولا له شي‏ء يذهب فيحزن لذهابه، ولا يعرفه إنسان يشغله عن اللَّه طرفة عين، ولا له فضل طعام ليسأل عنه، ولا له ثوب ليّن.

يا أحمد وجوه الزاهدين مصفرّة من تعب الليل وصوم النهار، وألسنتهم کلال إلّا من ذکر اللَّه تعالي، قلوبهم في صدورهم مطعونة من کثرة ما يخالفون أهواءهم، قد أضمروا أنفسهم من کثرة صمتهم، قد أعطوا المجهودة من أنفسهم لا من خوف نار ولا من شوق جنّة، ولکن ينظرون في ملکوت السماوات والأرض فيعلمون أنّ

[صفحه 145]

اللَّه سبحانه وتعالي أهل للعبادة (کأنّما ينظرون إلي من فوقها).

(قال: يا ربّ هل تعطي لأحد من اُمّتي هذا؟) قال: يا أحمد هذه درجة الأنبياء والصدّيقين من اُمّتک واُمّة غيرک وأقوام من الشهداء، قال: يا ربّ أيّ الزّهاد أکثر زهّاد اُمّتي أم زهّاد بني إسرائيل؟ قال: إنّ زهّاد بني إسرائيل في زهّاد اُمّتک کشعرة سوداء في بقرة بيضاء، فقال: يا ربّ کيف يکون ذلک وعدد بني إسرائيل أکثر (من اُمّتي)؟ قال: لأنّهم شکوا بعد اليقين، وجحدوا بعد الاقرار، قال رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله: فحمدت اللَّه [للزاهدين کثيراً وشکرته ودعوت لهم فقلت: اللّهمّ احفظهم وارحمهم واحفظ عليهم دينهم الذي ارتضيت لهم، اللّهمّ ارزقهم ايمان المؤمنين الذي ليس بعده شک وزيغ، وورعاً ليس بعده رغبة، وخوفاً ليس بعده غفلة، وعلماً ليس بعده جهل، وعقلاً ليس بعده حمق، وقرباً ليس بعده بُعد، وخشوعاً ليس بعده قساوة، وذکراً ليس بعده نسيان، وکرماً ليس بعده هوان، وصبراً ليس بعده ضجر، وحلماً ليس بعده عجلة، واملأ قلوبهم حياءً منک حتّي يستحيوا منک کلّ وقت، وتبصّرهم بآفات الدنيا وآفات أنفسهم ووساوس الشيطان فإنّک تعلم ما في نفسي وأنت علّام الغيوب.]

يا أحمد عليک بالورع فإنّ الورع رأس الدين ووسط الدين وآخر الدين، إنّ الورع يقرّب (العبد) إلي اللَّه تعالي.

يا أحمد إنّ الورع کالشنوف بين الحليّ، والخبز بين الطعام، إنّ الورع رأس الايمان وعماد الدين، إنّ الورع مثله کمثل السفينة کما أنّ في البحر لا ينجو إلّا من کان فيها، کذلک لا ينجو الزاهدون إلّا بالورع.

يا أحمد ما عرفني عبدوخشع لي إلّا وخشعتُ له.

يا أحمد الورع يفتح علي العبد أبواب العبادة، فيکرم به عند الخلق، ويصل به إلي اللَّه عزّوجلّ.

[صفحه 146]

يا أحمد عليک بالصمت فإنّ أعمر القلوب قلوب الصالحين والصامتين، وإنّ أخرب القلوب قلوب المتکلّمين بما لا يعنيهم.

يا أحمد إنّ العبادة عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال، فإذا طيّبت مطعمک ومشربک فأنت في حفظي وکنفي، قال: يا ربّ ما أوّل العبادة؟ قال: أوّل العبادة الصمت والصوم، قال: يا ربّ وما ميراث الصوم؟ قال: الصوم يورث الحکمة، والحکمة تورث المعرفة، والمعرفة تورث اليقين، فإذا استيقن العبد لا يبالي کيف أصبح، بعسرٍ أم بيسر، واذا کان العبد في حالة الموت يقوم علي رأسه ملائکة بيد کلّ ملک کأس من ماء الکوثر، وکأس من الخمر يسقون روحه حتّي تذهب سکرته ومرارته ويبشّرونه بالبشارة العظمي ويقولون له: طبت وطاب مثواک،إنّک تقدم علي العزيز الحکيم الحبيب القريب، فتطير الروح من أيدي الملائکة فتصعد إلي اللَّه تعالي في أسرع من طرفة عين ولا يبقي حجاب ولا ستر بينها وبين اللَّه تعالي واللَّه عزّوجلّ إليها مشتاق.

