يمتحن اللَّه الأوصياء في سبعة مواطن















يمتحن اللَّه الأوصياء في سبعة مواطن‏



1/10254- الصدوق، حدثنا أبي‏رحمه الله؛ ومحمد بن الحسن، قالا: حدثنا سعد بن عبداللَّه، قال: حدثنا أحمد بن الحسين بن سعيد، قال: حدثني جعفر بن محمد النوفلي، عن يعقوب بن يزيد، قال: قال أبوعبداللَّه جعفر بن أحمد بن محمد بن عيسي بن محمد بن علي بن عبداللَّه بن جعفر بن أبي‏طالب عليه‏السلام، قال: حدثنا يعقوب ابن‏عبداللَّه الکوفي، قال: حدثنا موسي بن عبيدة، عن عمرو بن أبي‏المقدام، عن أبي‏اسحاق، عن الحارث، عن محمد بن الحنفية، وعمرو بن أبي‏المقدام، عن جابر الجعفي، عن أبي‏جعفر عليه‏السلام قال: أتي رأس اليهود علي بن أبي‏طالب عليه‏السلام عند منصرفه من وقعة النهروان وهو جالس في مسجد الکوفة، فقال: ياأميرالمؤمنين إني أريد أن أسألک عن أشياء لا يعلمها إلّا نبي أو وصي نبي.

[صفحه 374]

قال عليه‏السلام: سل عما بدا لک ياأخا اليهود، قال: إنا نجد في الکتاب أن اللَّه عزّوجلّ إذا بعث نبياً أوحي اليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر اُمته من بعده، وأن يعهد اليهم فيه عهداً يحتذي ويعمل به في اُمته من بعده، وأن اللَّه عزّوجلّ يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء ويمتحنهم بعد وفاتهم، فأخبرني کم يمتحن اللَّه الأوصياء في حياة الأنبياء؟ وکم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرة؟ وإلي ما يصير آخر الأمر الأوصياء إذا رضي اللَّه محنتهم؟

فقال له علي عليه‏السلام: واللَّه الذي لا إله غيره، الذي فلق البحر لبني اسرائيل وأنزل التوراة علي موسي عليه‏السلام لئن أخبرتک بحق عما تسأل عنه لتقرَّن به؟ قال: نعم، قال: والذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة علي موسي عليه‏السلام لئن أجبتک لتسلمن؟ قال: نعم.

قال له علي عليه‏السلام: إن اللَّه عزّوجلّ يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء في سبعة مواطن ليبتلي طاعتهم فاذا رضي طاعتهم ومحنتهم أمر الأنبياء أن يتخذوهم أولياء في حياتهم وأوصياء بعد وفاتهم، ويصير طاعة الأوصياء في أعناق الاُمم ممن يقول بطاعة الأنبياء، ثم يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء عليهم‏السلام في سبعة مواطن ليبلو صبرهم، فاذا رضي محنتهم ختم لهم بالسعادة ليلحقهم بالأنبياء، وقد أکمل لهم السعادة.

قال له رأس اليهود: صدقت ياأميرالمؤمنين فأخبرني کم امتحنک اللَّه في حياة محمد من مرة؟ وکم امتحنک بعد وفاته من مرة؟ وإلي ما يصير آخر أمرک؟ فأخذ علي عليه‏السلام بيده وقال: انهض بنا أنبئک بذلک، فقام اليه جماعة من أصحابه فقالوا ياأميرالمؤمنين أنبئنا بذلک معه؟ فقال: اني أخاف أن لا تحتمله قلوبکم، قالوا ولم ذاک ياأميرالمؤمنين؟ قال: لاُمور بدت لي من کثير منکم، فقام اليه الأشتر فقال: ياأميرالمؤمنين أنبئنا بذلک فواللَّه إنا لنعلم أنه ما علي ظهر الأرض وصي نبي سواک،

[صفحه 375]

وإنا لنعلم أن اللَّه لم يبعث بعد نبينا صلي الله عليه و آله نبياً سواه، وإن طاعتک لفي أعناقنا موصولة بطاعة نبينا.

فجلس علي عليه‏السلام وأقبل علي اليهودي فقال: ياأخا اليهود إن اللَّه عزّوجلّ امتحنني في حياة نبينا محمد صلي الله عليه و آله في سبعة مواطن فوجدني فيهن- من غير تزکية لنفسي- بنعمة اللَّه له مطيعاً، قال: وفيم ياأميرالمؤمنين؟ قال:

أما: أولهنّ فان اللَّه عزّوجلّ أوحي إلي نبينا صلي الله عليه و آله وحمله الرسالة، وأنا أحدث أهل بيتي سناً أخدمه في بيته وأسعي في قضاء بين يديه في أمره، فدعا صغير بني عبدالمطلب وکبيرهم إلي شهادة أن لا إله إلّا اللَّه وأنه رسول‏اللَّه فامتنعوا من ذلک وأنکروه عليه وهجروه ونابذوه واعتزلوه واجتنبوه، وسائر الناس مقصين له ومخالفين عليه، قد استعظموا ما أورده عليهم مما لا تحتمله قلوبهم ولم تدرکه عقولهم، فأجبت رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله وحدي إلي ما دعا اليه مسرعاً مطيعاً موقناً، لم يتخالجني في ذلک شک، فمکثنا بذلک ثلاث حجج وما علي وجه الأرض خلق يصلي أو يشهد لرسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله بما أتاه اللَّه غيري وغير ابنة خويلد (رحمها اللَّه) وقد فعل، ثم أقبل عليه‏السلام علي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي ياأميرالمؤمنين، فقال عليه‏السلام:

