التعارض بين روايات صحيفة علي وكتابه











التعارض بين روايات صحيفة علي وکتابه



قلنا أنه لم يرد ذکر لکتاب علي (عليه السلام) (الجامعة) في کتب الحديث عند أهل السنة، بل في هذه النصوص التي نقلنا شطراً منها تصريح بعدم وجود شيء آخر عنده (عليه السلام) خصه به رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) غير هذه الصحيفة.

فقد عبرت بأنه: ما عندنا کتاب نقرؤه إلاّ کتاب اللّه غير هذه الصحيفة.

أو: ما کتبنا عن النبي (صلي الله عليه وآله) إلاّ القرآن وما في هذه الصحيفة.

أو: من زعم أن عندنا شيء نقرؤه إلا کتاب اللّه وهذه الصحيفة... فقد کذب.

أو: ما خصنا رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) بشيء لم يخص به الناس إلا بشيء في قراب سيفي هذا.

أو: ما عهد إلي رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) شيئاً خاصة دون الناس إلا شيء سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفي.

وأمثال هذه العبائر التي تؤدي معني واحداً مشترکاً وهو نفي ما عدا هذه الصحيفة الصغيرة، هذا الأمر يشکل معارضاً للروايات السابقة التي اختص بنقلها الشيعة، وبالتالي فهي تحتاج إلي علاج. وقد استفاد من هذه النقطة هواة الطعن والتشنيع علي الشيعة وکال لهم التهم والشتائم.

قال النووي: هذا تصريح من علي (عليه السلام) بابطال ما تزعمه الرافضة والشيعة ويخترعونه من قولهم ان علياً (رضي الله عنه) أوصي إليه النبي (صلي الله عليه وآله) بأمور کثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين وکنوز الشريعة وأنه خصّ أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم..

قال: وهذه دعاوي باطلة واختراعات فاسدة لا أصل لها ويکفي في ابطالها قول عليّ (رضي الله عنه) هذا[1].

وعلي هذا الوتر عزف شراح البخاري[2]، وعلي منوالهم نسج ابن کثير[3] وغيره.

وقد حاول البعض حل التعارض مدعياً أن الصحيفة الجامعة التي هي کتاب علي (عليه السلام) هي نفسها هذه الصحيفة إلاّ أن الرواة لم يحفظوا ولم يرووا إلاّ النزر اليسير، أو تعمدوا ذلک لأجل التزهيد بها.

لکنا نحن لا نرضي بهذه الدعوي، ونصرّ علي أن کتاب علي (عليه السلام) غير هذه الصحيفة، فکيف يمکن الاتحاد، وکتاب علي (عليه السلام) صحيفة طولها سبعون ذراعاً بعرض الاديم، إذا لفّت صارت مثل فخذ البعير أو فخذ الرجل مطوياً، بينما هذه الصحيفة يظهر أنها صغيرة جداً معلقة في ذؤابة السيف حتي کأنها بعض حمائله. فنحن لا نحتمل الاتحاد مطلقاً.

لکنّا نقول ان هذه الروايات لا تقاوم التواتر الحاصل من طرقنا علي اختصاصهم (عليهم السلام) بودائع النبوة التي من جملتها کتاب علي (عليه السلام) ويکفي ما أوردناه من النصوص وما أشرنا إليه مما هو يملأ کتب الحديث عندنا ويرويه الکثير من أصحاب الأئمة (عليهم السلام). فإنا وان قبلنا ما ذکرته روايات أهل السنة حول الصحيفة المعلقة بذؤابة سيف علي (عليه السلام) إلاّ أنا لا نقبل مطلقاً ما تصدرت به من نفي ما عداها.

ومن جهة أخري تدل رواياتهم علي أن حديثاً کان يدور حول وجود شيء من العلوم النبوية اختص بها (عليه السلام) دونهم وهو الأمر الذي دعاهم للسؤال کما في بعضها.

