الائمة لا يحدثون إلاّ عن رسول اللّه











الائمة لا يحدثون إلاّ عن رسول اللّه



عقيدتنا في أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنهم معصومون، وهذه العقيدة مستقاة من الکتاب الکريم والسنّة القطعيّة ـ کما هو مبحوث في بابه ـ، وقد أمر الرسول (صلي الله عليه وآله) باتباعهم والاقتداء بهم والتمسک بعروتهم والأخذ عنهم، وجعلهم عِدلاً للقرآن الکريم، فقرنهم به، کما يدل عليه حديث الثقلين المتواتر عن رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) أنه قال:

«اني تارک فيکم الثقلين کتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما ان تمسکتم بهما لن تضلوا، وانهما لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض»[1].

وهذا يعني أنّ ما يبينونه للناس من الأحکام والمعارف الدينية هي أحکام الشريعة الاسلامية التي جاء بها الرسول (صلي الله عليه وآله) ونزل بها الوحي المبين، سواء أسندوا ذلک إلي رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) أم لم يسندوه، وسواء استدلوا عليه بآيات من الکتاب الکريم أم لا، وهذا الأمر هو الذي دعانا ـ نحن الشيعة ـ لتوسيع دائرة السنة لتشمل قول الأئمة المعصومين من أهل البيت (عليهم السلام) وأفعالهم وتقريراتهم فضلاً عن سنة رسول اللّه (صلي الله عليه وآله)، رغم أننا نعتقد أنهم (عليهم السلام) لم يأتوا بجديد في الشريعة الإسلامية، وانما هم الأمناء عليها، وما يصدر عنهم فهو بيان لشريعة جدهم (صلي الله عليه وآله). فهذه التوسعة للسنّة هي في الحقيقة توسعة للطرق الموصلة إلي سنة الرسول (صلي الله عليه وآله).

والجدير بالملاحظة والاهتمام أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لم يتتلمذوا علي أحد من الناس ولم يأخذوا العلم عن أحد منهم، بل أخذوا عن رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) علومهم التي کانوا يتوارثونها إمام عن إمام.

ومن راجع سيرة الرسول (صلي الله عليه وآله) ومحل علي بن أبي طالب (عليه السلام) منه، قطع بما لا يقبل الشک أن هذا الرجل کان أشد الناس لصوقاً به، واکثرهم قرباً منه وأخصهم عنده. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلک:

«ولقد کنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في کل يوم من أخلاقه عَلَماً ويأمرني بالاقتداء به»[2].

وأخرج ابن سعد عن علي أنه قيل له: مالک اکثر أصحاب رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) حديثاً؟ قال: إني کنت إذا سألته أنبأني واذا سکتّ ابتدأني[3].

وروي أبو رافع أن علياً (عليه السلام) کانت له من رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) ساعة من الليل بعد العتمة لم تکن لأحد غيره[4].

وروي عن علي (عليه السلام) في هذا المعني أنه قال: کان لي من رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) مدخلان، مدخل بالليل ومدخل بالنهار، وکنت إذا دخلت عليه وهو يصلّي تنحنح لي[5]، (تعبيراً عن الاذن).

وروي عنه ايضاً قوله: کانت لي من رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) ساعة من السحر آتية فيها، فکنت إذا أتيت استأذنت، فان وجدته يصلي سبّح، فقلت: أدخل؟[6].

وعن أنس بن مالک قال: ما رأيت أحداً بمنزلة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ان کان يبعث إليه في جوف الليل فيستخلي به حتي يصبح، هکذا عنده إلي أن فارق الدنيا[7].

