صدق الحياه











صدق الحياه



و هذا الصدق عهد منک و عليک، لانه روح الجمال و الحق، و اراده الحياه القادره الغلابه!

لعل ابرز مظاهر العداله الکونيه في عالم الجماد و عالم الحياه، و في کل ما يتصل بطبيعه الوجود و خصائص الموجودات، هو الصدق الخالص المطلق. فعلي الصدق مدار الارض و الفلک و الليل و النهار. و بالصدق وحده تتلاحق الفصول الاربعه و يسقط المطر و تسطع شمس. و به کذلک تفي الارض بوعدها حين تنبت ما عليها کلافي حينه لاتقديم و لاتاخير. و به تقوم نواميس الطبيعه و قوانين الحياه. و الريح لاتجري الاصادقه، و الدماء لاتطوف العروق الابصدق، و الاحياء لايولدون الابقانون صادق امين.

هذا الصدق الخالص المطلق الذي تدور عليه قاعده البقاء، هو الينبوع الاول و الاکبر الذي تجري منه عداله الکون و اليه تعود!

و لما کان علي بن ابي‏طالب شديد الملاحظه لصدق الوجود، شديد التفاعل معه، فقد جعل من همه الاول في الناس تهذيب الناس استنادا ال ما يعقل و يحس و يري. و التهذيب في معناه الصحيح و مدلوله البعيد ليس الاالاحساس العميق بقيمه الحياه و شخصيه الوجود. و لما کان هذا المعني هو المعني الاوحد للتهذيب العظيم، کان الصدق مع الذات و مع کل موجود مادي او معنوي، هو المحور الذي يدور عليه التهذيب، کما رايناه محور العداله الکونيه. و بذلک ينتفي من التهذيب السليم کثير من القواعد التي تواطا عليها

[صفحه 60]

البشر دو نما نظر في نواميس الوجود الکبري، و هم يحسبون انها قواعد تهذيبيه لمجرد اتفاقهم عليها. و بذلک ايضا ينتفي من التهذيب السليم کل ما يخالف روح الحق و روح الخير و روح الجمال. و التهذيب علي غير اصوله الکبري تواطو سطحي علي الکذب القبيح. و هو علي اصوله البعيده احساس عميق بالصدق الجميل، مما يجعله اندماجا خالصا بثوريه الحياه الجاريه الفاتحه.

لذلک کان مدار التهذيب عند ابن ابي‏طالب، حمايه الانسان من الکذب، او قل حمايته و هو حي من بروده الموت!

و حمايه الانسان من الکذب تستوجب اول الامر تعظيم الصدق نصا مباشرا في کل حال، و ابرازه ضروره حياتيه لامفر منها لکل حي، و توجيه الناس نحوه افرادا يخلون الي انفسهم او يعيشون جماعات. و في هذا الباب يبرز علي بن ابي‏طالب عملاقا يري ما لايراه الاخرون، و يشير الي ما يجهلون، و يعمل ما لايستطيعونه الان و يريدهم ان يستطيعوه. يقول علي: «اياکم و تهزيع الاخلاق و تصريفها و اجعلوا اللسان واحدا». و تهزيع الشي‏ء تکسيره. و تصريفه قلبه من حال ال حال. يريد بذلک تذکير الصادق بالخطر الذي يتعرض له صدقه ان هو کذب و لو مره واحده. فالصادق اذا کذب مره انکسر صدقه کما ينکسر اي شي‏ء وقع علي الارض مره واحده. و کذلک النفاق و التلون فهما لونان من الوان الکذب. و يقول ايضا: «و کونوا قوما صادقين. و اعملوا في غير رياء. و اعز الصادق المحق و اذل الکاذب المبطل. و اصدقوا الحديث و ادوا الامانه و اوفوا بالعهد. من طلب عزا بباطل اورثه الله ذلابحق. ان کنت صادقا کافيناک و ان کنت کاذبا عاقبناک. ان من عدم الصدق في منطقه فقد فجع باکرم اخلاقه. ما السيف الصارم في کف الشجاع باعز له من الصدق». و ما هذه الايات في الصدق الانماذج من مئات اخريات يولف ابن ابي‏طالب بها اساس دستوره الاخلاقي العظيم.

