الوحده الوجوديه











الوحده الوجوديه



و کان ما تباعد منها مضموما في وحده طرفاها الازل و الابد!

الادب اصاله في الفکر و الحس و الخيال و الذوق، تربط بين صاحبها و جمله الکائنات في وحده وجوديه مطلقه. ثم تعبر عن نفسها بحياه تحيا علي اصول من هذه الوحده، و باسلوب جمالي هو تجسيم حي للتفاعل بين الاديب و الکون.

و لما کان العلم تجزئه کان الفن توحيدا. و لما کان العلم ينظر الي الاشياء من حيث هي کائنات وجب فکها و تذريرها، کان الفن ينظر الي الاشياء من حيث هي کائنات مجزاه في ظاهرها، موحده في اصولها و حقيقتها، مما يوول الي فکره الشمول الکوني و الارتباط الکامل بين مختلف مظاهر الوجود!

و ما کان الادب الا بهذا الشمول!

و اذا کان الفلاسفه قد فطنوا الي وحده الوجود في العصور المتاخره، فان الاديب قد فطن لها منذ کان الانسان و کانت في اعماقه بذور الفن و احاسيس الادب. ذلک لان دليل الفيلسوف عقله و قياسه، و کلاها محدود بالنسبه للمرکب الانساني الحي. و دليل الاديب شعوره و الهامه، و هما انبثاق عاجل و امض عن جمله کيانه.

ثم ان نظره الفيلسوف الي الکون کوحده متفاعله متکامله، ان هي الا نظره تظل سطحيه اذا ما قيست بنظره الاديب. فالفيلسوف يشاهد و يراقب و يقيس ثم يسجل. و اداته في ذلک العقل وحده، و العقل شي‏ء من الانسان الحي بل قل هو جانب منه. و الاديب

[صفحه 16]

يتفاعل مع الکون و الحياه تفاعلا مباشرا مستمرا اذ يحس و يستلهم بعقله و شعوره و خياله و مزاجه و ذوقه جميعا، اي بجمله کيانه. و هو، الي ذلک، اسبق و اعمق. فالاديب استاذ الفيلسوف: استاذه و دليله منذ کان، و استاذه و دليله الي الابد!

و اذا کان هذا هو الامر، و هو کذلک، فان علي بن ابي‏طالب عظيم من عظماء هذه الطائفه من حيث النظره و الاسلوب: طائفه الادباء الخالدين الذين ينظرون الي نجوم السماء و رمال الصحراء و مياه البحار و کساء الطبيعه فاذا هي اشياء من نفوسهم، هذه النفوس التي تستشعر في الکون قوه وجوديه واحده جامعه کانت منذ الازل و تبقي الي الابد.

يقول ميخائيل نعيمه الذي يمثل طاقه الفنان علي الاحساس العميق بوحده الوجود في ادبنا العربي المعاصر: «بل کيف يکون اديبا من لا يحس جذوره في الازل و الابد، و لا يحس ما مضي و ما سياتي!»

ان هذا الاحساس بالجمال الاسمي الذي يلف الکائنات جميعا، علي تباين مظاهرها، بوشاح واحد، هو ما تراه في آثار عباقره الادب مهما تنوعت موضوعات هذه الاثار، و مهما اختلفت ظروفها. فاذا انت سمعت صوت الشاعر العظيم ينطق بلسان المسيح قائلا: «تاملوا زنابق الحقل کيف تنمو، ولکن اقول لکم انه و لا سليمان في کل مجده کان يلبس کواحده منها!» سمعت صوتا من اعظم ما سمع الکون، و ادرکت امتع نظره تخترق اعماق الجمال الکلي، و تساءلت: اني للتراب و الصخر و سحب السماء ان تاتي بمثل هذه الروعه و هذا الجمال، جمال زنابق الحقل و هي تنمو، لو لم تکن وحده الوجود هذه و لو لم يکن الجمال مدار الوجود الواحد، و رابطه اجزائه منذ البدايه حتي النهايه؟ و هو، في الوقت ذاته، مدار الفکره و الشعور لدي الفنان: الخالق الصغير!

و من ذلک قول المسيح الرائع و قد جاووه بزانيه جعلت علي نفسها سبيلا بحکم شرائعهم:

«من کان منکم بلا خطيئه فليرجم هذه الزانيه بحجر!»