وانه لمن فضول القول أن نتعرض لمکانة علي (صلي الله عليه وآله) من رسول اللّه (صلي الله عليه وآله)، وما اختص به من المنزلة عنده، ولا شک أن هذه العلاقة لم تکن محض علاقة عاطفية، وهذا القرب لم يکن قرباً قلبياً فحسب، بل کان (صلي الله عليه وآله) يدنيه ليلقي إليه ما عنده من علوم ومعارف وأحکام وأخلاق، فقد وجد فيه ضالته، ولمس منه ما لم يلمس من غيره مما جعله يختاره ليکون وعاءاً لما جاء به الوحي ومستودعاً لما عنده من أسرار.

وهکذا کان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين ورثوا ما ورثه علي بن أبي طالب (عليه السلام) فکان کل واحد منهم عيبة علم رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) وموضع سره، لم يکن بينهم وبينه واسطة إلاّ منهم. فهم ينهلون من معين الوحي الصافي، بالاضافة إلي ما آتاهم اللّه سبحانه وتعالي من صفاء الروح وطهارة النفس، مما جعلهم يحلّقون في عالم العرفان والملکوت والإلهام الذي به صاروا حجة اللّه علي العالمين، وأئمة الهدي والعروة الوثقي.

ولقد کان الشيعة في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث ابان اشتداد المحنة علي أئمتهم عندما يشتبه علي بعضهم أمر النص بسبب الکتمان والتقية يلجأون إلي تمييز الامام والتعرف عليه من خلال العلوم التي يحملونها، کما حصل بعد وفاة الامام الصادق (عليه السلام)، حيث اجتمع بعض الناس علي عبداللّه بن جعفر وتوهموا أنه صاحب الأمر بعد أبيه، لکن سرعان ما اکتشفوا خواءه وجهله في کثير من الأمور، وذلک من خلال الأسئلة التي کانت توجه إليه والمسائل التي تطرح عليه.

وقصة هشام بن سالم مع مؤمن الطاق محمد بن النعمان خير شاهد علي ذلک[8].

ولقد کان صغيرهم فقيهاً عالماً ينحدر عنه السيل ولا يرقي إليه الطير، وکم مرّة حاول حکام بني العباس أن يعجزوهم فأعدوا المجالس لهم وحشدوا لها أبرز فقهائهم وقضاتهم، فخاب سعيهم وضاعت أحلامهم أمام خزّان علم النبوة وحملة أسرار الوحي الرسالي.

فهذا جواد أهل البيت محمد بن علي (عليه السلام) وهو ابن سبع سنين يناظر يحيي بن أکثم في مجلس المأمون فيحيّره ويعجزه حتي بان في وجهه الانقطاع والتلجلج والفشل[9].

انهم أهل بيت زقّوا العلم زقّا، ولقد غاب عن کثير ممن جهلهم، ولم يتشرف بمعرفتهم، ولم يرزق ولايتهم، غاب عنهم أن هؤلاء ورثة الرسول (صلي الله عليه وآله)، وأنهم أهل بيت لا يتلقّون علومهم بالطرق التي يعرفها الناس، والتي اعتادوا عليها.

أردنا من کل هذا أن نبيّن أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) باعتبار عصمتهم وباعتبار علومهم ومعارفهم التي لا تنضب، قول کل واحد منهم بنفسه حجّة وسنّة، ولا يحتاج إلي اسناد يسلسله لنا عن رسول اللّه (صلي الله عليه وآله)، لکنهم مع ذلک صرحوا في اکثر من موقع وفي اکثر من حادثة، أنهم لا يفتون الناس بآرائهم، وانما هو علم يتوارثونه کابراً عن کابر.

ففي الرواية عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: يا جابر إنا لو کنا نحدثکم برأينا وهوانا لکنّا من الهالکين، ولکنّا نحدّثکم بأحاديث نکنزها عن رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) کما يکنز هؤلاء ذهبهم وورقهم[10].

وأصرح من ذلک ما روي عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه کان يقول: «حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث الحسين وحديث الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين، وحديث علي أمير المؤمنين حديث رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) وحديث رسول الله قول اللّه عزوجل»[11].

