دستور الولاه
ثم اعلم يا مالک اني قد وجهتک الي بلاد قد جرت عليها دول قبلک من عدل و جور، و ان الناس ينظرون من امورک في مثل ما کنت تنظر فيه من امور الولاه قبلک، و يقولون فيک ما کنت تقول فيهم، و انما يستدل علي الصالحين بما يجري الله لهم علي السن عباده، فليکن احب الذخائر اليک ذخيره العمل الصالح، فاملک هواک و شح بنفسک عما لا يحل لک [صفحه 147] فان الشح بالنفس الانصاف منها في ما احبت او کرهت.[1] و اشعر قلبک الرحمه للرعيه، و المحبه لهم، و اللطف بهم. و لا تکونن عليهم سبعا ضاريا تغنتم اکلهم فانهم صنفان: اما اخ لک في الدين او نظير لک في الخلق، يفرط منهم الزلل[2]، و تعرض لهم العلل، و يوتي علي ايديهم في العمد و الخطاء[3]، فاعطهم من عفوک و صفحک مثل الذي تحب ان يعطيک الله من عفوه و صفحه، فانک فوقهم و والي الامر عليک فوقک، و الله فوق من ولاک! و لا تندمن علي عفو، و لا تبجحن بعقوبه و لا تسرعن الي بادره وجدت منها مندوحه.[4]. انصف الله و انصف الناس من نفسک و من خاصه اهلک و من لک فيه هوي من رعيتک[5]، فانک الا تفعل تظلم! و من ظلم عبادالله کان الله خصمه دون عباده. و ليس شيء ادعي الي تغيير نعمه الله و تعجيل نقمته من اقامه علي ظلم، فان الله سميع دعوه المضطهدين و هو للظالمين بالمرصاد. وليکن احب الامور اليک اوسطها في الحق، و اعمها في العدل و اجمعها لرضا الرعيه، فان سخط العامه يجحف برضا الخاصه، [صفحه 148] و ان سخط الخاصه يغتفر مع رضا العامه.[6] و ليس احد من الرعيه اثقل علي الوالي موونه في الرخاء و اقل معونه له في البلاء، و اکره للانصاف، و اسال بالالحاف[7]، و اقل شکرا عند الاعطاء، و ابطا عذرا عند المنع، و اضعف صبرا عند ملمات الدهر، من اهل الخاصه.[8]. اطلق عن الناس عقده کل حقد، و اقطع عنک سبب کل وتر[9]، و لا تعجلن الي تصديق ساع فان الساعي غاش و ان تشبه بالناصحين. ان شر وزرائک من کان للاشرار قبلک وزيرا، و من شرکهم في الاثام، فلا يکونن لک بطانه[10] فانهم اعوان الاثمه و اخوان [صفحه 149] الظلمه[11]، و انت واجد منهم خير الخلف ممن لم يعاون ظالما علي ظلمه و لا آثما علي اثمه. ثم ليکن آثرهم عندک اقولهم بمر الحق لک[12] و اقلهم مساعده في ما يکون منک مما کره الله لاوليائه واقعا (ذلک) من هواک حيث وقع. و الصق باهل الورع و الصدق ثم رضهم علي ان لا يطروک و لا يبجحوک بباطل لم تفعله.[13]. و لا يکونن المحسن و المسيء عندک بمنزله سواء، فان في ذلک تزهيدا لاهل الاحسان في الاحسان، و تدريبا لاهل الاساءه علي الاساءه! و الزم کلا منهم ما الزم نفسه[14] و اعلم انه ليس شيء بادعي الي حسن ظن راع برعيته من احسانه اليهم[15] و تخفيفه الموونات عنهم، و ترک استکراهه اياهم علي ما ليس قبلهم[16]، فليکن منک في ذلک امر يجتمع لک به [صفحه 150] حسن الظن برعيتک، و ان احق من حسن ظنک به لمن حسن بلاوک عنده، و ان احق من ساء ظنک به لمن ساء بلاوک عنده.