و اذا انت سمعت قول الشاعر العظيم ينطق بلسان سليمان بن داود:

«جيل يمضي و جيل ياتي و الارض قائمه مدي الدهر. و الشمس تشرق والشمس تغرب

[صفحه 17]

ثم تسرع الي موضعها الذي طلعت منه. تذهب الريح الي الجنوب و تدور الي الشمال، تدور و تطوف في مسيرها ثم الي مداورها تعود الريح! جميع الانهار تجري الي البحر و البحر ليس بملان ثم الي الموضع الذي جرت منه الانهار الي هناک تعود لتجري ايضا!»

و اذا سمعته ايضا يقول:

«انا ورده الشارون و سوسنه الاوديه، کالسوسنه بين الشوک کذلک خليلتي بين البنات. کالتفاحه في اشجار الغابه کذلک حبيبي بين البنين. قد اشتهيت فجلست في ظله و ثمره حلو في حلقي. قد ظهرت الزهور في الارض و وافي او ان القضب و سمع صوت اليمامه في ارضنا.

«يا حمامتي التي في نخاريب الصخر و في خفايا المعاقل اريني محياک، اسمعيني صوتک فان صوتک لطيف و محياک جميل، الي ان ينسم النهار و تنهزم الظلال. عد يا حبيبي و کن کالظي او کغفر الايله علي جبال باتر.

«جميله انت يا خليلتي! جميله انت و عيناک کحمامتين من وراء نقابک، و شعرک کقطيع معز يبدو من جبل جلعاد.

شفتاک کسمط من القرمز و نطقک عذب. خداک کفلقه رمانه من وراء نقابک. عنقک کبرج داود المبني للسلاح الذي علق فيه الف مجن، جميع تروس الجبابره. الي ان ينسم النهار و تنهزم الظلال انطلق الي جبل المر و الي تل اللبان. هلمي معي من لبنان ايتها العروس. معي من لبنان انظري من راس امانه من راس حرمون من مرابض الاسود من جبال النمور. شفتاک تقطران شهدا ايتها العروس و تحت لسانک عسل و لبن و عرف ثيابک کعرف لبنان.

«عين جنات و بئر مياه حيه و انهار من لبنان، هبي يا شمال و هلمي يا جنوب انسمي علي جنتي فتنسکب اطيابها!»

اذا انت سمعت ذلک و وعيته وعيا صحيحا، ادرکت ان سليمان ينهل شعره من المنهل ذاته الذي ارتوي منه المسيح و ان اختلف الموضوع.

و من ذلک قول فيکتور هيغو، احد عظماء الفنانين الذين نبغوا بعد الثوره الفرنسيه، و هو

[صفحه 18]

حوار بين الکواکب يرينا الشاعر به الانسان و قد ضاع و کاد يختفي هو و الارض التي يسکنها، لضالتهما في سعه الکون الواحد العجيب:

ما هذا الصوت التافه الضعيف الذي يهمس؟

ايتها الارض، ما الغايه من دورانک، في افقک الضيق المحدود؟

و هل انت سوي حبه من الرمل مصحوبه بذره من رماد؟

اما انا، ففي السماء الزرقاء الشاسعه ارسم اطارا هائلا

فتري المسافه المکانيه، و هي فزعه مرعوبه، جمالي مشوها!

و هالتي، التي تحيل شحوب الليالي الي حمره قانيه

ککرات من الذهب تعلو و تهبط متقاطعه في يد الحاوي،

تبعد، و تجمع، و تمسک سبعه من الاقمار الضخمه الهائله!

و ها هي الشمس تجيب:

سکوتا، هناک في زاويه من السماوات، ايتها الکواکب، انتم رعاياي!

هدوءا! انا الراعي و انتم الرعيه.

انکما کعربتين تسيران جنبا الي جنب للدخول من الباب.

في اصغر برکان عندي، المريخ مع الارض

يدخلان دون ان يلمسا جوانب المدخل!

و ها هي ذي نجوم الدب الاصغر تضي‏ء مثل

سبع اعين حيه لها بدل الحبات شموس!

و ها هوذا طريق المجره يرسم

غابه ناضره جميله مليئه بنجوم السماء!

ايتها الکواکب السفلي، ان مکاني من مکانکم في درجه من البعد

حتي ان نجومي المضيئه الثابته الشبيهه بمجاميع الجزائر المتناثره في الماء،

و شموسي الکثيره، ليست بالنسبه لنظرکم الضعيف القاصر،

[صفحه 19]

في زاويه بعيده من السماء شبيهه بصحراء حزينه يتلاشي الصوت فيها،

سوي قليل من الرماد الاحمر قد انتثر في جوف الليل!»