المهم أن ما يدعيه الشيعة حول کتاب علي (عليه السلام) هو حقيقة ثابتة بالتواتر وليس أمراً مخترعاً کما يزعم النووي، ومجرّد نقل البخاري ومسلم لرواية لا يبرّر هذا الهجوم، حتي لو صحت الرواية فان التعارض قد يسقط الرواية الصحيحة عن الحجيّة إذا ما کانت مرجوحة ويوجب طرحها جانباً.

أضف إليه أن الجوامع الحديثية التي ادعوا صحتها قد حوت الکثير مما هو غير صحيح، وغير مقبول وقلنا أنهم رووا عن الخوارج والمرجئة وأهل المذاهب الفاسدة، فکيف يدعي صحة کل ما فيها، وأما ترکهم لنقل الکثير مما هو صحيح بالفعل فهو من المسلّمات عندهم، والاعراض کان لأغراض لا تخفي علي منصف.

واکثر من هذا يمکن أن يقال أن لحن هذه الروايات يتفق مع الاتجاه الذي کان لا يحب أن ينتشر لأهل البيت (عليهم السلام) فضيلة، وکان يسعي بکل ما أوتي من امکانات لابعادهم عن الساحة السياسية والحطّ من مکانتهم واسقاطهم عند الناس. يتفق مع الاتجاه الذي جعل سبّ عليّ (عليه السلام) سنّة تعبّد بها الناس والتزم بها الخطباء وأهل المنابر أربعين سنة حتي شبّ عليه الصغير وشاب عليه الکبير.

بل ان الأيمان المغلّظة التي تصدرت تلک الروايات تدعو بنفسها للريبة والشک ويفوح منها رائحة الوضع، وقديماً قيل: کاد المريب أن يقول خذوني.

فنحن نعرض عنها صفحاً لمخالفتها للکتاب الکريم والسنة القطعية ونتمسک بما وافقهما، عملاً بقول الرسول (صلي الله عليه وآله): «اذا أتاکم الحديث فاعرضوه علي کتاب اللّه وسنتي فما وافق کتاب اللّه وسنتي فخذوا به وما خالف کتاب اللّه وسنتي فلا تأخذوا به»[4].

نعرض عنها لنتمسک بما هو ثابت الصحة موافق للکتاب والسنة. فنأخذ بالموافق لکتاب اللّه حيث يقول:

«وما يعلم تأويله إلاّ اللّه والراسخون في العلم..»[5] وقد روي أن الراسخين في العلم هم الرسول (صلي الله عليه وآله) والأئمة من أهل بيته[6].

ونأخذ بما يوافق السنة النبوية القطعية التي روت لنا عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قوله: «أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن اراد المدينة فليأت الباب»[7].

«اني تارک فيکم الثقلين کتاب اللّه وعترتي أهل بيتي...»[8].

«مثل أهل بيتي فيکم مثل سفينة نوح من رکبها نجا ومن تخلف عنها هلک»[9].

وکيف يکون من الراسخين في العلم، والعالمين بتأويل الکتاب وتنزيله، وکيف يکون التمسک بهم عاصماً من الضلال، وکيف يکون باب مدينة علم رسول الله (صلي الله عليه وآله) وسفينة النجاة من ليس عنده من العلم إلاّ ما في أيدي الناس. وکيف يأمر باتباعهم والتمسک بهم ولا يعطيهم ما يحتاج إليه الناس کل الناس.

أخرج ابن أبي الحديد عن أبي جعفر النقيب: قد صحت الرواية عندنا عن اسلافنا وعن غيرهم من أرباب الحديث أن علياً (عليه السلام) لما قبض أتي ابنه أخويه حسناً وحسـيناً (عليهما السلام) فـقال لهـما أعـطياني ميراثي مـن أبي، فقالا له: قـد علمت أن أباک لم يترک صفراء ولا بيضاء، فقال: قد علمت ذلک، وليس ميراث المال أطلب، وانما أطلب ميراث العلم.

قال أبو جعفر رحمه اللّه تعالي: فروي أبان بن عثمان، عمن يرويه له ذلک عن جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: فدفعا إليه صحيفة لو أطلعاه علي اکثر منها لهلک، فيها ذکر دولة بني العباس[10].