ثم اليک هذه الايه التي يکثر في نسجها نصيب العقل النافذ الواعي. يقول: «الکذب يهدي الي الفجور». و لسنا في حاجه الي الاسهاب في اظهار ما تخفي هذه الکلمه من حقيقه تجر وراءها سلسله لاتنتهي من الحقائق. کما اننا لسنا في حاجه الي الاسهاب في تصوير ما تشير اليه من حقيقه نفسيه لاتزيدها الايام الارسوخا. و مثل هذه الايه آيات، منها: «لايصلح الکذب في جد و لاهزل، و لاان يعد احدکم صبيه ثم لايفي له!» اما المعني

[صفحه 61]

الذي يشير اليه الشق الاول من هذه الايه العلويه، فقد کان موضوع جدل کثير بين فلاسفه الاخلاق و لاسيما الاوروبيين منهم. و الواقع ان هولاء اجمعوا علي ان الصدق حياه و الکذب موت. غير انهم اختلفوا في هل يجوز الکذب في حاله الضروره ام لا؟ فمنهم الموافق و منهم المخالف. و لکل من الفريقين حجته.

اما علي بن ابي‏طالب، فيقف من هذا الموضوع الذي تثيره عبارته، موقفا حاسما ينسجم مع مذهبه العظيم في الاخلاق، هذا المذهب الذي نعود فنذکر القاري‏ء بانه منبثق عما احسه علي و وعاه من عداله الکون الشامله، فيقول غير متردد: «علامه الايمان ان توثر الصدق حيث يضرک علي الکذب حيث ينفعک، و ان لايکون في حديثک فضل عن عملک!» و من الواضح ان ابن ابي‏طالب لايري ان في الکذب ما ينفع و ان في الصدق ما قد يضر، فيتحدث الي الناس في نطاق من مدي تصور هم ليبلغ کلامه منهم مبلغا ذکيا. و تاکيدا لذلک يقول:«عليک بالصدق في جميع امورک». و يقول ايضا: «جانبوا الکذب فان الصادق علي شفا منجاه و کرامه، و الکاذب علي شفا مهواه و هلکه!»

اما المعني الذي يذکره الشق الثاني من العباره: «و لاان يعد احدکم صبيه ثم لايفي له»، فالتفاته عظيمه الي حقيقه تربويه تقررها الحياه نفسها، کما تقررها الاصول النفسيه التي ينشا عليها المرء و يتدرج. و يکفيک منها هذه الاشاره الي ان الطفل يتربي بالمثل لابالنصيحه. و هذا الراي هو محور فلسفه جان جاک روسو التربويه!

و الصدق مع الحياه يستلزم البساطه و ينفر من التعقيد، لان کل حقيقه هي بسيطه بمقدار ما الشمس ساطعه و الليل بهيم. و دلاله علي هذه البساطه الدافئه لانها انبثاق حي و عفوي عن الصدق، نقول ان ابن ابي‏طالب کره التکبر لانه ليس طبعا صادقا بل الکبر هو الصدق، فاذا بالمتکبر في رايه شخص يتعالي علي جبلته ذاتها. يقول: «لاتکونوا کالمتکبر علي ابن امه». و هو في الوقت نفسه يکره التواضع اذا کان مقصودا فانه عند ذاک لايکون طبعا صادقا بل الشعور بان الانسان مساو لکل انسان في کرامته هو الصدق. لذلک يخاطب من يقوده تواضعه الي ان يذل نفسه، قائلاله: «اياک ان تتذلل للناس». ثم يردف ذلک بقول اروع: «و لاتصحبن في سفر من لايري لک من الفضل عليه مثل ما تري له من الفضل عليک!»

[صفحه 62]

و اني لااعرف في مبادي‏ء المحافظين علي کرامه الانسان کانسان لايتکبر و لايتواضع بل يکون صادقا و حسب، ما يفوق هذه الکلمه لابن ابي‏طالب او ما يساويها قيمه: «الانسان مرآه الانسان!»