[17]. و اکثر مدارسه العلماء و مناقشه الحکماء[18] في تثبيت ما صلح عليه امر بلادک، و اقامه ما استقام به الناس قبلک. ول من جنودک انصحهم في نفسک لله و لرسوله و لامامک، و انقاهم جيبا و افضلهم حلما: ممن يبطيء عن الغضب، و يستريح الي العذر، و يراف بالضعفاء، و ينبو علي الاقوياء[19] و ممن لا يثيره العنف، و لا يقعد به الضعف. و ان افضل قره عين الولاه استقامه العدل في البلاد، و ظهور موده الرعيه، و انه لا تظهر مودتهم الا بسلامه صدورهم، و لا تصح نصيحتهم الا بحيطتهم علي ولاه الامور و قله استثقال دولهم.[20]. ثم اعرف لکل امريء منهم ما ابلي، و لا تضيفن بلاء امريء الي [صفحه 151] غيره[21]، و لا يدعونک شرف امريء الي ان تعظم من بلائه ما کان صغيرا، و لا ضعه امريء الي ان تستصغر من بلائه ما کان عظيما. ثم اختر للحکم بين الناس افضل رعيتک في نفسک[22] ممن لا تضيق به الامور و لا تمحکه الخصوم[23] و لا يتمادي في الزله، و لا تشرف نفسه علي طمع، و لا يکتفي بادني فهم دون اقصاه[24] و اوقفهم في الشبهات[25] و آخذهم بالحجج، و اقلهم تبرما بمراجعه الخصم، و اصبرهم علي تکشف الامور، و اصرمهم عند اتضاع الحق، ممن لا يزدهيه اطراء، و لا يستميله اغراء، و اولئک قليل. ثم اکثر تعاهد قضائه[26] و افسح له في البذل ما يزيل علته و تقل معه حاجته الي الناس و اعطه من المنزله لديک ما لا يطمع فيه غيره من خاصتک ليامن بذلک اغتيال الرجال له عندک. ثم انظر في امور عمالک فاستعملهم اختبارا، و لا تولهم محاباه [صفحه 152] و اثره فانهم جماع من شعب الجور و الخيانه.[27] ثم تفقد اعمالهم و ابعث العيون[28] من اهل الصدق و الوفاء عليهم، فان تعاهدک في السر لامورهم حدوده لهم[29] علي استعمال الامانه و الرفق بالرعيه. و تحفظ من الاعوان فان احد منهم بسط يده الي خيانه اجتمعت بها عليه[30] عندک اخبار عيونک اکتفيت بذلک شاهدا فبسطت عليه العقوبه في بدنه، و اخذته بما اصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذله، و وسمته بالخيانه، و قلدته عار التهمه. و تفقد امر الخراج بما يصلح اهله، فان في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم. و لا صلاح لمن سواهم الا ابهم، لان الناس کلهم عيال علي الخراج و اهله. وليکن نظرک في عماره الارض ابلغ من نظرک في استجلاب الخراج لان ذلک لا يدرک الا بالعماره. و من طلب الخراج بغير عماره اخرب البلاد و اهلک العباد و لم يستقم امره الا قليلا. و لا يثقلن عليک شيء خففت به الموونه عنهم فانه ذخر يعودون به عليک في عماره بلادک. و ان العمران محتمل ما حملته، و انما يوتي خراب الارض من [صفحه 153] اعواز اهلها، و انما يعوز اهلها لاشراف انفس الولاه علي الجمع[31] و سوء ظننهم بالبقاء و قله انتفاعهم بالعبر. ثم انظر في حال کتابک فول علي امورک خيرهم، ممن لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الامور، فان الجاهل بقدر نفسه يکون بقدر غيره اجهل. ثم لا يکن اختيارک اياهم علي فراستک و استنامتک[32] و حسن الظن منک، فان الرجال يتعرفون لفراسات الولاه بتصنعهم و حسن خدمتهم[33]، و ليس وراء ذلک من النصيحه و الامانه شيء. و مهما کان في کتابک من عيب فتغابيت عنه الزمته.