و ها هي ذي نجوم مجره اخري تصور عوالم لا تقل عن تلک العوالم، متناثره في الاثير، ذلک المحيط الذي لا رمال فيه و لا حصباء في جوانبه، تذهب امواجه ولکن لا تعود ابدا الي شواطئه.

و اخيرا ها هو الا له يتحدث:

«ليس لدي الا ان انفخ، فيصبح کل شي‏ء ظلاما»[1].

و اليک ما يقوله علي بن ابي‏طالب في صفه الطاووس»:[2].

«و من اعجبها خلقا الطاووس الذي اقامه في احکم تعديل، و نضد الوانه في احسن تنضيد. بجناح اشرح قصبه. و ذنب اطال مسحبه. اذا درج الي الانثي نشره من طيه، و سما به مظلا علي راسه. تخال قصبه مداري من فضه، و ما انبت عليه من عجيب داراته و شموسه خالص العقيان و فلذ الزبرجد. فان شبهته بما انبتت الارض قلت: جني جني من زهره کل ربيع. و ان ضاهيته بالملابس فهو کموشي الحلل او مونق عصب اليمن. و ان شاکلته بالحلي فهو کفصوص ذات الوان قد نطقت باللجين المکدل: يمشي مشي المرح المختال، و يتصفح ذنبه و جناحيه فيقهقه ضاحکا لجمال سرباله و اصابيغ و شاحه!

«فاذا رمي ببصره الي قوائمه زقا معولا يکاد يبين عن استغاثته، و يشهد بصادق توجعه، لان قوائمه حمش کقوائم الديکه الخلاسيه. و له في موضع العرف قنزعه خضراء موشاه. و مخرج عنقه کالابريق، و مغرزها الي حيث بطنه کصبغ الوسمه اليمانيه، او کحريره ملبسه مرآه ذات صقال

[صفحه 20]

«و مع فتق سمعه خط کمستدق القلم في لون الاقحو ان ابيض يقق، فهو ببياضه في سواد ما هنالک ياتلق. و قل صبغ الا و قد اخذ منه بقسط و علاوه بکثره صقاله و بصيص ديباجه و رونقه فهو کالازاهير المبثوثه لم تربها امطار ربيع و لا شموس قيظ. و قد ينحسر من ريشه و يعري من لباسه فيسقط تتري، و ينبت تباعا، فينحت من قصبه انحتات اوراق الاغصان ثم يتلاحق ناميا حتي يعود کهيئته قبل سقوطه: لايخالف سالف الوانه، و لا يقع لون في غير مکانه. اذا تصفحت شعره من شعرات قصبه ارتک حمره ورديه، و تاره خضره زبرجديه، و احيانا صفره عسجديه، فکيف تصل الي صفه هذا عمائق الفطن، او تبلغه قرائح العقول، او تستنظم و صفه اقوال الواصفين!»

و اليک قليلا من قوله في خلق السماء و الارض:

«فطر الخلائق بقدرته، و نشر الرياح برحمته، و وتد بالصخور ميدان ارضه. ثم انشا سبحانه فتق الاجواء، و شق الارجاء، و سکائک الهواء، فاجري فيها ماء متلاطما تياره متراکما زخاره، حمله علي متن الرياح العاصفه، و الزعزع القاصفه. ثم انشا سبحانه ريحا اعتق مهبها، و اعصف مجراها، و ابعد منشاها، فامرها بتصفيق الماء الزخار، و اثاره موج البحار، فمخضته مخض السقاء و عصفت به عصفها بالفضاء ترد اوله الي آخره، و ساجيه الي مائره...»

و اوصيک خيرا بهذه الايات الروائع التي تتحدث بها عبقريه الامام الي المرکب الانساني جميعا فتصور له کيف يستوي الجليل و اللطيف من الکائنات، و الشمس و القمر، و الماء و الحجر، و الکبير و الصغير، و الهين و الصعب، في معني الوجود. و کيف تشترک جميعا في صفه الکون فاذا هي متساوقه متعاونه في النشيد الاعظم: نشيد الوجود الواحد الذي لايجوز فيه تعظيم الدوحه العاتيه علي حساب النبته الناميه، و لا يصح فيه تمجيد البحر الواسع و احتقار الساقيه التي تضيع مياهها بين العشب و الحصي.

يقول علي:

«لو ضربت في مذاهب فکرک لتبلغ غاياته ما دلتک الدلاله الا علي ان فاطر النمله هو فاطر النخله. و ما الجليل و اللطيف، و الثقيل و الخفيف، و القوي و الضعيف، في خلقه الا سواء!

