والفقر حصيلة الظلم والجهل والتواني











والفقر حصيلة الظلم والجهل والتواني‏



الْحَمْدُللَّهِ الَّذِي لا يَفِرُهُ[1] الْمَنْعُ وَالْجُمُودُ وَلا يُکْدِيهِ[2] الْإعْطاءُ وَالْجُودُ، إذْ کُلُّ مُعْطٍ مُّنتَقَصٌ سِواهُ، وَکُلُّ مانِعِ مَذْمُومٌ ماخَلاهُ، وَهُوَ الْمَنّانُ بِفَوائِدِ النِّعَمِ، وَعَوائِدِ الْمَزِيدِ وَالْقِسَمِ، عِيالُهُ الْخَلائِقُ، ضَمِنَ أَرْزاقَهُمْ، وَقَدَّرَ أَقْواتَهُمْ، وَنَهَجَ سَبِيلَ الرّاغِبِينَ إلَيْهِ، وَالطّالِبِينَ ما لَدَيْهِ، وَلَيْسَ بِما سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِما لَمْ يُسْألْ.

وَلَوْ وَهَبَ ما تَنَفَّسَتْ[3] عَنْهُ مَعادِنُ الْجِبالِ، وَضَحِکَتْ[4] عَنْهُ أَصْدافُ البِحارِ: مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ[5] وَالْعِقْيانِ، وَنُثارَةِ[6] الدُّرِّ وَحَصِيدِ الْمَرْجانِ،[7] ما أَثَّرَ ذلِکَ فِي جُودِهِ،

[صفحه 118]

وَلا أَنْفَدَسَعَةَ ما عِندَهُ، وَلَکانَ عِندَهُ مِنْ ذَخائِرِ الْأَنْعامِ مالا تُنْفِدُهُ[8] مَطالِبُ الْأَنامِ، لِأَنَّهُ الْجَوادُ الَّذِي لا يَغِيضُهُ[9] سُؤالُ السّائِلِينَ، وَلا يُبْخِلُهُ[10] إلْحاحُ الْمُلِحِّينَ.

...قَدَّرَ ما خَلَقَ فَأَحْکَم تَقْدِيرَهُ، وَدَبَّرَهُ فَالْطَفَ تَدْبِيرَهُ، وَوَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ، وَلَمْ يَقْصُرْدوُنَ الْإنْتِهاءِ إلي غايَتِهِ، وَلمْ يَسْتَصْعِبْ[11] إذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلي إرادَتِهِ، وَکَيْفَ وَإنَّما صَدَرَتِ الأُمُورُ عَنْ مَشِيَّتِهِ الْمُنشِي‏ءُ أَصْنافَ الْأَشْياءِ بِلا رَوِيَّةِ فِکْرٍ الَ إلَيْها، وَلا قَرِيحَةِ غَرِيزَةٍ[12] أَضْمَرَ عَلَيْها، وَلا تَجْرِبَةٍ أَفادَها[13] مِنْ حَوادِثِ الدُّهُورِ، وَلا شَرِيکٍ أَعانَهُ عَلَي ابْتِداعِ عَجائِبِ الْأُمُورِ، فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ، وَأَذْ عَنَ لِطاعَتِهِ، وَأَجابَ إلي دَعْوَتِهِ، لَمْ يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ[14] الْمُبْطِي‏ءِ، وَلا أَناةُ[15] الْمُتَلَکِّي‏ءِ.

فَأَقامَ مِنَ الْأَشْياءِ أَوَدَها،[16] وَنَهَجَ[17] حُدوُدَها، وَلاءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضادَّها،

[صفحه 119]

وَوَصَلَ أَسْبابَ قرائِنِها،[18] وَفَرَّقَها أَجْناساً مُخْتَلِفاتٍ في الْحُدوُدِ وَالْأَقْدارِ وَالْغرائِزِ[19] وَالْهَيْئاتِ، بَدايا[20] خَلائِقَ أَحْکَمَ صُنْعَها وَفَطَرَها عَلي ماأَرا دَ وَابْتَدَعَها.[21].