وأمّا الثانية ياأخا اليهود: فانّ قريشاً لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي صلي الله عليه و آله حتي کان آخر ما اجتمعت في ذلک يوم الدار دار الندوة وإبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف، فلم تزل تضرب أمرها ظهر البطن حتي اجتمعت آراؤها علي أن ينتدب من کل فخذ من قريش رجل ثم يأخذ کل رجل منهم سيفه ثم يأتي النبي صلي الله عليه و آله وهو نائم علي فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلونه، وإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها فيمضي دمه هدراً، فهبط جبرئيل علي النبي صلي الله عليه و آله فأنبأه بذلک وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها

[صفحه 376]

والساعة التي يأتون فراشه فيها، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلي الغار، فأخبرني رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله بالخبر وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي، فأسرعت إلي ذلک مطيعاً له مسروراً لنفسي بأن اُقتل دونه، فمضي صلي الله عليه و آله لوجهه واضطجعت في مضجعه، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي صلي الله عليه و آله فلما استوي بي وبهم البيت الذي أنا فيه ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه اللَّه والناس، ثم أقبل علي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي ياأميرالمؤمنين، فقال عليه‏السلام:

وأما الثالثة ياأخا اليهود: فإن ابني ربيعة وابن‏عتبة کانوا فرسان قريش، دعوا إلي البراز يوم بدر فلم يبرز لهم خلق من قريش، فانهضني رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله مع صاحبي (رضي اللَّه عنهما) وقد فعل وأنا أحدث أصحابي سناً وأقلهم للحرب تجربة، فقتل اللَّه عزّوجلّ بيدي وليداً وشيبة، سوي من قتلت من جحاجحة قريش في ذلک اليوم، وسوي من اُسرت، وکان مني أکثر مما کان من أصحابي، واستشهد ابن‏عمي في ذلک اليوم (رحمة اللَّه عليه)، ثم التفت إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي ياأميرالمؤمنين، فقال عليه‏السلام:

وأما الرابعة ياأخا اليهود: فان أهل مکة أقبلوا الينا علي بکرة أبيهم قد استحاشوا من يليهم من قبائل العرب وقريش طالبين بثار مشرکي قريش في يوم بدر، فهبط جبرئيل عليه‏السلام علي النبي صلي الله عليه و آله فأنبأه بذلک، فذهب النبي وعسکر بأصحابه في سد أُحد، وأقبل المشرکون الينا فحملوا علينا حملة رجل واحد، واستشهد من المسلمين من استشهد، وکان ممن بقي منهم من الهزيمة (وعفي اللَّه عنهم) وبقيت مع رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله ومضي المهاجرون والأنصار إلي منازلهم من المدينة کل يقول قتل النبي وقتل أصحابه، ثم ضرب اللَّه عزّوجلّ وجوه المشرکين، وقد جُرحت بين يدي رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله نيفاً وسبعين جرحة منها هذه وهذه، ثم ألقي ردائه وأمرّ يده علي

[صفحه 377]

جراحاته، وکان مني في ذلک ما علي اللَّه عزّوجلّ ثوابه إن شاء اللَّه، ثم التفت عليه‏السلام إلي أصحابه فقال: أليس کذلک! قالوا: بلي ياأميرالمؤمنين فقال:

وأما الخامسة ياأخا اليهود: فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتي تقتل رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله وتقتلنا معه معاشر بني عبدالمطلب، ثم أقبلت بجدها وحديدها حتي أناخت علينا بالمدينة، واثقة بأنفسها فيما توجهت له، فهبط جبرئيل علي النبي صلي الله عليه و آله فأنبأه بذلک، فخندق علي نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار، فقدمت قريش فأقامت علي الخندق محاصرة لنا، تري في أنفسها القوة وفينا الضعف، ترعد وتبرق ورسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله يدعوها إلي اللَّه عزّوجلّ ويناشدها بالقرابة والرحم، فتأبي ولا يزيدها ذلک إلّا عتواً، وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود، يهدر کالبعير المغتلم يدعو إلي البراز ويرتجز ويخطر برمحه مرة وبسيفه مرة لا يقدم عليه مقدم، ولا يطمع فيه طامع، ولا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه، فأنهضني اليه رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله وعممني بيده وأعطاني سيفه هذا- وضرب بيده إلي ذي الفقار- فخرجت اليه ونساء أهل المدينة بواکي إشفاقاً عليّ من ابن‏عبد ود، فقتله اللَّه عزّوجلّ بيدي، والعرب لا تعدّ لها فارساً غيره، وضربني هذه الضربة- وأومأ بيده إلي هامته- فهزم اللَّه قريشاً والعرب بذلک وبما کان مني فيهم من النکاية، ثم التفت عليه‏السلام إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ فقالوا: بلي ياأميرالمؤمنين، فقال عليه‏السلام:

وأمّا السادسة ياأخا اليهود: فإنا وردنا مع رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله مدينة أصحابک خيبر علي رجال اليهود وفرسانها من قريش وغيرها، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح، في أمنع دار وأکثر عدداً، کل ينادي يدعو ويبادر إلي القتال، فلم يبرز اليهم من أصحابي أحد إلّا قتلوه، حتي إذا احمرت الحدق، ودُعِيت إلي النزال وأهمت کل امرئ نفسه والتفت بعض أصحابي إلي بعض وکل يقول:

[صفحه 378]

ياأباالحسن انهض، فأنهضني رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله إلي دارهم فلم يبرز إلي منهم أحد إلّا قتلته، ولا يثبت لي فارس إلّا طحنته، ثم شددت عليهم شدة الليث علي فريسته حتي أدخلتهم جوف مدينتهم مسدّداً عليهم، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتي دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من يظهر فيها من رجالها وأسبي من أجد من نسائها حتي أفتتحها وحدي، ولم يکن لي فيها معاون إلّا اللَّه وحده، ثم التفت إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي ياأميرالمؤمنين، فقال عليه‏السلام:

وأما السابعة ياأخا اليهود: فان رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله لما توجه لفتح مکة أحب أن يعذر إليهم ويدعوهم إلي اللَّه عزّوجلّ آخراً کما دعاهم أولاً، فکتب اليهم کتاباً يحذرهم فيه وينذرهم عذاب اللَّه ويعدهم الصفح ويمنيهم مغفرة ربهم، ونسخ لهم في آخره سورة براءة ليقرأها عليهم، ثم عرض علي جميع أصحابه المضي به، فکلهم يري التثاقل فيه، فلما رأي ذلک ندب منهم رجلاً فوجهه به، فأتاه جبرئيل فقال: يامحمد لا يؤدي عنک إلّا أنت أو رجل منک فأنبأني رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله بذلک ووجهني بکتابه ورسالته إلي أهل مکة، فأتيت مکة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلّا ولو قدر أن يضع علي کل جبل مني إرباً لفعل، ولو أن يبذل في ذلک نفسه وأهله وولده وماله، فبلغتهم رسالة النبي وقرأت عليهم کتابه، فکلّهم يلقاني بالتهدد والوعيد ويبدي لي البغضاء، ويظهر لي الشحناء من رجالهم ونسائهم، فکان مني في ذلک ما قد رأيتم، ثم التفت إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي ياأميرالمؤمنين، فقال عليه‏السلام: ياأخا اليهود هذه المواطن التي امتحنني فيها ربي عزّوجلّ مع نبيه صلي الله عليه و آله فوجدني فيها کلها بمنّه مطيعاً، ليس فيها مثل الذي لي، ولو شئت. لوصفت ذلک ولکن اللَّه عزّوجلّ نهي عن التزکية، فقالوا: ياأميرالمؤمنين صدقت واللَّه لقد أعطاک اللَّه عزّوجلّ الفضيلة بالقرابة من نبينا صلي الله عليه و آله وأسعدک بأن جعلک أخاه، تنزل منه بمنزلة هارون من موسي، وفضلک بالمواقف التي باشرتها، والأهوال التي

[صفحه 379]

رکبتها، وذخر لک الذي ذکرت وأکثر منه مما لم تذکره، ومما ليس لأحد من المسلمين مثله، يقول ذلک من شهدک منّا مع نبينا ومن شهدک بعده، فأخبرنا ياأميرالمؤمنين ما امتحنک اللَّه عزّوجلّ به بعد نبينا صلي الله عليه و آله فاحتملته وصبرت، فلو شئنا أن نصف ذلک لوصفناه علماً منا به وظهوراً منا عليه، إلّا أنا نحب أن نسمع منک ذلک کما سمعنا منک ما امتحنک اللَّه به في حياته فأطعته فيه، فقال عليه‏السلام:

ياأخا اليهود إن اللَّه عزّوجلّ امتحنني بعد وفاة نبيه صلي الله عليه و آله في سبعة مواطن فوجدني فيهن- من غير تزکية لنفسي- بمنه ونعمته صبوراً.

أمّا أولهن ياأخا اليهود فانه لم يکن خاصة دون المسلمين عامة أحد آنس به أو اعتمد عليه أو استقيم إليه أو أتقرب به غير رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله وهو رباني صغيراً وبوأني کبيراً وکفاني العيلة، وجبرني من اليتم، وأغناني عن الطلب، ووقاني الکسب، وعال لي النفس والولد والأهل، هذا في تصاريف أمر الدنيا مع ما خصني به من الدرجات التي قادتني إلي معالي الحظوة عند اللَّه عزوجل، فنزل بي عن وفاة رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله ما لم أکن أظن الجبال لو حملته عفوة کانت تنهض به، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملک جزعه، ولا يضبط نفسه، ولا يقوي علي حمل فادح ما نزل به، قد أذهب الجزع صبره، وأذهل عقله، وحال بينه وبين الفهم والافهام والقول والاستماع، وسائر الناس من غير بني عبدالمطلب بين معز يأمر بالصبر، وبين مساعد باک لبکائهم، جازع لجزعهم، وحملت نفسي علي الصبر عند وفاته بلزوم الصمت والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه، وتغسيله وتحنيطه وتکفينه، والصلاة عليه، ووضعه في حفرته، وجمع کتاب اللَّه وعهده إلي خلقه، ولا يشغلني عن ذلک بادر دمعة ولا هايج زفرة ولا لاذع حرقة ولا جزيل مصيبة حتي أديت في ذلک الحق الواجب للَّه عزّوجلّ ولرسوله صلي الله عليه و آله عليّ وبلغت منه الذي أمرني به، واحتملته صابراً محتسباً، ثم التفت عليه‏السلام إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا:

[صفحه 380]

بلي ياأميرالمؤمنين.