[صفحه 21]

و کذلک السماء و الهواء، و الرياح و الماء. فانظر الي الشمس و القمر، و النبات و الشجر، و الماء و الحجر، و اختلاف هذا الليل و النهار، و تفجر هذه البحار، و کثره هذه الجبال، و طول هذه القال الخ...»

ثم استمع اليه يقول:

«لا تنالون نعمه الا بفراق اخري، و لا يعمر معمر منکم يوما من عمره الا بهدم آخر من اجله، و لا تجدد له زياده في اکله الا بنفاد ما قبلها من رزقه، و لا يحيا له اثر الا مات له اثر، و لا يتجدد له جديد الا بعد ان يخلق له جديد، و لا تقوم له نابته الا و تسقط منه محصوره. و قد مضت اصول نحن فروعها!»

انه الوجود الواحد يتکلم عن نفسه، بلسانه!

و في خاطري هذه المشابهه بين مقطع من معلقه امري‏ء القيس، و مقاطع کثيره من ادب ابن ابي‏طالب، و هي تصب جميعا في معني الوحده الوجوديه الکامله. ثم تزيد عن ذلک بانطاقه فذه الي قهر الظالم و المعتدي، و الي نصره الضعيف في النبت و الارض و البهيمه و الارض الواطئه حتي يستوي الوجود قويا بهيا.

يقول الشاعر الکوني امرو القيس اولا ما خاصته:

لقد قعدت لذلک البرق ارقب من اين يجي‏ء المطر، و يا لروعه ما رايت! لقد اقبل المطر من جهات اربع سيولا سيولا! رايته من بعيد فکان يمينه في تقديري علي جبل «قطن» و يساره علي جبلي «الستار» و «يذبل». و راح الماء ينبجس شديدا هنا و هناک فتقلب سيوله الاشجار قلبا عتيا، و مر علي جبل «القنان» برشاشه فاکره الوعول علي النزول عنه. بعد ذلک يقول الشاعر:


و تيماء لم يترک بها جذع نخله
و لا اطما الا مشيدا بجندل‏


کان ثبيرا في عرانين و بله
کبير اناس في بجاد مزمل‏


کان ذري راس المجيمر غدوه
من السيل و الغثاء فلکه مغزل‏


و القي بصحراء الغبيط بعاعه
نزول اليماني ذي العياب المحمل‏

[صفحه 22]

کان مکاکي الجواء غديه
نشاوي سلاف من رحيق مفلفل‏


کان السباع فيه غرقي عشيه
بارجائه القصوي، انا بيش عنصل‏


فانت تري الي امري‏ء القيس کيف يلحظ ان المطر قد اسقط نخل تيماء کله، و جرف ابنيتها فلم يبق منها الا المشيد بالجنادل و الصخور. اما جبل «ثبير» المعتز بشموخه علي ما ماحوله من الارض الواطئه، فقد غطاه المطر الا راسه، فبدا کشيخ قوم ملتف بکساء مخطط. و تتابع الامطار طوفانها حول الجبال ثم تلقي اثقالها جميعا في الصحاري التي ظلت زمنا قاحله لا نبت فيها و لا رواء، فاذا بها تنبت عشبا و زهرا ملونا يشبه الثياب الملونه الحسناء التي ينشرها التاجر اليماني امام اعين الناس. و قد احسن المطر الي هذه الصحاري المجدبه فاذا هي رياض زاهيه تغني بها الطير طربه سکري! اما الوحوش الضاريه التي کانت تستبيح لنفسها افتراس الضعيف من الحيوان و الطير، فقد ذلها المطر و اغرقها فطفت علي الماء کانها جذور البصل البري.

و هکذا يبدو المطر في خاطر الشاعر الجاهلي الکبير، الذي يتابع رحلته حتي النهايه، و کانه يمثل قوه الوجود المدبره. فهو قوي عادل کريم ينصر الصعفاء الممثلين بالارض الواطئه و صغار الطير، فيما الوادي بالنبت و الزهر و اللون و يدخل الفرحه علي قلوب العصافير فتطرب و تغني. و يداعب الاقوياء الممثلين بالجبال التي يضايقها من کل جانب و يضعف من شانها. و يفتک بذوي البطش الممثلين بالسباع الضاريه فيقهرها و يغرقها و يجعلها تافهه!