[34]. ثم استوص بالتجار و ذوي الصناعات و اوص بهم خيرا: المقيم منهم و المضطرب بماله[35]، فانهم مواد المنافع و اسباب المرافق، و تفقد امورهم بحضرتک و في حواشي بلادک. و اعلم مع ذلک ان في کثير منهم ضيقا فاحشا و شحا قبيحا و احتکارا للمنافع و تحکما في البياعات، و ذلک باب مضره للعامه و عيب علي الولاه، فامنع من الاحتکار فان رسولالله صلي [صفحه 154] الله عليه و سلم منع منه. وليکن البيع بيعا سمحا: بموازين عدل، و اسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع[36] فمن قارف حکره بعد نهيک اياه فنکل به و عاقبه في غير اسراف.[37]. ثم يتحدث الامام في رحمالته هذه الي مالک الاشتر عن الطققه المعوزه فيقول: و احفظ لله ما استحفظک من حقه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت مالک فان للاقصي منهم مثل الذي للادني، و کل قد استرعيت حقه، فلا يشغلنک عنهم بطر[38] فانک لا تعذر بتضييعک التافه[39] لاحکامک المهم، فلا تشخص همک عنهم[40] و لا تصعر خدک لهم[41] و تفقد امور من لا يصل اليک منهم ممن تقتحمه العيون[42] و تحقره الرجال، فان هولاء من بين الرعيه احوج الي الانصاف من غيرهم. و تعهد [صفحه 155] اهل اليتم و ذوي الرقه في السن[43] ممن لا حيله له، و لا ينصب للمساله نفسه، و ذلک علي الولاه ثقيل، و الحق کله ثقيل! و اجعل لذوي الحاجات منک قسما تفرغ لهم فيه شخصک، و تجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقک، و تقعد عنهم جندک و اعوانک[44] من احراسک و شرطک حتي يکلمک متکلمهم غير متتعتع[45] فاني سمعت رسولالله صلي الله عليه و سلم يقول في غير موطن[46]: «لن تقدس امه لا يوخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع!» ثم احتمل الخرق منهم و العي[47] و نح عنهم الضيق و الانف.[48]. ثم امور من امورک لا بد لک من مباشرتها: منها اجابه عمالک بما يعيا عنه کتابک. و منها اصدار حاجات الناس يوم ورودها عليک بما تحرج به صدور اعوانک[49]، و امض لکل يوم عمله فان لکل يوم ما فيه. [صفحه 156] و لا تطولن احتجابک عن رعيتک، فان احتجاب الولاه عن الرعيه شعبه من الضيق و قله علم بالامور. و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الکبير و يعظم الصغير، و يقبح الحسن و يحسن القبيح، و يشاب الحق بالباطل. و انما الوالي بشر لا يعرف ما تواري عنه الناس به من الامور، و ليست علي الحق سمات[50] تعرف بها ضروب الصدق من الکذب، و انما انت احد رجلين: اما امرو سخت نفسه بالبذل في الحق ففيم احتجابک[51] من واجب حق تعطيه او فعل کريم تسديه؟ او مبتلي بالمنع فما اسرع کف الناس عن مسالتک اذا ايسوا من بذلک[52]، مع ان اکثر حاجات الناس اليک مما لا موونه فيه عليک من شکاه مظلمه او طلب انصاف في معامله. ثم ان للوالي خاصه و بطانه فيهم استئثار و تطاول، و قله انصاف في معامله، فاحسم ماده اولئک بقطع اسباب تلک الاحوال[53] و لا تقطعن لاحد من حاشيتک و حامتک قطيعه[54] و لا يطمعن منک في اعتقاد عقده تضر بمن يليها من الناس في شرب او عمل مشترک يحملون موونته علي [صفحه 157] غيرهم فيکون مهنا ذلک[55] لهم دونک، و عيبه عليک في الدنيا و الاخره. و الزم الحق من لزمه من القريب و البعيد، و کن في ذلک صابرا محتسبا، واقعا ذلک من قرابتک و خاصتک حيث وقع، و ابتغ عاقبته بما يثقل عليک منه، فان مغبه ذلک محموده.