وأما الثانية ياأخا اليهود، فان رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله أمرني في حياته علي جميع اُمته وأخذ علي من حضره منهم البيعة بالسمع والطاعة لأمري، وأمرهم أن يبلّغ الشاهد الغائب ذلک، فکنت المؤدي اليهم عن رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله أمره إذا حضرته والأمير علي من حضرني منهم إذا فارقته، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شي‏ء من الأمر في حياة النبي صلي الله عليه و آله ولا بعد وفاته، ثم أمر رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله بتوجيه الجيش الذي وجهه مع اُسامة بن زيد عند الذي أحدث اللَّه به من المرض الذي توفاه فيه، فلم يدع النبي أحداً من أبناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس من يخاف عليّ نقضه ومنازعته، ولا أحداً من يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلّا وجهه في ذلک الجيش، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم والمؤلفة قلوبهم والمنافقين، لتصفو قلوب من يبقي معي بحضرته، ولئلا يقول قائل شيئاً مما أکرهه، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده، ثم کان آخر ما تکلم به في شي‏ء من أمر اُمته أن يمضي جيش اُسامة لا يختلف عنه أحد ممن أنهض معه، وتقدم في ذلک أشد التقدم، وأوعز فيه أبلغ الايعاز ولکنه فيه أکثر التأکيد، فلم أشعر بعد أن قبض النبي صلي الله عليه و آله إلّا برجال من بعث مع اُسامة بن زيد وأهل عسکره قد ترکوا مراکزهم، وأخلوا مواضعهم، وخالفوا أمر رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله فيما أنهضهم له وأمرهم به، وتقدم اليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه حتي ينفذ لوجهه للذي أنفذه اليه، فخلفوا أميرهم مقيماً في عسکره، وأقبلوا يتبادرون علي الخيل رکضاً إلي حلّ عقدة عقدها اللَّه عزّوجلّ لي ولرسوله صلي الله عليه و آله في أعناقهم فحلوها، وعهد عاهدوا اللَّه ورسوله فنکثوه، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت به أصواتهم واختصت به آراؤهم من غير مناظرة لأحد منا بني عبدالمطلب أو مشارکة في رأي أو استقالة لما في

[صفحه 381]

أعناقهم من بيعتي، فعلوا ذلک وأنا برسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله مشغول وبتجهيزه عن سائر الأشياء معدود، فانه کان أهمها وأحق ما أبدأ به منها، وکان هذا ياأخا اليهود أقرح ما ورد علي قلبي مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية، وفاجع المصيبة، وفقد من لا خلف منه إلّا اللَّه تبارک وتعالي، فصبرت عليها إذا أنت بعد اختها علي تقاربها وسرعة اتصالها، ثم التفت عليه‏السلام إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي ياأميرالمؤمنين، فقال عليه‏السلام:

وأما الثالثة ياأخا اليهود: فان القائم بعد النبي صلي الله عليه و آله کان يلقاني معتذراً في کل أيامه ويلوم غيره ما ارتکبه من أخذ حقي ونقض بيعتي ويسألني تحليله، فکنت أقول تنقضي أيامه، ثم يرجع إلي حقي الذي جعله اللَّه لي عفواً هنياً عن غير أن أحدث في الاسلام مع حدوثه وقرب عهده بالجاهلية حدثاً في طلب حقي بمنازعة، لعل قائلاً يقول فيها نعم وفلاناً يقول لا، فيؤل ذلک من القول إلي الفعل، وجماعة من خواص أصحاب محمد صلي الله عليه و آله أعرفهم بالنصح للَّه ولرسوله ولکتابه ودينه الاسلام، يأتوني عوداً وبدءاً وعلانية وسراً فيدعوني إلي أخذ حقي، ويبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدوا الي بذلک بيعتي في أعناقهم، فأقول: رويداً وصبراً قليلاً لعل اللَّه يأتيني بذلک عفواً بلا منازعة ولا إراقة الدماء، فقد ارتاب کثير من الناس بعد وفاة النبي صلي الله عليه و آله وطمع في الأمر بعده من ليس له بأهل، فقال: کل قوم منا أمير، وما طمع القائلون في ذلک إلّا لتناول غيري الأمر، فلا دنت وفاة القائم وانقضت أيامه صير الأمر بعده لصاحبه، وکانت هذه اُخت اُختها، ومحلها مني مثل محلها، وأخذا مني ما جعله اللَّه لي، فاجتمع الي من أصحاب محمد صلي الله عليه و آله ممن مضي وممن بقي ممن أخره اللَّه من اجتمع، فقالوا: لي فيها مثل الذي قالوا في اُختها، فلم يعد قولي الثاني قولي الأول صبراً واحتساباً ويقيناً واشفاقاً من أن تغني عصبة تألفهم رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله باللين مرة وبالشدة اُخري، وبالبذل مرة وبالسيف اُخري حتي لقد کان من