هذه الصحيفة هي التي وصلت إلي بني العباس عن طريق أبي هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية، وکانوا يسمونها صحيفة الدولة ولها قصة نقلها ابن أبي الحديد.

وأخرج الطبراني عن ابن عباس أنه قال: کنا نتحدث ـ معاشر أصحاب رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) ـ أن النبي (صلي الله عليه وآله) عهد إلي عليّ سبعين عهداً لم يعهدها إلي غيره[11].

وفي رواية ثمانين عهداً[12].

أفنترک کل هذا لأجل رواية روّجها أعداؤهم وحسّادهم؟!. نحن لا ندعي أن رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) کتم شيئاً من الرسالة، وانما هو ثقل تلک العلوم والصدور التي تعي وتتحمل، إن أمير المؤمنين (عليه السلام) کان يقول:

«إن ههنا لعلماً جماً (ويشير بيده إلي صدره)، لو أصبت له حَمَلة»[13].

فکيف برسول اللّه (صلي الله عليه وآله)!! الذي هو أفضل من علي (عليه السلام)، ومصدر علمه.

روي عن أبي عبداللّه الصادق (عليه السلام) أنه قال:

«لو أجد ثلاثة رهط استودعهم العلم وهم أهل لذلک لحدّثت بما لا يحتاج فيه إلي نظر في حلال ولا حرام، وما يکون إلي يوم القيامة..»[14].

فليس من آداب البحث ولا من دأب العلماء أن يحکموا علي غيرهم بمثل هذه الأحکام الجائرة التي صدرت عن النووي وابن کثير وأمثالهما، وکيف يصح الحکم علي الشيعة باختراع الأحاديث لمجرد أنهاغير موجودة في کتبهم، أو کونها لا تتوافق مع أهوائهم. وما ذنب الشيعة إذا حرصوا علي الولاء لمدرسة أهل البيت عندما ابتعد الناس عنهم، واخذوا عنهم حينما أعرض الآخرون، وحفظوا فضائلهم التي حاول طمسها ومحوها أعداؤهم.

قال معاوية لابن عباس: إنا کتبنا في الآفاق ننهي عن ذکر مناقب علي (عليه السلام)، فکف لسانک. قال: أفتنهانا عن قراءة القرآن؟! قال: لا، قال: أفتنهانا عن تأويله؟! قال: نعم. قال: أفنقرأه ولا نسأل؟! قال: سل عن غير أهل بيتک! قال: انه منزل علينا، أفنسأل غيرنا؟ أتنهانا أن نعبد اللّه؟! فاذاً تهلک تلک الأمة. قال: اقرؤوا ولا ترووا ما أنزل اللّه فيکم[15].

فما يدريک أن أصحابک الذين تعتمد عليهم، ولا تتعدّي کتبهم ومجاميعهم، قد أهملوا تلک الأحاديث والروايات خوفاً أو طمعاً. أو لعلهم لم يجدوها عند أصحابهم لأنها ضاعت فيما ضاع من فضائلهم (عليهم السلام) تحت وطأة التهديد والوعيد لمن يجريها علي لسانه.









  1. صحيح مسلم بشرح النووي 143/9.
  2. راجع: ابن حجر: فتح الباري 204/1، والعيني: عمدة القاري 161/2.
  3. ابن کثير: البداية والنهاية 252/2.
  4. المجلسي: بحار الأنوار 225/2 و 80/50 وفي معناه روايات کثيرة.
  5. سورة آل عمران/ 7.
  6. الکليني: الکافي 213/1.
  7. مرّ تخريج الحديث.
  8. مرّ تخريج الحديث.
  9. راجع مصادر الحديث في خلاصة عبقات الأنوار للسيد الميلاني/ الجزء الرابع.
  10. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 149/7.
  11. الطبراني: المعجم الصغير/ 69.
  12. القندوزي: ينابيع المودة/ 89.
  13. الشريف الرضي: نهج البلاغة/ قصار الحکم 147.
  14. الصفار: بصائر الدرجات/ 478.
  15. المجلسي: بحار الأنوار 38/42.