المحدثون عند أهل السنّة











المحدثون عند أهل السنّة



إذا کان تحدّث الملائکة مع أهل البيت (عليهم السلام) الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً غلواً، فلنلقِ نظرة علي کتب الحديث والسيرة والتاريخ عند أهل السنّة، لنري کيف يدّعي تحدّث الملائکة مع جماعة من رجالهم: 1 ـ أخرج البخاري في مناقب عمر بن الخطاب ـ وبعد حديث الغار ـ عن أبي هريرة، وأخرج مسلم في فضائل عمر أيضاً عن عائشة: أن عمر بن الخطاب کان من المحدّثين.وقد حاول شرّاح البخاري أن يأولوه بأن المراد أنه من الملهمين أو من الذين يلقي فـي روعهم أو يظنون فيصيبون الحق فکأنّه حُدّث[1] وهو کما تري تأويل لا يساعد عليه ظاهر اللفظ. ولأجل ذلک قال القرطبي: إنّه ليس المراد بالمحدَّثين المصيبين فيما يظنون، لأنه کثير في العلماء، بل وفي العوام من يقوي حدسه فتصحّ إصابته، فترتفع خصوصية الخبر وخصوصية عمر[2] 2 ـ ممن ادّعي أن الملائکة تحدّثهم عمران بن الحصين الخزاعي المتوفي سنة 52 هـ قالوا: کانت الملائکة تسلّم عليه حتّي اکتوي بالنار فلم يسمعهم عاماً، ثم أکرمه اللّه بردّ ذلک[3] 3 ـ ومنهم أبو المعالي الصالح المتوفي سنة 427هـ، رووا أنه کلّمته الملائکة في صورة طائر[4] 4 ـ أبو يحيي الناقد المتوفي سنة 285هـ، رووا أنه کلّمته الحوراء[5] وأمثال هذه المرويّات في کتب السنّة غير قليل، ولم يستنکر ذلک أحد ولم يتّهم أصحابها بالغلو.ومما يدلّ علي عدم الملازمة بين تحديث الملائکة والنبوّة ما رواه الکليني عن حمران بن أعين قال: قال أبو جعفر [الباقر] (عليه السلام): «إن علياً کان محدَّثاً»، فخرجت إلي أصحابي فقلت: جئتکم بعجيبة فقالوا: وما هي؟ فقلت: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: کان علي (عليه السلام) محدَّثاً، فقالوا: ما صنعت شيئاً، ألا سألته من کان يحدّثه، فرجعت إليه.. فقال لي: يحدّثه مَلَکٌ، قلت: تقول: إنـّه نبيّ؟ قال: فحرّک يده ـ هکذا[6] ـ أو کصاحب سليمان أو کصاحب موسي أو کذي القرنين أوما بلغکم أنه قال: وفيکم مثله[7] ؟! وفي «بصائر الدرجات» هذا الخبر هکذا: عن حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ألست حدثتني أنّ علياً کان محدَّثاً؟ قال: بلي. قلت: من يحدّثه؟ قال: ملک. قلت: فأقول: إنه نبيّ أو رسول؟ قال: لا. بل مثَلُه مثل صاحب سليمان ومثل صاحب موسي، ومثل ذي القرنين[8]، [أما بلغک أن علياً سُئل عن ذي القرنين، فقالوا: کان نبياً؟ قال: لا، بل کان عبداً أحبّ اللّه فأحبّه وناصحَ اللّهَ فناصحه][9] ولابدّ من الاشارة إلي بعض رواياتنا التي تتحدّث عن مصحف فاطمة أنه من إملاء رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) وخط علي (عليه السلام): 1 ـ فعن علي بن سعيد عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «.. وعندنا واللّه مصحف فاطمة، ما فيه آية من کتاب اللّه وانه لإملاء رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) وخط علي (عليه السلام) بيده»[10] 2 ـ عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) «... وخلّفت فاطمة مصحفاً ما هو قرآن ولکنه کلام من کلام اللّه اُنزل عليها إملاء رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) وخط علي»[11] 3 ـ عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «... وعندنا مصحف فاطمة (عليها السلام) أما واللّه ما فيه حرف من القرآن ولکنه إملاء رسول اللّه وخط علي»[12] هذه الروايات الثلاث تخالف الروايات المستفيضة المتقدمة في حقيقة مصحف فاطمة، حيث ذکرت أنه «إملاء رسول اللّه»، والثانية منها لا تخلو من تهافت حيث جعلته کلاماً من کلام اللّه اُنزل عليها، وفي عين الحال جعلته من إملاء رسول اللّه (صلي الله عليه وآله)، ولو کان من إملاء الرسول (صلي الله عليه وآله) لما کان منزلاً عليها بل عليه. والحاصل أنه لابد من علاج هذه الروايات أو طرحها، والعلاج بأحد وجوه: 1 ـ ربما کان ذلک من باب اشتباه الراوي أو الناسخ، حيث خلط بين الصحيفة الجامعة التي أملاها رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) علي عليّ (عليه السلام) وخطها بيمينه، وبين مصحف فاطمة الذي بيّنت الروايات أنه حدّث الملک به فاطمة وکتبه علي (عليه السلام)، خاصة کون الاثنين واردين معاً في نفس النصوص المذکورة.2 ـ أن يکون المراد برسول اللّه في هذهِ الأخبار الملک الذي کان يحدّث فاطمة (عليها السلام)، لا النبي (صلي الله عليه وآله) (کما احتمله المجلسي).3 ـ کما يحتمل أن يکون مصحف فاطمة (عليها السلام) متضمناً لبعض المعارف التي تلقّتها عن أبيها رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) بالاضافة إلي ما تقدّم من الأمور التي کان يحدّثها بها الملک، ولعلّ الرواية التي تذکر شمول المصحف المذکور لوصيّة فاطمة (عليها السلام) تقصد هذا. فيصحّ عندئذ أنه من إملاء رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) بهذا الاعتبار، واللّه أعلم. 4 ـ کما يحتمل أن تکون فاطمة (عليها السلام) قد ترکت مصحفين، الأول دونت فيه بخط علي (عليه السلام) ما حدّثتها الملائکة به بعد وفاة أبيها (صلي الله عليه وآله)، والآخر دونت فيه بعض العلوم التي أملاها عليها وعلي علي (عليه السلام) رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) وعليه فيتعدّد الموضوع.

