دعاوي لا أصل لها











دعاوي لا أصل لها



1 ـ قال المحقق الجرجاني: الجفر والجامعة کتابان لعلي (عليه السلام) قد ذکر فيها علي طريقة علم الحروف الحوادث إلي انقراض العالم[1].

وقد عرفنا سابقاً أن الجامعة کتاب لعلي (عليه السلام) فيه الحلال والحرام، وليس الجفر کما ذکر وانما هو کما تقدم وعاء فيه الکتب، ولا أدري من أين جاؤوا بهذه التعريفات. أما علم الحروف، فانا ـ کما تقدم ـ لا نستبعد أن تکون بعض الصحائف قد کتبت بشکل مرموز، لکن ليس هناک دليل علي أن الحوادث إلي انقراض العالم دوّنت بذلک الشکل.

2 ـ وقال ابن خلدون: وقد يستندون في حدثان الدول علي الخصوص إلي کتاب الجفر ويزعمون أن فيه علم ذلک کله من طريق الآثار والنجوم لا يزيدون علي ذلک ولا يعرفون أصل ذلک ولا مستنده، قال: واعلم أن کتاب الجفر کان أصله أن هارون بن سعيد العجلي، وهو رأس الزيدية، کان له کتاب يرويه عن جعفر الصادق وفيه علم ما سيقع لأهل البيت علي العموم ولبعض الأشخاص منهم علي الخصوص، وقد وقع ذلک لجعفر ونظائره من رجالاتهم عن طريق الکرامة والکشف الذي يقع لمثلهم من الأولياء، وکان مکتوباً عند جعفر في جلد ثور صغير[2].

وفي کلام ابن خلدون مواضع عديدة للنقاش:

أولها: قوله: أن فيه علم ذلک کله من طريق الآثار والنجوم، إن کان مراده من ذلک علم الحوادث الذي عند الأئمة (عليهم السلام) فهو شطط ما بعده شطط، إذ أن الأئمة (عليهم السلام) يعرفون ما يعرفون عن طريق الرسول (صلي الله عليه وآله) وهو بدوره عن طريق الوحي.

ثانياً: قوله: ان کتاب الجفر کان أصله أن هارون العجلي... الخ، هذه الدعوي لم يعلم لها أصل کما صرح نفسه بعد ذلک حيث قال: وهذا الکتاب لم تتصل روايته ولا علم أصله، ويستبعد جداً أن يکون هارون ابن سعد العجلي قد تلقي شيئاً من تلک العلوم من الامام جعفر الصادق (عليه السلام)، وهو ليس من القائلين بامامته وانما هو من الزيديّة ومن رؤوسها کما صرّح به هو وغيره. بل لم ينقل عنه أية رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في المجاميع الحديثية الرئيسية للشيعة. ولو سلمنا فهو غير الجفر الذي يتحدث عنه أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

وثالثاً: قوله: وقد وقع ذلک لجعفر ونظائره... عن طريق الکرامة والکشف.. الخ، ونحن وان کنا لا نمنع أن يتحقق لهم (عليهم السلام) شيء من العلم عن طريق الکشف والکرامة التي تقع للأولياء، فانها لهم بطريق أولي کما ذکر ابن خلدون نفسه. إلاّ أن دعواه أن ما في الجفر حصل عن هذا الطريق فلا اشکال في بطلانه وعلي الأقل هو رجم بالغيب، ومبني علي أساس واهي، وهو انکار اختصاصهم (عليهم السلام) بميراث ودائع النبوة التي تعني أنهم أولي بالاتباع وأحق بالامامة وهذا ما يفرّ عن الاعتراف به.

3 ـ ويقول مصطفي صادق الرافعي: انه لا يُعرف في تاريخ العالم کتاب بلغت عليه الشروح والتفاسير ما بلغ من ذلک علي القرآن الکريم، حتي فسرته الروافض بالجفر، علي فساد ما يزعمون وسخافة ما يقولون وعلي سوء الدعوي فيما يدعون، من علم باطنه بما وقع إليهم من ذلک الجفر واستنبط منه غيرهم اشارات من الغيب بضروب من الحساب، کهذا الذي ينسبونه إلي الحسن بن علي من أن رسول الله (صلي الله عليه وآله) رأي في رؤياه ملوک بني أميّة، فساءه ذلک فأنزل اللّه عليه ما يسري عنه من قوله «ليلة القدر خير من ألف شهر» وهي مدة الدولة الأمويّة، فقد کانت أيامها خالصة ثلاثة وثمانين سنة وأربعة أشهر مجموعها ألف شهر سواء[3].