...فَلَمّا أَلْقَتِ السَّحابُ بَرْک[22] بَوانِيها، وَبَعاعَ[23] مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْ‏ءِ[24] الْمَحْمُولِ عَلَيْها، أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوامِدِ[25] الْأَرْضِ النَّباتَ، وَمِنْ زُعْرِ[26] الْجِبالِ الْأَعْشابَ فَهِي تَبْهَجُ[27] بِزِينَةِ رِياضِها، وَتَزْدَهِي[28] بِما أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَبْطِ[29] أَزاهِرِها،[30] وَحِلْيَةِ ما سُمِّطَتْ[31] بِهِ مِنْ ناضِرِ أَنْوارِها،[32] وَجَعَلَ ذلِکَ بَلاغاً[33].

لِلْأَنامِ، وَرِزْقاً لِلأَنْعامِ، وَخَرَقَ الْفِجاجَ في افاقِها، وَأَقامَ الْمَنارَ لِلسّالِکينَ عَلي جَوادِّ طُرُقِها...[34].

[صفحه 120]


صفحه 118، 119، 120.








  1. يفره المنع: يزيد في ماله، وهو من وَفَرَ وُفوراً.
  2. يکديه: يُفقره ويُنفذ خزائنه.
  3. تنفّس المعادن: کناية عن انغلاقها عن الجواهر.
  4. ضحک الاصداف: کناية عن انفتاحها عن الدّر وتشقّقها.
  5. الفلز- بکسر الفاء واللام-: الجوهر النّفيس. واللجين: الفضّة الخالصة، والعِقْيان: ذهب ينمو في معدنه.
  6. نثارة الدّر- بالضّم-: منثورة.
  7. حصيد المرجان: محصوده، يشير إلي أنّ المرجان نبات.
  8. أنفده: بمعني أفناه، ونَفِدَ- کفرح- أي فَنِيَ.
  9. يغيض- بفتح حرف المضارعة-: من «غاض» المتعدّي يقال غاض الماء لازماً، وغاضه اللّه متعدّياً، ويقال أغاضه أيضاً، وکلاهما بمعني أنقصه وأذهب ما عنده.
  10. يُبخله بالتخفيف: من «أنجلت فلاناً» وجدته بخيلاً.
  11. استصعب الرکوب: لم يَنْقَدْ في السير لراکبه.
  12. غريزة: طبيعة ومزاج، أي ليس له مزاج کما للمخلوقات الحسّاسة. فينبعث عنه إلي الفعل، بل هو انفعال بماله بمقتضي ذاته، لا بأمر عارض.
  13. أفادها: استفادها.
  14. الريث: التثاقل عن الأمر.
  15. الأناة: تُؤدَة يمازجها روِيّة في اختيار العمل وترکه، والمتلکي‏ء المتعلّل.
  16. أودها: اعوجاجها.
  17. نَهَجَ: عيّن ورَسَمَ.
  18. وهي النّفس أي وصل حبال النّفوس- وهي عالم النّور- بالأبدان. وهي من عالم الظّلمة.
  19. الغرائز: الطّبائع.
  20. بدايا: جمع بدي‏ء، أي مصنوع.
  21. الخطبة: «91» التوحيد للصدوق: ص 34.
  22. البرْک- بالفتح- في الأصل: ما يلي الأرض من جلد صدر البعير کالبَرْکة. وبوانَيها: تثنية بوان- علي وزن فِعال بکسر الفاء-: وهو عمود الخيمة، والجمع بُون بالضّم.
  23. «وبعاع» عطف علي «بَرَک» والبَعاع- بالفتح-: ثقل السحاب من الماء. وألقي السّحاب بَعاعَه: أمطر کلّ ما فيه.
  24. العِبْ‏ء: الحِمل.
  25. الهوامد من الأرض: ما لم يکن بها نبات.
  26. زعر،- بالضّم- جمع أزْعر،وهو الموضع القليل النّبات والأنثي زَعْراء.
  27. بَهَجَ- کمنع- سرّ وأفرح.
  28. تزدهي: تعجب.
  29. رَيَط: جمع رَيَطة- بالفتح- وهي کلّ ثوب رقيق ليّن.
  30. أزاهر: جمع أزهار الّذي هو جمع زهرة بمعني النبات.
  31. «سُمِطَ» من «سَمَطَ الشي‏ء» أي علّق عليه السُموط وهي الخيوط تنظم عنها القِلادة.
  32. الأنوار: جمع نَوْر- بفتح النون- وهو الزّهر بالمعني المعروف.
  33. البلاغ: ما يُتَبَلَّغُ به من القوت.
  34. الخطبة: «91»- العقد الفريد: 406:2 لابن عبد ربه- التوحيد: ص34 للشيخ الصدوق.