وعلي أي حال فهذا لا يضرّ بمقصودنا، وهو نفي التهمة التي يتمسّک بها المخالفون، حيث صرّحت جميع الأخبار ـ بما فيها هذه الثلاثة المتقدمة ـ بنفي القرآنية عن مصحف فاطمة.في نهاية المطاف نذکّر أن المصحف المذکور بقي عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يتوارثونه مع بقيّة الکتب المتضمنة لعلوم الأنبياء والرسل الماضين، ومع صحيفة الأحکام الجامعة التي أملاها رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) علي علي (عليه السلام)، وقد تحدثنا فيما مضي عن هذه الصحيفة بشکل مفصل. وقد کان هذا الميراث العلمي يشکل أحد علائم الإمامة الکبري.المهمّ هو الاشارة إلي أن مصحف فاطمة کبقية الصحف والکتب لم تنتقل إلي غيرهم (عليهم السلام)، ولم تصل إلي شيعتهم، وليس هناک أي واقع لما يدّعيه افتراءً بعض الکتّاب من کون هذا المصحف متداولاً في بعض مناطق الشيعة، لا في بلاد الحجاز ولا في غيرها، والمؤسف أن أصحاب هذه الأقلام يطلقون العنان لأقلامهم دون تدبّر ولا تثبّت، ويأخذون معلوماتهم من العوام، ويصدقون کل مقولة للطعن والتشنيع، فيثبتونها في کتبهم لتصبح بعد ذلک مصادر يعتمد عليها المأجورون والساعون وراء تفريق المسلمين وزرع الفتن بينهم. نسأله تعالي أن يعصمنا من الزلل وأن يغفر لنا هفوات الفکر واللسان وأن يحفظ المسلمين من کيد الشياطين وأهل الفتن.









  1. صحيح البخاري 200/4، وصحيح مسلم بشرح النووي 166/15، وسنن الترمذي 581/5 وراجع: ارشاد الساري شرح صحيح البخاري 99/6 و 431/5.
  2. القرطبي: الجامع لأحکام القرآن.
  3. ابن سعد: الطبقات الکبري 11/7 و 288/4 ـ 289 ومعجم الطبراني الکبير: 107/18 ح/ 203.
  4. ابن الجوزي: المنتظم 82/17، وصفة الصفوة 250/2.
  5. ابن الجوزي: المنتظم 386/12، والخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 362/8.
  6. لعلّ المراد أنه أشار بيده نفياً، و«أو» لعلّها من زيادة النساخ، ولعلّها هو، وفي البصائر: وکصاحب سليمان....
  7. الکليني: الکافي 271/1.
  8. الصفار: بصائر الدرجات/ 323 ط. المرعشي.
  9. الأميني: الغدير 48/5 عن بصائر الدرجات، إلاّ أن في البصائر المطبوعة سقطت هذه العبارة.
  10. المجلسي: بحار الأنوار 41/26 و 271/47، والصفار: بصائر الدرجات/ 153 ط. المرعشي.
  11. المجلسي: بحار الأنوار 42/26، والصفار: بصائر الدرجات/ 155 ط. المرعشي.
  12. المجلسي: بحار الأنوار 26/ 48 ـ 49، والصفار: بصائر الدرجات/ 161 ط. المرعشي.