ونحن ننقل هنا ما أورده المرحوم السيد محسن الأمين نقضاً عليه، فقال:

أولاً: ان الشيعة لم تفسر القرآن بالجفر وانما فسّرته کما يفسره علماء المسلمين، ولم يدّعوا علم باطنه بما وقع إليهم من ذلک الجفر، بل لم يدّع أحدٌ منهم أنه وقع إليه ذلک الجفر، ولا أنه رآه، نعم رووا أنه کان عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فليأتنا الرافعي برجل واحد من الشيعة قال إن الجفر عنده، أو برجل منهم فسّر القرآن بالجفر إن کان من الصادقين، وهذه تفاسير الشيعة للقرآن الکريم معروفة واکثرها مطبوعة..

ثانيا: وأما قوله: واستنبط منه غيرهم اشارات من الغيب.. الخ، فهو کسابقه لا حقيقة له والحديث الذي أشار إليه بقوله کهذا الذي ينسبونه إلي الحسن.. الخ، معبراً عنه بعبارة التوهين والاستخفاف هو حديث يرويه الثقات عن النبي (صلي الله عليه وآله) في أن الآية الشريفة نزلت في مدة ملک بني أميّة، وليس ذلک مستنبطاً من الجفر، ولا بضروب من الحساب، فهذا الذي ساء الرافعي وعظم عليه: أن تکون الآية نازلة في ملک أسياده بني أميّة الأبرار الأتقياء أهل الأعمال المشهورة في الاسلام، فطفق يعبّر بعبارات الاستخفاف بقوله کهذا الذي ينسبونه..[4].

4 ـ وقال حاجي خليفة: علم الجفر والجامعة: وهو عبارة عن العلم الاجمالي بلوح القضاء والقدر، المحتوي علي کل ما کان وما يکون کلياً وجزئياً، والجفر عبارة عن لوح القضاء الذي هو عقل الکل، والجامعة لوح القدر الذي هو نفس الکل.

وقد ادعي طائفة أن الامام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وضع الحروف الثمانية والعشرين علي طريقة البسط الأعظم في جلد الجفر يستخرج منها بطريقة مخصوصة وشرائط معينة وألفاظ مخصوصة ما في لوح القضاء والقدر، وهذا علم توارثه أهل البيت ومن ينتمي إليهم ويأخذ منهم، من المشايخ الکاملين. وکانوا يکتمونه عن غيرهم کل الکتمان[5].

وهذا الکلام وان لم يتضمن توهيناً لأهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم، لکنه دعوي بلا دليل، فليس في ما روي عنهم (عليهم السلام) في کتب الشيعة ما يدل علي شيء من ذلک، وأهل البيت أعلم بالذي فيه. وأکثر ما يثير العجب أن هؤلاء المصنفين مع اعترافهم بأنهم کانوا يکتمونه، ينصّبون أنفسهم لبيان تفاصيله وأسراره وکأنهم أعلم الناس به، فليت شعري هل کانوا (عليهم السلام) يکتمونه عن شيعتهم وأصحابهم ويلقونه إلي أعدائهم والمعرضين عنهم.

لکنّ القضيّة أن الکثير من هؤلاء لا يخرجون عن کونهم مقلده، فاذا تقوّل أحد الکتّاب مقولةً لا يعرف لها أصل، وأودعها کتابه، هرعوا للتمسک بها ونقلها علي أساس أنها من المسلّمات دون أن يتعبوا أنفسهم بالرجوع إلي المصادر ومن دون تحقيق ولا تمحيص.

5 ـ وقال ابن قتيبة: وأعجب من هذا التفسير تفسير الروافض للقرآن، وما يدّعونه من علم باطنه بما وقع إليهم من الجفر الذي ذکره هارون بن سعيد العجلي وکان رأس الزيدية فقال:


ألم تر أن الرافضين تفرّقوا
فکلّهم في جعفرِ قال منکرا


فطائفة قالوا إمام ومنهمُ
صوائف سمته النبيّ المطهّرا


ومن عجب لم أقضه جلد جفرهم
برئت إلي الرحمن ممن تجفّرا


ثم قال: وهو جلد جفر ادعوا أنه کتب فيه لهم الامام کل ما يحتاجون إلي علمه وکل ما يکون إلي يوم القيامة.

ثم أورد آيات عدّة نسب إلي الشيعة تفسيرهم لها بما لا يقول به أحد منهم ولا سمعنا به من أحد غير ابن قتيبة ومن علي منواله[6].

وفي هذا الکلام قبل کل شيء إبطال لما ادعاه ابن خلدون من نسبة کتاب الجفر إلي هارون بن سعيد العجلي وأنه رواه عن الامام الصادق (عليه السلام)، فما نقله هنا من الشعر يدلّ علي أنه يستنکر عليهم القول بامامة جعفر الصادق ويستخف بالجفر ويتبرأ منه. علي أنه جعل القائلين بنبوّة جعفر الصادق (عليه السلام) من الرافضين ويعني بهم الشيعة الإمامية، مع أن أولئک ـ لو سلمنا بوجود أحد يقول بذلک ـ من الکفار بلا شک.