وقريب من ذلک ما رواه جابر قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إذا حدثتني بحديث فاسنده لي، فقال: «حدثني أبي عن جدي عن رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) عن جبرئيل عن اللّه عزوجل. وکل ما أحدثک بهذا الاسناد. وقال: يا جابر، لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لک من الدنيا وما فيها»[12].

هذا الاسناد هو الذي قال عنه أحمد بن حنبل حينما أسند الإمام الرضا (عليه السلام) حديثه به في نيسابور «لو قرأت هذا الاسناد علي مجنون لبرئ من جنته»[13] وذکر أنه قرأه بالفعل علي مصروع فأفاق[14].

ولا نجد غيرهم (عليهم السلام) يتجرأ أن يدّعي سعة العلم وشموليته، بينما أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول علي منبر الکوفة «سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض»[15].

ويروي عن زرارة قال: کنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال له رجل من أهل الکوفة يسأله عن قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «سلوني عما شئتم،فلا تسألوني عن شيء إلاّ أنبأتکم به» قال: إنه ليس أحد عنده علم شيء إلا خرج من عند أمير المؤمنين (عليه السلام)، فليذهب الناس حيث شاؤوا، فواللّه ليس الأمر إلا من ههنا، وأشار بيده إلي بيته[16].

وروي أن أبا جعفر (عليه السلام) قال لسلمة بن کهيل والحکم بن عتيبة: شرّقا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ شيئاً خرج من عندنا أهل البيت[17].

وفي رواية أخري عنه (عليه السلام): فليذهب الحکم يميناً وشمالاً، فواللّه لا يؤخذ العلم إلاّ من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل (عليه السلام)[18].

لکنهم (عليهم السلام) عاشوا في أقوامهم غرباء، لم تعرف منزلتهم، ولم يرع حقهم، فعوضاً عن الاقبال عليهم والتماس ما عندهم والاهتداء بهم تراهم يسبّون علي المنابر ويقصون عن مراتبهم التي رتّبهم اللّه فيها، ويسامون أنواع القتل والتنکيل والسجن والتعذيب، هکذا کان دأب حکام الجور معهم ومع أتباعهم وأشياعهم.

ومن أبرز الشواهد التي نقلها التاريخ والتي تدل علي أن علومهم (عليهم السلام) لدنيّة غير مستقاة من أحد من الناس، ما حصل مع الامام الهادي علي ابن محمد (عليه السلام)، بعد وفاة أبيه الجواد وکان يومئذ صبياً لم يتجاوز سبع سنين من العمر، فأمر المتوکل العباسي أن يختار له معلماً من أهل المدينة معروفاً بالعلم والأدب، منحرفاً عن أهل البيت (عليهم السلام)، معادياً لهم، فأشاروا عليه برجل يعرف (بالجنيدي) کان ظاهر النصب والعداوة لهم (عليهم السلام)، مقدماً عند أهل المدينة في الأدب والفهم، فأوکل إليه أمر تأديبه وتعليمه، ومنع الرافضة من الدخول عليه.

فکان الجنيدي يلازم أبا الحسن الهادي (عليه السلام) في القصر نهاراً، ويغلق الباب ليلاً ويأخذ المفاتيح، ومکث مدة علي ذلک، حتي سئل عنه فقال: واللّه تعالي لهو خير أهل الأرض، وأفضل من برأ اللّه وانه حافظ القرآن من أوله إلي آخره، يعلم تأويله وتنزيله، واني واللّه لأذکر له الحرف في الأدب وأظن أني بالغت فيه، ثم انه يملي عليّ فيه أبواباً أستفيده منه، فيظن الناس أني أعلمه وأنا واللّه أتعلم منه.

ثم قال: هذا صبي صغير، نشأ بالمدينة بين الجدران السود، فمن أين علم هذا العلم الکثير؟! يا سبحان اللّه ما أعجب هذا؟![19].

