محاسبة النفس وتهذيبها











محاسبة النفس وتهذيبها



عِبادَاللَّهِ، زِنُوا أَنفُسَکُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وَحاسِبُوها مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحاسَبُوا، وَتَنَفَّسُواْ قَبْلَ ضِيقِ الْخِناقِ، وَانْقادُوا قَبْلَ عُنْفِ[1] السِّياق، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ[2] عَلي نَفْسِهِ حَتّي يُکُونَ لَهُ مِنْها واعِظٌ وَزاجِرٌ لَّمْ يَکُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِها زاجِرٌ وَلا واعِظٌ...[3].

فَحاسِبْ نَفْسَکَ لِنَفْسِکَ، فَإنَّ غَيْرَها مِنَ‏الْأَنفُسِ لَها حَسِيبٌ غَيْرُکَ.[4].

[صفحه 79]

رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً سَمِعَ حُکْماً[5] فَوَعي، وَدُعِيَ إلي رَشادٍ فَدَنا،[6] وَأَخَذَ بِحُجْزَةِ[7] هادٍ فَنَجا راقَبَ رَبَّهُ، وَخافَ ذَنْبَهُ، قَدَّمَ خالِصاً، وَعَمِلَ صالِحاً اکْتَسَبَ مَذْخُوراً،[8] وَاجْتَنَبَ مَحْذُوراً، رَمي غَرَضاً، وَأَحْرَزَ عِوَضاً، کابَرَ هَواهُ،[9] وَکَذَّبَ مُناهُ، جَعَلَ الصَّبْرَ مَطِيَّةَ نَجاتِهِ، وَالتَّقْوي عُدَّةَ وَفاتِهِ. رَکِبَ الطَّرِيقَةَ الْغَرّاءَ،[10] وَلَزِمَ الْمَحَجَّةَ[11] الْبَيْضاءَ، اغْتَنَمَ الْمَهَلَ،[12] وَبادَرَ الْأَجَلَ، وَتَزَوَّدَ مِنَ الْعَمَلِ.[13] انتَفِعُوا بِبَيانِ اللَّهِ، وَاتَّعِظُوا بِمَواعِظِ اللَّهِ، وَاقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْکُمْ بِالْجَلِيَّةِ،[14] وَأَخَذَ عَلَيْکُمُ الْحُجَّةَ، وَبَيَّنَ لَکُمْ مَحابَّهُ مِنَ الْإَعْمالِ وَمَکارِهَهُ مِنْها لِتَتَّبِعُوا هذِهِ وَتَجْتَنِبوُا هذِهِ.

فَإِنَّ رَسوُلَ‏اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَالِهِ کانَ يَقوُلُ: «إِنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَکارِهِ، وَإِنَّ النّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَواتِ».

وَاعْلَمُواْ أَنَّهُ ما مِنْ طاعَةِ اللَّهِ شَيْ‏ءُ إِلاّ يَأْتِي فِي کُرْهٍ، وَما مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ شَيْ‏ءٌ إِلاّ

[صفحه 80]

يَأْتِي فِي شَهْوَةٍ، فَرَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً نَزَعَ[15] عَنْ شَهْوَتِهِ، وَقَمَعَ هَوي نَفْسِهِ، فَإِنَّ هذِهِ النَّفْس أَبْعَدُ شَيْ‏ءٍ مَنزَعاً،[16] وَإنَّها لاتَزالُ تَنْزِعُ إِلي مَعْصِيَةٍ فِي هَوًي.

وَاعْلَمُوْا عِبادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لايُمْسِي وَلايُصْبِحُ إِلاّ وَنَفْسُهُ ظَنوُنٌ[17] عِنْدَهُ، فَلايَزالُ زارِياً[18] عَلَيْها، وَمُسْتَزِيداً لَها، فَکوُنُواْ کَالسّابِقِينَ قَبْلَکُمْ وَالْماضِينَ أمامَکُمْ، قَوَّضوا[19] مِنَ الدُّنْيا تَقْوِيضَ الرّاحِلِ، وَطَوَوْها طَيَّ الْمَنازِلِ...[20].

نَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحانَهُ أَنْ يَجْعَلَنا وَإِيّاکُمْ مِمَّن لا تُبْطِرُهُ[21] نِعْمَةٌ، وَلاتُقَصِّرُ بِه عَن طاعَةِ رَبِّهِ غايَةٌ، وَلاتَحِلُّ بِه بَعْدَ الْمَوْتِ نَدامَةٌ وَلاکَآبَةٌ.[22].

[صفحه 81]


صفحه 79، 80، 81.








  1. العنف: ضد الرفق، ويقال عَنُفَ عليه وَعَنُفَ به- من باب کرم فيهما، واصل العنيف الذي لا رفق له برکوب الخيل وجمعه عُنُف، والسياق هنا مصدر ساق- يسوق.
  2. «من لم يُعَن علي نفسه»- مبني للمجهول- أي: من لم يساعده اللَّه علي نفسه حتيَّ يکون لها من وجدانها مُنَبّهٌ، لم ينفعه تنبيه غيره.
  3. الخطبة: «90» النهاية: 345:2، لابن الأثير.
  4. الخطبة: «222« عزر الحکم للامدي.
  5. الحکم هنا: الحکمة، قال اللَّه تعالي: (وآتيناه الحکم صبياً) مريم: 12، وعي: حَفِظَ وفهم المراد.
  6. دنا: قرب من الرّشاد الذي دعا إليه.
  7. الحُجزة- بالضم- معقد الإزار، والمراد الاقتداء والتمسک، يقال: أخذ فلان بحجزة فلان، إذا اعتصم به ولجأ إليه.
  8. اکتسب مذخوراً: کسب بالعمل الجليل ثواباً يذخره ويُعدّه لوقت حاجته.
  9. کابَرَ هواه: غالبه، ويروي «کاثر» بالمثلّثة أي: غالبه بکثرة افکاره الصائبة فغلبه.
  10. الغَرّاء: السيرة الواضحة.
  11. المحجّة: جادة الطريق ومُعظَمه.
  12. المَهَل هنا: مدّة الحياة مع العافية، فانّه أُمهل فيها دون أن يُؤخذ بالموت أو تَحُلُّ به بائقة العذاب.
  13. الخطبة: «76» الروضة من الکافي: ص 172.
  14. أعذر اليکم بالجلية: أي بالأعذار الجليّة، والعذر هنا مجاز عن سبب العقاب في المؤاخذة عند مخالفة الأوامر الالهية.
  15. نزع عنه: انتهي وأقلع.
  16. أبعد منزعاً: أي نزوعاً بمعني الإنتهاء والکفّ عن المعاصي.
  17. ظنون-کصبور- الضعيف والقليل الحيلة.
  18. زارياً عليها:أي عائباً.
  19. التقويض: نزع أعمدة الخيمة وأطنابها، والمراد أنهم ذهبوا بمساکنم وطووا مدة الحياة کما يطوي المسافر منازل سفره أي مراحله ومسافاته.
  20. الخطبة: «176».
  21. لا تُبْطِره النعمة:أي لا تطغيه، لا تسدل علي بصيرته حجاب الغفلة عما هو صائر اليه.
  22. الخطبة: «64»- تذکرة الخواص: ص 145 للسبط ابن الجوزي.