[صفحه 382]

کان الناس في الکر والفرار والشبع والري، واللباس والوطا والدثار، ونحن أهل بيت محمد صلي الله عليه و آله لا سقوف لبيوتنا، ولا أبواب ولا ستور إلّا الجرائد، وما أشبهها، ولا وطاء لنا ولا دِثار علينا، يتداول الثوب الواحد في الصلاة اکثرنا، ونطوي الليالي والأيام عامتنا، وربما أتانا الشي‏ء مما أفاءه اللَّه علينا وصيره لنا خاصة دون غيرنا ونحن علي ما وصفت من حالنا، فيؤثر به رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله أرباب النعم والأموال تألفاً منه لهم، فکنت أحق من لم يفرق هذه العصبة التي ألفها رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله ولم يحملها علي الخطة التي لا خلاص لها منها دون بلوغها أو فناء آجالها؛ لأني لو نصبت نفسي فدعوتهم إلي نصرتي کانوا مني وفي أمري علي إحدي منزلتين: أما متبع مقاتل، وأما مقتول إن لم يتبع الجميع، وأما خاذل يکفّر بخذلانه إن قصر في نصرتي أو أمسک عن طاعتي.

وقد علم اللَّه أني منه بمنزلة هارون من موسي، يحل به في مخالفتي والامساک عن نصرتي ما أحلّ قوم موسي بأنفسهم في مخالفة هارون وترک طاعته، ورأيت تجرع الغصص ورد أنفاس الصعداء ولزوم الصبر حتي يفتح اللَّه أو يقضي بما أحب أزيد لي في حظي وأرفق بالعصابة التي وصفت أمرهم وکان أمر اللَّه قدراً مقدوراً، ولواثق هذه الحالة ياأخا اليهود، ثم لو طلبت حقي لکنت أولي ممن طلبه لعلم من مضي من أصحاب رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله ومن بحضرتک منهم کنت أکثر عدداً وأعز عشيرة وأمنع رجالاً وأطوع أمراً وأوضح حجة وأکثر في هذا الدين مناقب وآثاراً لسوابقي وقرابتي ووراثتي فضلاً علي استحقاقي ذلک بالوصية التي لا مخرج للعباد منها والبيعة المتقدمة في أعناقهم من تناولها، وقد قبض محمد صلي الله عليه و آله وإن ولاية الاُمة في يده وفي بيته، لا في يد الاُولي تناولوها ولا في بيوتهم، ولأهل بيته الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً أُولي الأمر من بعده من غيرهم في جميع الخصال، ثم التفت عليه‏السلام إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي ياأميرالمؤمنين،

[صفحه 383]

فقال عليه‏السلام:

وأما الرابعة ياأخا اليهود: فإن القائم بعد صاحبه کان يشاورني في موارد الاُمور فيصدرها عن أمري ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأي، ولا أعلم أحداً ولا يعلم أصحابي يناظره في ذلک غيري، ولا يطمع في الأمر بعده سواي، فلما أتته منيته علي فجأة بلا مرض کان قبله ولا أمر کان أمضاه في صحة من بدنه، لم أشک اني قد استرجعت حقي في عافية بالمنزلة التي کنت أطلبها، والعاقبة التي کنت التمسها، وأن اللَّه سيأتي بذلک علي أحسن ما رجوت، وأفضل ما أملت، وکان من فعله أن ختم أمره بأن سمي قوماً أنا سادسهم، ولم يسوني بواحد منهم، ولا ذکر لي حالاً في وراثة الرسول‏ولا قرابة ولا صهر ولا نسب، ولا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ولا أثر من آثاري، وصيرها شوري بيننا، وصير ابنه فيها حاکماً علينا، وأمره أن يضرب أعناق النفر الستة الذين صيّر الأمر فيهم، إن لم ينفذوا أمره، وکفي بالصبر علي هذا ياأخا اليهود صبراً، فمکث القوم أيامهم کلها کلّ يخطب لنفسه وأنا ممسک عن أن سألوني عن أمري فناظرتهم في أيامي وأيامهم وآثاري وآثارهم، وأوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم وذکرتهم عهد رسول‏اللَّه اليهم وتأکيد ما أکده من البيعة لي في أعناقهم، دعاهم حب الامارة وبسط الأيدي والألسن في الأمر والنهي والرکون إلي الدنيا والاقتداء بالماضين قبلهم. إلي تناول ما لم يجعل اللَّه لهم، فاذا خلوت بالواحد ذکرته أيام اللَّه وحذرته ما هو قادم عليه وصائر اليه، التمس مني شرطاً أن أصيرها له بعدي، فلما لم يجدوا عندي إلّا المحجة البيضاء، والحمل علي کتاب اللَّه عزّوجلّ ووصية الرسول‏واعطاء کل امرء منهم ما جعله اللَّه له، ومنعه ما لم يجعل اللَّه له، أزالها عني إلي ابن‏عفان طمعاً في الشحيح ما معه فيها، وابن‏عفان رجل لم يستو به وبواحد ممن حضره حال قط فضلاً عمّن دونهم لا يبدر التي هي سنام فخرهم ولا غيرها من المآثر التي أکرم اللَّه بها رسوله