نعم هکذا کان أهل البيت (عليهم السلام)، وهکذا عاشوا تحت ظل الارهاب والجور الذي طالما مارسه السلاطين ضدهم، محاولين عزلهم، وابعاد الناس عنهم، وتشويه صورهم، وتحت ظل ذلک الارهاب، واستجابة لرغبات سلاطين الجور أعرض الناس عنهم وولوا وجوههم شطر أهل القياس وعلماء البلاط، وطال الزمن واستمر هذا الحال لقرون متمادية حتي محيت من ذاکرة الأمة آثارهم، ومن مدونات أهل الحديث علومهم وأخبارهم.

وان تعجب فتعجّب ممن جاء بعد الإمام الصادق (عليه السلام) أو قارب عصره، ودوّنوا المجاميع الحديثية التي وصفوها بالصحاح والمسانيد، ولم يرووا له إلاّ النزر اليسير، وهو الذي أحصي الرواة عنه من الثقات فکانوا ما يقرب من أربعة آلاف[20]، بينما تجدهم يروون عن الخوارج والمرجئة وامثالهم.









  1. من أشهر من نص علي صحة الحديث من أهل السنة: محمد بن جرير الطبري (نقله کنز العمال 380/1)، ومحمد بن اسحاق (حکاه لسان العرب 5384)، والحافظ ابو عبداللّه المحاملي (راجع کنز العمال 140/13)، والحافظ الذهبي (هامش المستدرک 148/3)، والحافظ ابو بکر الهيثمي (مجمع الزوائد 163/9)، والحافظ ابن کثير (البداية والنهاية 228/5)، والحافظ جلال الدين السيوطي (الجامع الصغير/ 64)، والعلامة المناوي: (فيض القدير 15/3)، والمحدث ابن حجر الهيثمي (الصواعق المحرقة/ 25 و87) وغيرهم.
  2. الشريف الرضي: نهج البلاغة/ الخطبة 192.
  3. السيوطي: تاريخ الخلفاء/ 170.
  4. ابن شهراشوب: مناقب آل أبي طالب 257/2، والمجلسي: بحار الأنوار 303/38.
  5. ابن شهراشوب: مناقب آل أبي طالب 257/2، والمجلسي: بحار الأنوار 304/38، وأحمد بن حنبل في مسنده 80/1 وقريب منه 107/1.
  6. ابن شهراشوب: مناقب آل أبي طالب 257/2، والمجلسي: بحار الانوار 304/38، والموصلي في مسنده 445/1.
  7. ابن شهراشوب: مناقب آل أبي طالب 257/2، والمجلسي: بحار الأنوار 304/38.
  8. المفيد: الارشاد 221/2 ـ 223.
  9. المفيد: الارشاد 283/2.
  10. المجلسي: بحار الأنوار 28/26.
  11. الکليني: الکافي 53/1، والمجلسي: بحار الانوار 178/2.
  12. المفيد: الأمالي/ 42، والمجلسي: بحار الأنوار 148/2 وفيه: عن جده، بدل: عن جدي.
  13. جعفر مرتضي: الحياة السياسية للامام الرضا/ 145، ابن حجر: الصواعق المحرقة/ 122 ط الميمنية.
  14. جعفر مرتضي: الحياة السياسية للامام الرضا/ هامش 145، عن: نزهة المجالس 22/1.
  15. الشريف الرضي: نهج البلاغة/ الخطبة 189.
  16. الکليني: الکافي 399/1.
  17. الکليني: الکافي 399/1.
  18. الکليني: الکافي 400/1.
  19. القرشي: حياة الامام علي الهادي/ 24 ـ 25 نقله عن مآثر الکبراء في تاريخ سامراء 95/3 ـ 96. ومحمد کاظم القزويني: الامام الهادي من المهد إلي اللحد/ 377 ـ 378 نقله عن شرح قصيدة أبي فراس/ 35.
  20. انظر: أسد حيدر: الامام الصادق والمذاهب الأربعة 67/1 وما بعدها.