وتجلس علي عين عند العرش ثمّ يقال لها: کيف ترکت الدنيا؟ فتقول: إلهي وعزّتک وجلالک لا علم لي بالدنيا، أنا منذ خلقتني خائفة منک، فيقول اللَّه تعالي: صدقت عبدي کنت بجسدک في الدنيا وروحک معي فأنت بعيني سرّک وعلانيتک، سل أعطک وتمنّ عليّ فأکرمک، هذه جنّتي فتجنح فيها وهذا جواري فاسکنه، فتقول الروح: إلهي عرّفتني نفسک فاستغنيت بها عن جميع خلقک، وعزّتک وجلالک لو کان رضاک في أن اُقطّع إرباً إرباً واُقتل سبعين قتلة بأشدّ ما يقتل به الناس لکان رضاک أحبّ إليّ، إلهي کيف أعجب بنفسي وأنا ذليل إن لم تکرمني وأنا مغلوب إن لم تنصرني وأنا ضعيف إن لم تقوّني وأنا ميّت إن لم تحيني بذکرک، ولولا سترک لافتضحت أوّل مرّة عصيتک، إلهي کيف لا أطلب رضاک وقد أکملت عقلي حتّي عرفتک وعرفت الحقّ من الباطل والأمر من النهي والعلم من الجهل والنور

[صفحه 147]

من الظلمة، فقال اللَّه عزّوجلّ: وعزّتي وجلالي لا أحجب بيني وبينک في وقت من الأوقات کذلک أفعل بأحبّائي.

يا أحمد هل تدري أيّ عيش أهنأ وأيّ حياة أبقي؟ قال: اللّهمّ لا، قال: أمّا العيش الهني‏ء السائغ وما أتاک بلا مشقّة فهو الذي لا يغتر صاحبه عن ذکري ولا ينسي نعمتي ولا يجهل حقّي، يطلب رضاي في ليله ونهاره، وأمّا الحياة الباقية فهي التي يعمل لنفسه حتّي تهون عليه الدنيا وتصغر في عينه، وتعظم الآخرة عنده، ويؤثر هواي علي هواه ويبتغي مرضاتي ويعظم حقّ عظمتي ويذکر علمي به، ويراقبني بالليل والنهار عند کلّ سيّئة أو معصية، وينقّي قلبه عن کلّ ما أکره ويبغض الشيطان ووساوسه ولا يجعل لابليس علي قلبه سلطاناً وسبيلاً، فإذا فعل ذلک أسکنت قلبه حبّاً حتي أجعل قلبه لي وفراغه واشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها علي أهل محبّتي من خلقي، وأفتح عين قلبه وسمعه حتّي يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلي جلالي وعظمتي، واُضيّق عليه الدنيا واُبغّض إليه ما فيها من اللذّات واُحذّره من الدنيا وما فيها کما يُحذّر الراعي غنمه من مراتع الهلکة، فإذا کان هکذا يفرّ من الناس فراراً، وينقل من دار الفناء إلي دار البقاء ومن دار الشيطان إلي دار الرحمن.

يا أحمد لاُزيّننّه بالهيبة والعظمة فهذا هو العيش الهني‏ء والحياة الباقية، وهذا مقام الراضين، فمن عمل برضاي ألزمه ثلاث خصال: اُعرّفه شکراً لا يخالطه الجهل، وذکراً لا يخالطه النسيان، ومحبّة لا يؤثر علي محبّتي محبّة المخلوقين، فإذا أحبّني أحببته، وأفتح عين قلبه إلي جلالي ولا اُخفي عليه خاصّة خلقي، واُناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتي ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، واسمعه کلامي وکلام ملائکتي، واُعرّفه السرّ الذي سترته عن خلقي.

وألبسه الحياء حتّي يستحي منه الخلق کلّهم ويمشي علي الأرض مغفوراً له،

[صفحه 148]

وأجعل قلبه واعياً وبصيراً ولا اُخفي عليه شيئاً من جنّة ولا نار، واُعرّفه ما يمرّ علي الناس في يوم القيامة من الهول والشدّة، وما اُحاسب الأغنياء والفقراء والجهّال والعلماء، واُنوّمه في قبره وأنزل عليه منکراً ونکيراً حتّي يسألاه، ولا يري غمرة الموت وظلمة القبر واللحد وهول المطلع، ثمّ أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه، ثمّ أضع کتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً، ثمّ لا أجعل بيني وبينه ترجماناً، فهذه صفات المحبّين.

يا أحمد اجعل همّک همّاً واحداً، فاجعل لسانک لساناً واحداً، واجعل بدنک حيّاً لا تغفل عنّي، من يغفل عنّي لا اُبالي بأيّ وادٍ هلک.

يا أحمد استعمل عقلک قبل أن يذهب فمن استعمل عقله لا يخطي ولا يطغي.

يا أحمد ألم تدر لأيّ شي‏ء فضّلتک علي سائر الأنبياء؟ قال: اللّهمّ لا، قال: باليقين، وحسن الخلق، وسخاوة النفس، ورحمة الخلق، وکذلک أوتاد الأرض لم يکونوا أوتاداً إلّا بهذا.