[صفحه 384]

ومن اختصه معه من أهل بيته عليهم‏السلام، ثم لم أعلم القوم أحسوا من يومهم ذلک حتي ظهرت ندامتهم ونکصوا علي أعقابهم، وأحال بعضهم علي بعض کل يلوم ويلوم أصحابه، ثم لم تطل الأيام بالمستبد بالأمر ابن‏عفان حتي أکفروه وتبرأوا منه، ومشي إلي أصحابه خاصة وسائر أصحاب رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله عامة يستقبلهم من بيعته ويتوب إلي اللَّه من فلتته، فکاکنت هذه ياأخا اليهود أکبر من اُختها وأفظع وأحري أن لا يصبر عليها، فنالني منها الذي لا يبلغ وصفه ولا يحد وقته، ولم يکن عندي فيه إلّا الصبر علي ما أمضي وأبلغ منها، ولقد أتاني الباقون من الستة من يومنهم کل راجع عما کان رکب مني يسألني خلع ابن‏عفان والوثوب عليه وأخذ حقي، يؤتيني صفقته وبيعته علي الموت تحت رايتي أو يردّ اللَّه عزّوجلّ عليّ حقي، فواللَّه ياأخا اليهود ما منعني منها إلّا الذي منعني من اختيها قبلها، ورأيت إلّا بقاء علي من بقي من الطائفة أبهج لي وآنس لقلبي من فنائها.

وعلمت أني إن حملتها علي دعوة الموت رکبته، فأما نفسي فقد علم من حضر ممن تري ومن غاب من أصحاب محمد صلي الله عليه و آله إن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر من ذي العطش الصدي، ولقد کنت عاهدت اللَّه عزّوجلّ ورسوله صلي الله عليه و آله أنا وعمي حمزة وأخي جعفر، وابن‏عمي عبيدة علي أمر وفينا به للَّه عزّوجلّ ولرسوله صلي الله عليه و آله، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد اللَّه عزّوجلّ فأنزل اللَّه فينا «مِنَ المُؤْمِنِيْنَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَي نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَن يَنْتَظِرْ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً»[1] حمزة وجعفر وعبيدة وأنا واللَّه المنتظر- ياأخا اليهود- وما بدّلت تبديلا وما سکتني عن ابن‏عفان وحثني عن الامساک إلّا اني عرفت من أخلاقه فيما اختبرت منه بما لن يدعه حتي يستدعي الأباعد إلي قتله

[صفحه 385]

وخلعه، فضلاً عن الأقارب وأنا في عزلة، فصبرت حتي کان ذلک، لم أنطق فيه بحرف من لا، ولا نعم، ثم أتاني القوم وأنا علم اللَّه کاره لمعرفتي بما تطاعموا به من اعتقال الأموال والمرح في الأرض، وعلمهم بأن تلک ليست لهم عندي وشديد عادة منتزعة، فلما لم يجدوا عندي تعللوا الأعاليل، ثم التفت إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ فقالوا: بلي ياأميرالمؤمنين، فقال عليه‏السلام:

وأما الخامسة ياأخا اليهود: فان المتابعين لي لما لم يطمعوا في تلک مني وثبوا بالمرأة عليّ وأنا ولي أمرها والوصي عليها، فحملوها علي الجمل وشدوها علي الرحال، واقبلوا بها تخبط الفيافي وتقطع البراري وتنبح عليها کلاب الحوأب، وتظهر لهم علامات الندم في کل ساعة وعند کل حال في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الاُولي في حياة النبي، حتي أتت علي أهل بلدة قصيرة أيديهم، طويلة لحاهم، قليلة عقولهم، عارية آراؤهم، وهم جيران بدوٍ ووراد بحرٍ، فأخرجتهم يخبطون بسيوفهم من غير علم، ويرمون بسهامهم بغير فهم، فوقفت من أمرهم علي اثنين کلتاهما في محلة المکروه إن کففت لم يرجع ولم يعقل وإن أقمت کنت قد صرت إلي التي کرهت، فقدمت الحجة بالأعذار والانذار، ودعوت المرأة إلي الرجوع إلي بيتها، والقوم الذين حملوها علي الوفاء ببيعتهم لي، والترک لنقضهم عهد اللَّه عزّوجلّ في، وأعطيتهم من نفسي کل الذي قدرت عليه، وناظرت بعضهم فرجع وذکرت فذکر، ثم أقبلت علي الناس بمثل ذلک فلم يزدادوا إلّا جهلاً وتمادياً وغياً، فلما أبوا إلّا هي، رکبتها منهم فکانت عليهم الدبرة، وبهم الهزيمة، ولهم الحسرة، وفيهم الفناء والقتل، وحملت نفسي علي التي لم أجد منها بداً، ولم يسعني إذ فعلت ذلک وأظهرته آخراً مثل الذي وسعني منه أولاً من الاغضاء والامساک، ورأيتني إن أمسکت کنت معيناً لهم عليّ بإمساکي علي ما صاروا اليه وطمعوا فيه من تناول الأطراف، وسفک الدماء وقتل الرعية وتحکيم النساء النواقص العقول