[56]. و ان ظنت الرعيه بک حيفا فاصحر[57] لهم بعذرک، و اعدل عنک ظنونهم باصحارک فان في ذلک رياضه منک لنفسک[58] و رفقا برعيتک و اعذارا[59] تبلغ به حاجتک من تقويمهم علي الحق. و لا تدفعن صلحا دعاک اليه عدوک و لله فيه رضا، فان في الصلح دعه لجنودک و راحه من همومک و امنا لبلادک. و ان عقدت بينک و بين عدوک عقده او البسته منک ذمه فحط عهدک بالوفاء وارع ذمتک بالامانه و اجعل نفسک جنه دون ما اعطيت[60] و لا تغدرن بذمتک و لا تخيسن بعهدک [صفحه 158] و لا تختلن[61] عدوک. و لا تعقد عقدا تجوز فيه العلل[62] و لا تعولن علي لحن قول بعد التاکيد و التوثقه، و لا يدعونک ضيق امر لزمک فيه عهدالله الي طلب انفساخه بغير الحق.[63]. و لا تقوين سلطانک بسفک دم حرام، فان ذلک مما يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله، و لا عذر لک عندالله و لا عندي في قتل العمد! و اياک و المن علي رعيتک باحسانک، او التزيد في ما کان من فعلک[64] او ان تعدهم فتتبع موعدک بخلفک، فان المن يبطل الاحسان، و التزيد يذهب بنور الحق، و الخلف يوجب المقت عندالله و الناس. و اياک و العجله بالامور قبل اوانها، او التسقط فيها عند امکانها[65] او او الوهن عنها اذا استوضحت. فضع کل امر موضعه، و اوقع کل امر موقعه. [صفحه 159] و اياک و الاستئثار بما الناس فيه اسوه[66]، و التغابي عما تعني به مما قد و ضح للعيون، فانه ماخوذ منک لغيرک، و عما قليل تنکشف عنک اغطيه الامور و ينتصف منک للمظلوم. املک حميه انفک[67] و سوره حدک و سطوه يدک و غرب لسانک[68] و احترس من کل ذلک بکف البادره[69] و تاخير السطوه حتي يسکن غضبک فتملک الاختيار. و الواجب عليک ان تتذکر ما مضي لمن تقدمک من حکومه عادله او سنه فاضله، و تجتهد لنفسک في اتباع ما عهدت اليک في عهدي هذا، و استوثقت به من الحجه لنفسي عليک، لکي لا تکون لک عله عند تسرع نفسک الي هواها. و انا اسال الله ان يوفقني و اياک لما فيه رضاه من الاقامه علي العذر الواضح اليه و الي خلقه.[70]. [صفحه 160]
من رساله کتبها للاشتر النخعي لما ولاه علي مصر و اعمالها في عهد خلافته. و هي من جلائل رسائله و وصاياه، و اجمعها لقوانين المعاملات المدنيه و الحقوق العامه و التصرفات الخاصه في نهج الامام. کما انها من اروع ما انتجه العقل و القلب جميعا في تقرير علاقه الحاکم بالمحکوم، و في مفهوم الحکومه، حتي ان الامام سبق عصره اکثر من الف سنه بجمله ما ورد في هذه الرساله- الدستور، من اشراق العقل النير و القلب الخير.
صفحه 147، 148، 149، 150، 151، 152، 153، 154، 155، 156، 157، 158، 159، 160.
المندوحه: المتسع الذي يمکن المرء من التخلص.