يا أحمد إنّ العبد إذا أجاع بطنه وحفظ لسانه علّمته الحکمة وإنْ کان کافراً تکون حکمته حجّة عليه ووبالاً، وإن کان مؤمناً تکون حکمته له نوراً وبرهاناً وشفاءً ورحمة، فيعلم ما لم يکن يعلم، ويبصر ما لم يکن يبصر، فأوّل ما أبصره عيوب نفسه حتّي يشتغل عن عيوب غيره، وأبصره دقائق العلم حتّي لا يدخل عليه الشيطان.

يا أحمد ليس شي‏ء من العبادة أحبّ إليّ من الصمت والصوم، فمن صام ولم يحفظ لسانه کان کمن قام ولم يقرأ في صلاته فاُعطيه أجر القيام ولم اُعطه أجر العابدين.

يا أحمد هل تدري متي يکون العبد عابداً؟ قال: لا يا ربّ، قال: إذا اجتمع فيه سبع خصال: ورع يحجزه عن المحارم، وصمت يکفّه عمّا لا يعنيه، وخوف يزداد کلّ

[صفحه 149]

يوم من بکائه، وحياء يستحيي منّي في الخلاء، وأکل ما لابدّ منه، ويبغض الدنيا لبغضي لها، ويحبّ الأخيار لحبّي إيّاهم.

يا أحمد ليس کلّ من قال: اُحبّ اللَّه أحبّني حتّي يأخذ قوتاً، ويلبس دوناً وينام سجوداً، ويطيل قياماً، ويلزم صمتاً ويتوکّل عليّ ويبلي کثيراً ويقلّ ضحکاً، ويخالف هواه، ويتّخذ المسجد بيتاً والعلم صاحباً والزهد جليساً، والعلماء أحبّاء والفقراء رفقاء، ويطلب رضاي، ويفرّ من العاصين فراراً، ويشغل بذکري اشتغالاً، ويکثر التسبيح دائماً، ويکون بالوعد صادقاً وبالعهد وافياً، ويکون قلبه طاهراً، وفي الصلاة زاکياً وفي الفرائض مجتهداً، وفيما عندي من الثواب راغباً، ومن عذابي راهباً ولأحبّائي قريناً وجليساً.

يا أحمد لو صلّي العبد صلاة أهل السماء والأرض، ويصوم صيام أهل السماء والأرض، ويطوي من طعام مثل الملائکة، ولبس لباس العاري، ثمّ أوي في قلبه من حبّ الدنيا ذرّة، أو سِعَتها، أو رئاستها، أو حليّها، أو زينتها لا يجاورني في داري، ولأنزعنّ من قلبه محبّتي، وعليک سلامي ورحمتي، والحمد للَّه ربّ العالمين.

يقول مؤلف هذا الکتاب حسن السيد علي القبانچي النجفي- عفا اللَّه عنه-:

قال العلّامة المجلسي- أعلا اللَّه مقامه-: ورأيت في بعض الکتب لهذا الحديث سنداً، هکذا: قال الإمام أبوعبداللَّه محمّد بن علي البلخي، عن أحمد بن إسماعيل الجوهري، عن أبي‏محمّد عليّ بن مظفّر بن الياس العبديّ، عن أبي‏نصر أحمد بن عبداللَّه الواعظ، عن أبي‏الغنائم، عن أبي‏الحسن عبداللَّه بن الواحد بن محمّد بن عقيل، عن أبي‏إسحاق إبراهيم بن حاتم الزاهد بالشام، عن إبراهيم بن محمّد، عن عبداللَّه بن عبدالرحمن، عن أبي‏عبداللَّه عبدالحميد بن أحمد بن سعيد، عن أبي‏بشر، عن الحسن بن علي المقري، عن أبي‏مسلم محمّد بن الحسن المقري، عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق، عن أبيه، عن

[صفحه 150]

جدّه، عن عليّ بن أبي‏طالب عليه‏السلام قال: هذا ما سأل رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله ربّه ليلة المعراج، وذکر نحوه إلي آخر الخبر.

ووجدت في نسخة قديمة اُخري، قال الشيخ أبوعمرو عثمان بن محمّد البلخي: أخبرنا أبوبکر أحمد بن إسماعيل الجوهري، قال: حدّثنا أبوعليّ المطر بن الياس بن سعد بن سليمان، قال: أخبرنا أبونصر أحمد بن عبداللَّه بن إسحاق الواعظ، قال: أخبرنا أبوالغنائم الحسن بن حمّاد المقري قراءة بأهواز في آخر شهر رمضان سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبومسلم محمّد بن الحسن المقرّي قراءة عليه من أصله، قال: حدّثنا عبدالواحد بن محمّد بن عقيل، قال: أخبرنا أبوإسحاق إبراهيم بن حاتم الزاهد بالشام، قال: حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن أحمد، قال: حدّثنا إسحاق بن بشر، عن جعفر بن محمّد الصادق، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ بن أبي‏طالب عليه‏السلام وذکر نحوه.[1].

[صفحه 151]


صفحه 141، 142، 143، 144، 145، 146، 147، 148، 149، 150، 151.








  1. البحار 21: 77؛ إرشاد القلوب 199: 1.