[صفحه 386]

والحظوظ علي کل حال، کعادة بني الأصغر ومن مضي من ملوک سبأ والاُمم الخالية، فأصير إلي ما کرهت أولاً وآخراً، وقد أهملت المرأة وجندها يفعلون ما وصفت بين الفريقين من الناس، ولم أهجم علي الأمر إلّا بعد ما قدمت وأخرّت، وتأنيت وراجعت، وأرسلت وسافرت، وأعذرت وأنذرت وأعطيت القوم کل شي‏ء يلتمسوه مني بعد أن عرضت عليهم کل شي‏ء لم يلتمسوه، فلما أبوا إلّا تلک، أقدمت عليها، فبلغ اللَّه بي وبهم ما أراد، وکان لي عليهم بما کان مني اليهم شهيداً، ثم التفت إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي ياأميرالمؤمنين، فقال عليه‏السلام:

وأما السادسة ياأخا اليهود: فتحکيمهم الحکمين ومحاربة ابن‏آکلة الأکباد، وهو طليق معاند للَّه عزّوجلّ ولرسوله منذ بعث اللَّه محمداً إلي أن فتح اللَّه عليه مکة عنوة، فأخذت بيعته وبيعة أبيه لي معه في ذلک وفي ثلاثة مواطن بعده، وأبوه بالأمس أول من سلم عليّ بإمرة المؤمنين، وجعل يحثني علي النهوض في أخذ حقي من الماضين قبلي، يجدد لي بيعته کلما أتاني، وأعجب العجب أنه لما رأي ربي تبارک وتعالي قد ردّ إلي حقي وأقره في معدنه، وانقطع طمعه، أن يصير في دين اللَّه رابعاً وفي أمانة حملناها حاکماً، کرّ علي العاصي بن العاص فاستماله فمال اليه، ثم أقبل به بعد أن أطعمه مصر، وحرام عليه أن يأخذ من الفيئ دون قسمه درهماً، وحرام علي الراعي إيصال درهم اليه فوق حقه، فأقبل يخبط البلاد بالظلم ويطأها بالغشم، فمن بايعه أرضاه، ومن خالفه ناواه، ثم توجّه إليّ ناکثاً علينا مغيراً في البلاد شرقاً وغرباً ويميناً وشمالاً، والأنباء تأتيني والأخبار ترد علي بذلک، فأتاني أعور ثقيف فأشار علي أن أوليه البلاد التي هو بها لاداريه بما اُوليه منها، وفي الذي أشار به الرأي في أمر الدنيا لو وجدت عند اللَّه عزّوجلّ في توليته لي مخرجاً، وأصبت لنفسي في ذلک عذراً، فما عملت الرأي في ذلک، وشاورت من أثق بنصيحته للَّه عزّوجلّ ولرسوله صلي الله عليه و آله ولي وللمؤمنين، فکان رأيه في ابن‏آکلة الأکباد کرأي،

[صفحه 387]

ينهاني عن توليته ويحذرني أن أدخل في أمر المسلمين يده، ولم يکن اللَّه ليراني متخذ المضلين عضداً.

فوجهت اليه أخا بجيلة مرة وأخا الأشعريين مرة أخري کلاهما رکن إلي الدنيا وتابع هواه فيما أرضاه، فلما لم أره أن يزداد فيما انتهک من محارم اللَّه إلّا تمادياً شاورت من معي من أصحاب محمد صلي الله عليه و آله البدريين والذين ارتضي اللَّه عزّوجلّ أمرهم ورضي عنهم بعد بيعتهم، وغيرهم من صلحا المسلمين والتابعين، فکل يوافق رأيه رأيي في غزوة ومحاربته وصنعه مما نالت يده، واني نهضت اليه بأصحابي أنفذ إليه من کلّ موضع کتبي وأوجه إليه رسلي أدعوه: الي الرجوع عمّا هو فيه، والدخول فيما فيه الناس معي، فکتب يتحکم عليّ ويتمني عليّ الأماني ويشترط عليّ شروطاً لا يرضاها اللَّه عزّوجلّ ورسوله ولا المسلمون، ويشترط عليّ في بعضها أن أدفع اليه أقواماً من أصحاب محمد صلي الله عليه و آله أبراراً فيهم عمار بن ياسر، وأين مثل عمار واللَّه لقد رأيتنا مع النبي صلي الله عليه و آله وما يعدّ منا خمسة إلّا کان سادسهم، ولا أربعة إلّا کان خامسهم، واشترط دفعهم اليه ليقتلهم ويصلبهم، وانقل دم عثمان، ولعمرو اللَّه ما ألب علي عثمان ولا جمع الناس علي قتله إلّا هو وأشباهه من أهل بيته أغصان الشجرة الملعونة في القرآن، فلما لم أجب إلي ما اشترط من ذلک کرّ مستعلياً في نفسه بطغيانه وبغيه بحمير لا عقول لهم ولا بصائر، فموه لهم أمراً فاتبعوه، وأعطاهم من الدنيا ما أمالهم به اليه، فاجزناهم وحاکمناهم إلي اللَّه عزّوجلّ بعد الاعذار والانذار، فلما لم يزده ذلک إلّا تمادياً وبغياً، لقيناه بعادة اللَّه التي عودنا من النصر علي أعدائه وعدونا، وراية رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله بأيدينا، لم يزل اللَّه تبارک وتعالي يغل حزب الشيطان بها حتي يقضي الموت عليه، وهو معلم رايات أبيه التي لم أزل اُقاتلها مع رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله في کل المواطن، فلم يجد من الموت منجي إلّا الهرب فرکب فرسه وقلب رايته، لا يدري کيف يحتال، فاستعان برأي ابن‏العاص فأشار عليه باظهار