و من اقواله الداله علي ضروره اخذ الحياه اخذا بسيطا: «ما اقبح الخضوع عند الحاجه و الجفاء عند الغني. الثناء باکثر من الاستحقاق ملق و التقصير عن الاستحقاق عي او حسد. لاتقل ما لاتعلم. لاتعمل الخير رياء و لاتترکه حياء. يا ابن‏آدم، ما کسبت فوق قوتک فانت فيه خازن لغيرک. لاينصت للخير ليفخر به، و لايتکلم ليتجبر علي من سواه. من حمل نفسه ما لايطيق عجز. لاخير في معين مهين». و کاني بابن ابي‏طالب لايترک جانبا مما و عاه فکره و شعوره من امور الحياه و الانسان الااطلق فيه رائعه تختصر دستورا کاملا. و هذا ما فعله ساعه شاء ان يوجه الناس الي اخذ الحياه اخذا صادقا بسيطا، فقال هذه الکلمه الدافئه بعفويه الحياه: «اذا طرقک اخوانک فلاتدخر عنهم ما في البيت، و لاتتکلف لهم ما وراء الباب!».

و اذ يفرغ علي من حديثه الکثير الدائر حول ضروره الصدق مع الحياه بصوره مباشره، ثم حول البساطه التي لايکون صدق بدونها و لاتکون بغير صدق، يواصل طريقه في مفاهيم التهذيب التي تتلازم في مذهبه و تترابط حتي لکانها صوره عن کل موجودات الکون، و التي يظل الصدق مدارها الاول و ان تناولت وجوها اخري من وجوه الاخلاق. فيوصي بان يتغافل المرء عن زلات غيره فان في ذلک رحمه من المتغافل و تهذيبا للمسي‏ء بالسيره و المثل ابلغ من تهذيبه بالنصيحه او بالبغضاء، يقول: «من اشرف اعمال الکريم غفلته عما يعلم». کما يوصي بالحلم و الاناه لانهما نتيجه لعلو الهمه ثم مدرجه لکرم النفس: «الحلم و الاناه توامان ينتجهما علو الهمه». و يکره الغيبه لانها مذهب من النفاق و الاساءه و الشر جميعا: «اجتنب الغيبه فانها ادام کلاب النار». و الخديعه مثل الغيبه و کلتاهما من خبث السرائر: «اياک و الخديعه فانها من خلق اللئام». و کما راي ان کذبه واحده لاتجوز لان الصدق ينکسر بها، يري ان کل ذنب مهما کان في زعم صاحبه خفيفا قليل الشان انما هو شديد لانه ذنب، بل انه اشد وقعا علي کرامه الانسان اذا

[صفحه 63]

استخف به صاحبه، من ذنب عظيم عاد مقترفه الي الرجوع عنه في الحال: «اشد الذنوب ما استخف به صاحبه». و ينهاک علي عن التسرع في القول و العمل لانه مدعاه الي السقوط و علي الانسان المهذب الايبيح نفسه لايه سقطه: «انهاک عن التسرع في القول و العمل». و هو يريدک ان تعتذر لنفسک من کل ذنب اذنبت اصلاحا لخلقک، و لکنه ينبهک تنبيها عبقري الملاحظه و البيان الي ان الانسان لايعتذر من خير، فعليه اذن الايفعل ما يضطره الي الاعتذار: «اياک و ما تعتذر منه فانه لايعتذر من خير». و منعا للاشتغال بعيوب الناس و اغفال عيوب النفس، و في ذلک ما يدعو الي سوء الخلق و المسلک سلبا و ايجابا، يقول علي: «اکبر العيب ان تعيب ما فيک مثله» و «من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره». و اذا اتي القبيح من مصدر عليک ان تنکره اولا، فان لم تستطع ذلک تحتم عليک الاتستحسنه لئلاتصبح شريکا فيه: «من استحسن القبيح کان شريکا فيه». و اذا کان التعاطف بين الناس ضروره اخلاقيه لانه ضروره وجوديه علي ما مر معنا في الفصل السابق، فان منطق العقل و القلب يامر بان يکون عطفک علي من انطقک و احسن اليک اکثر و اوسع. و في ذلک يقول علي: «لاتجعلن ذرب لسانک علي من انطقک و بلاغه قولک علي من سددک». ثم يقول: «و ليس جزاء من عظم شانک ان تضع من قدره، و لاجزاء من سرک ان تسوءه».

و يهاجم الحرص و الکبرياء و الحسد لانها سبيل الي الانحدار الخلقي: «الحرص و الکبر و الحسد دواع الي التقحم في الذنوب». و اذا کان الاخلاقيون القدماء يذمون البخل فلانه في نظرهم صفه مذمومه لذاتها. اما عند ابن ابي‏طالب الذي يرصد الاخلاق بنظره اشمل و فکر اعمق، فالبخل ليس مذموما لذاته قدر ما هو مذموم لجمعه العيوب کلها، و لدفعه صاحبه الي کل سوءه في الخلق و المسلک. فالبخيل منافق، معتد، مغتاب، حاسد، ذليل، مزور، جشع، اناني، غير عادل. يقول علي: «البخل جامع لمساوي‏ء العيوب».