و هذا علي يحس امام الغيث ما احسه امرو القيس من تمثيله القوه العادله الکريمه، فيقول في خاتمه حديث طويل:

«فلما القت السحائب بعاع ما استقلت به[3] من العب‏ء المحمول عليها، اخرج به من هو امد الارض النبات[4] و من زعر الجبال الاعشاب[5] فهي تبهج بزينه رياضها

[صفحه 23]

و تزد هي بما البسته من ريط ازاهيرها[6] و حليه ما سمطت به[7] من ناضر انوارها، و جعل ذلک باغا لانام و رزقا لانعام!»

ثم ان عليا يوجز الفکره البعيده في ما شاهده امرو القيس من عمل المطر في الجبال و السباع، بهذه الکلمه: «من تعظم علي الزمان اهانه!»

و ان هذه الروائع التي عبرت بنا في هذا الفصل، لتنبع کلها من معين واحد بالرغم من اختلاف موضوعاتها و تباين اغراضها و تباعد ظروفها. ففيها جميعا هذه الاصاله في الفکر و الحس و الخيال و الذوق، التي تربط بين صاحبها و جمله الکائنات في وحده وجوديه مطلقه!

و اراک حيث رحت في ادب علي بن ابي‏طالب، شاعرا بهذه الاصاله التي تحدوه ابدا الي اکتناه الروابط الخفيه الکامنه وراء مظاهر الحياه والموت، و وراء الاشکال التي تختلف علي الحقيقه الواحده الثابته التي لا تختلف. و ما نزعته التوحيديه الجامحه الا نزعه الاديب الحق يريد ان يرکز الوجود، في عقله و قلبه علي السواء، علي اصول لايجوز فيها قديم و لا جديد!

و يتبين من نهج‏البلاغه ان نظريات ابن ابي‏طالب الاجتماعيه و الاخاقيه، تنبع بصوره مباشره او غير مباشره من هذه النظره الواحده الشامله الي الوجود. فما اقرب الموت من الحياه في سنه الوجود. و ما اقرب طرفي الخير و الشر. و ما اکثر ما يجتمع الحزن و السرور في قلب واحد في وقت معا، و الکسل و النشاط في جسد واحد. «فرب بعيد هو اقرب من قريب- في ادب ابن ابي‏طالب- و رب رجاء يودي الي الحرمان، و تجاره توول الي الخسران». و ليس عجيبا ان يجوز في الناس قول ابن ابي‏طالب: «من حفر لاخيه بئرا وقع فيها، و من هتک حجاب غيره انکشفت عورات بيته، و من تکبر علي الناس ذل» فالدائره الوجوديه الواحده تقضي علي الناس و الاشياء و الکائنات جميعا بالخضوع لقاعدتها

[صفحه 24]

التعادليه التي ادرکها الامام بحدسه و عقله و حسه علي السواء، ادراکا عجيبا لشده ما فيه من الوضوح ثم لکثره ما يمد صاحبه بالقوه علي الکشف، فاذا به يعبر عن هذا الادراک بکلمات تولف قواعد رياضيه تتناول المظاهر و تنفذ منها الي ما وراءها من اصول وجوديه عميقه ثابته.

و هکذا يستوي ابن ابي‏طالب و قمم الوجود علي صعيد واحد من النظره الي الحياه الواحده، و الاحساس العميق بالوجود الواحد، فاذا بادبه صرخات متاحقه تنطلق من قلب عبقري يريد ان ينفذ الي الاشياء حتي يري اغوارها فيطمئن الي هذا الادراک، و حتي يعقل ما تباين منها ثابتا علي قاعده، و ما اختلف منها نابعا من اصل، و ما تباعد منها مضموما في وحده طرفاها الازل و الابد!

[صفحه 25]


صفحه 16، 17، 18، 19، 20، 21، 22، 23، 24، 25.








  1. نظريه الانواع الادبيه، ترجمه عن الفرنسيه الدکتور حسن عون.
  2. ما تحتاج اليه من شرح المفردات و التعابير الوارده في هذه القطعه، تجده في فصل «خلقه الطاووس» بهذا الکتاب.
  3. البعاع: ثقل السحاب من الماء. و القي السحاب بعاعه: امطر کل ما فيه.
  4. الهوامد من الارض: ما لم يکن بها نبات.
  5. زعر، مجمع ازعر، و هو: الموضع القليل النبات.
  6. ريط، جمع ريطه- بالفتح- و هي کل ثوب رقيق لين.
  7. سمط الشي‏ء: علقت عليه السموط و هي: الخيوط تنظم في القاده.