وأما دعواه بأن الشيعة يدّعون علم باطنه فقد تقدم الردّ عليه عند التعرض لما تبعه عليه مصطفي صادق الرافعي حرفاً بحرف.

وأما قوله أنه کتب فيه لهم الامام کل ما يحتاجون إلي علمه.. الخ فهو تقوّل علي الشيعة، فلم يقل بذلک أحد منهم، وکل ما في الأمر أنهم رووا وجوده عند الامام الصادق وأنه من مواريث الأئمة التي وصلتهم من رسول اللّه (صلي الله عليه وآله) واين هذا مما زعم.

ولقد نقل کلام ابن قتيبة هذا عدّة من المؤلفين الذين يدّعون أنه من أهل التحقيق من دون تحقيق، أمثال عبدالسلام هارون[7] ومصطفي صادق الرافعي[8] وأصحاب دوائر المعارف وأمثالهم، وسبقهم إلي نقله الدميري[9] وهو يعطي صورة واضحة عن مظلومية أهل البيت وأتباعهم، ومقدار التشويه في نقل صورة معتقداتهم وأقوالهم، مما يدلّ علي ضرورة الرجوع الي مصادر الشيعة أنفسهم للتعرف علي آرائهم ونظراتهم.

6 ـ نضيف إلي کل ما تقدم ما حوته دائرة المعارف الاسلامية من أوهام ليس لها أصل يطول سردها، فمن تلک الاوهام أن الغزالي (أبا حامد) کان أميناً علي الجفر في زمانه، وأنه انتقل منه إلي ابن تومرت!!، ومنها: التشکيک في صحة استعمال کلمة الجفر بمعني الرّق أو الجلد، وأن الامام الصادق هو مؤلف هذا الکتاب، وغير ذلک مما عوّدنا عليه المستشرقون الذين يقرؤون من هنا وهناک أموراً متفرقة ثم يربطون بينها بتحليلات ما أنزل اللّه بها من سلطان، ويدسّون ما يشاؤون بغية تشويه الحقائق[10].

وخلاصة القول: أن المعتمد من النصوص عند الشيعة لا يقتضي إلاّ ما ذکرناه من کون الجفر جراباً مصنوعاً من الأديم يحتوي کتباً موروثة عن رسوله اللّه (صلي الله عليه وآله) منها ما هو باملائه وخط عليّ (عليه السلام) ومنها ما هو واصل إليه من کتب الأنبياء الماضين، إضافة إلي سلاح رسول الله (صلي الله عليه وآله) ومصحف السيدة فاطمة الزهراء الذي فيه علم ما يکون إلي يوم القيامة. وکون الجفر نفسه کتاباً أمرٌ محتمل جداً إلاّ أن ما ذکره هؤلاء من الأوهام لا دليل عليها ولا برهان وهي من نسج خيالاتهم.

ولقد ذکر ابن خلدون أن يعقوب بن إسحاق الکندي منجّم الرشيد والمأمون، وضع في القرانات الکائنة في الملّة کتاباً سماه الشيعة الجفر باسم کتابهم المنسوب إلي جعفر الصادق، وذکر فيه ـ فيما يقال ـ حدثان دولة بني العباس.. قال: ولم نقف علي شيء من خبر هذا الکتاب.

ثم قال: قد وقع بالمغرب جزء منسوب إلي هذا الکتاب يسمونه الجفر الصغير[11].

فاذا قارنّا بين هذا الکلام والکلام السابق الذي نقلته دائرة المعارف الاسلامية في قصة انتقال الجفر إلي ابن تومرت، وسفر هذا الأخير إلي المغرب، يقوي في النفس أن تلک الأوهام نشأت من الخلط بين کتاب التنجيم هذا وبين الجفر الذي يتحدث عنه أهل البيت (عليهم السلام) لمجرّد الاتفاق بالإسم، وشتان بين الثري والثريّا.









  1. المحقق الجرجاني: شرح المواقف.
  2. ابن خلدون: المقدمة/ 334/ الفصل 53.
  3. مصطفي صادق الرافعي: اعجاز القرآن والبلاغة النبوية/ 124 و 125.
  4. السيد محسن الأمين: أعيان الشيعة 96/1.
  5. حاجي خليفة: کشف الظنون عن أسامي الکتب والفنون 591/1.
  6. ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث/ 70.
  7. في هامش کتاب الحيوان للجاحظ بتحقيقه 289/6.
  8. الرافعي: اعجاز القرآن/ 124، وقد تقدم تخريجه.
  9. الدميري: حياة الحيوان الکبري 279/1.
  10. دائرة المعارف الاسلامية التي کتبها المستشرقون البريطانيون 46/7 ـ 49.
  11. ابن خلدون: المقدمة/ 338 في الفصل 53.