و يطول بنا الحديث و يتسع اذا نحن شئنا ان نورد تفاصيل مذهب ابن ابي‏طالب في الاخلاق و تهذيب النفس، فهي کثيره لم تترک حرکه من حرکات الانسان الاصورتها و وجهتها. و اذا قلت ان مثل هذا العمل طويل واسع شاق فاني اعني ما اقول. و ما

[صفحه 64]

علي القاري‏ء الاان يطلع علي الروائع التي اخذناها من ادب ابن ابي‏طالب في هذا الکتاب، حتي يثق بان المجلدات قد تضيق عن دراسه مذهبه في الاخلاق و تهذيب النفس، و عما تستوجبه هذه المختارات من شرح و تعليق. و يکفي ان نشير الي ان هذه الروائع العلويه من اشرف ما في تراث الانسان، و من اعظمه اتساعا و عمقا.

علي انه لابد لنا الان من التلميح الي آيه الايات في التهذيب العظيم بوصفه احساسا عميقا بقيمه الحياه و کرامه النفس و کمال الوجود. و ان نفرا قليلامن المتفوقين کبوذا و المسيح و بتهوفن و اشباههم هم الذين ادرکوا ان آيه التهذيب انما تکون في الدرجه الاولي بين الانسان و نفسه. و لاتکون بين الانسان و ما هو خارج عنه الاانبثاقا بديهيا طبيعيا عن الحاله الاولي. و قد ادرک ابن ابي‏طالب هذه الحقيقه ادراکا قويا واضحا لاغموض فيه و لاابهام. و عبر عنها تعبيرا جامعا. يقول علي في ضروره احترام الانسان نفسه و اعماله دون ان يکون عليه رقيب: «اتقوا المعاصي في الخلوات». و يقول في المعني ذاته: «اياک و کل عمل في السر يستحي منه في العلانيه. و اياک و کل عمل اذا ذکر لصاحبه انکره». و اليک ما يقوله في الرابطه بين السر و العلانيه، او بين ما اسميناه «آيه التهذيب» و ما اسميناه «انبثاقا» عنها: «من اصلح سريرته اصلح الله علانيته».

و من بدائع حکيم الصين کنفوشيوس في تهذيب النفس هذه الکلمه: «کل علي مائدتک کانک تاکل علي مائده ملک». و جلي انه يريد منک ان تحترم نفسک احتراما مطلقا غير مرهون بظرف او مناسبه، حتي ليجدر بک ان تتصرف حين تخلو الي نفسک کما تتصرف و انت بين يدي ملک. و مثل هذا المعني يقوله علي بن ابي‏طالب علي هيئه جديده: «ليتزين احدکم لاخيه کما يتزين للغريب الذي يحب ان يراه في احسن الهيئه!»

و هو يريدک في کل حال ان تعظ اخاک لتعينه في الانتقال من حسن الي احسن في الخلق و الذوق و المسلک. ولکن روح التهذيب الاصيل يابي عليک ان تجرحه او توذيه بنصحه علنا، بل ان هذا الروح يقضي عليک ان تکون لينا رفيقا فلاتنصح الاخفيه و لاتعظ الاسرا. يقول علي: «من وعظ اخاه سرا فقد زانه، و من وعظه علانيه فقد شانه».

[صفحه 65]

و ايه کانت حالک فعليک ان تصدق مع نفسک و الحياه و الناس. فبهذا الصدق تحيا و بغيره تهلک. و به تحفظ سلامه روحک و قلبک و جسدک. و بغيره تفقدها. و بالصدق تحب و تحب و يوثق بک، و بغيره تجلب لنفلسک المقت و الکراهيه و السيئات جميعا و ير ذلک الناس تافها حقيرا. و هذا الصدق عهد منک و عليک لانه اراده الحياه القدره الغلابه و هي اراده تقضي عليک بان تنظر في عهدک کل يوم. و ابن ابي‏طالب يقول: «علي کل انسان ان ينظر کل يوم في عهده!»

[صفحه 66]


صفحه 60، 61، 62، 63، 64، 65، 66.