[صفحه 388]

المصاحف ورفعها علي الأعلام والدعاء إلي ما فيها، وقال: إن ابن‏أبي‏طالب وحزبه أهل بصائر ورحمة ويقيناً، وقد دعوک إلي کتاب اللَّه أولاً وهم مجيبوک اليه آخراً، فأطاعه فيما أشار به عليه، إذ رأي أنه لا منجا له من القتل أو الهرب غيره، فرفع المصاحف يدعو إلي ما فيها بزعمه، فمالت إلي المصاحف قلوب من بقي من أصحابي بعد فناء أخيارهم وجهدهم في جهاد أعداء اللَّه وأعدائهم علي بصائرهم وظنوا أن ابن‏آکلة الأکباد له الوفاء بما دعا اليه، فأصغوا إلي دعوته وأقبلوا بأجمعهم في اجابته، فأعلمتهم أن ذلک منه مکر ومن ابن‏العاص معه، وإنهما إلي النکث أقرب منهما إلي الوفاء، فلم يقبلوا قولي ولم يطيعوا أمري، فأبوا إلّا إجابته کرهت أم هويت، شئت أو أبيت، حتي أخذ بعضهم يقول لبعض إن لم يفعل فألحقوه بابن عفان أو ادفعوه إلي ابن‏هند برمته، فجهدت علم اللَّه جهدي ولم أدع علة في نفسي إلّا بلغتها في أن يخلوني ورأيي فلم يعفلوا، وراودتهم علي الصبر علي مقدار فواق الناقة أو رکضة الفرس، فلم يجيبوا ما خلا هذا الشيخ- وأومأ بيده إلي الأشتر- وعصبة من أهل بيتي، فواللَّه ما منعني أن أمضي علي بصيرتي إلّا مخافة أن يقتل هاذان- وأومأ بيده إلي الحسن والحسين- عليهماالسلام فينقطع نسل رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله وذريته من اُمته، ومخافة أن يقتل هذا وهذا وأومئ بيده إلي عبداللَّه بن جعفر ومحمد بن الحنفية (رضي اللَّه عنهما) فاني أعلم لولا مکاني لم يقفا ذلک الموقف، فلذلک صبرت علي ما أراد القوم، مع ما سبق فيه من علم اللَّه عزوجل، فلم رفعنا عن القوم سيوفنا تحکموا في الاُمور وتخيروا الأحکام والآراء وترکوا المصاحف وما دعوا اليه من حکم القرآن، وما کنت أحکم في دين اللَّه أحداً، إذ کان التحکيم في ذلک الخطأ الذي لا شک فيه ولا اقراء، فلما أبوإلّا ذلک أردت أن أحکم رجلاً من أهل بيتي أو رجلاً من أرضي رأيه وعقله وأثق بنصيحته ومودته ودينه، وأقبلت لا اُسمي أحداً إلّا امتنع منه ابن‏هند، ولا أدعوه إلي شي‏ء من الحق إلّا اُدبر عنه، وأقبل ابن‏هند

[صفحه 389]

يسومنا عسفاً، وما ذاک إلّا باتباع أصحابي له علي ذلک.

فلما أبوا إلّا غلبتي علي التحکيم تبرأت إلي اللَّه عزّوجلّ منهم وفوضت ذلک اليهم فقلدوه امرءاً فخدعه ابن‏العاص خديعة ظهرت في شرق الأرض وغربها، وأظهر المخدوع عليها ندماً، ثم أقبل عليه‏السلام علي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا بلي ياأميرالمؤمنين فقال عليه‏السلام:

وأما السابعة ياأخا اليهود: فإن رسول‏اللَّه صلي الله عليه و آله کان عهد إليّ أن اُقاتل في آخر الزمان من أيامي قوماً من أصحابي يصومون النهار ويقومون الليل ويتلون الکتاب، يمرقون بخلافهم عليّ وعاريتهم إياي من الدين مروق السهم من الرمية، فيهم ذو الثدية، يختم لي بقتلهم بالسعادة، فلما انصرفت إلي موضعي هذا- يعني بعده الحکمين- أقبل بعض القوم علي بعض باللائمة فيما صاروا اليه من تحکيم الحکمين، فلم يجدوا لأنفسهم من ذلک مخرجاً إلّا أن قالوا کان ينبغي لأميرنا أن لا يبايع من أخطأ وأن يمضي بحقيقة رأيه علي قتل نفسه وقتل من خالفه منا، فقد کفر بمتابعته إيانا وطاعته لنا في الخطأ وأحل لنا بذلک قتله وسفک دمه، فتجمعوا علي ذلک وخرجوا راکبين رؤسهم ينادون بأعلي أصواتهم لا حکم إلّا للَّه، ثم تفرقوا فرقة بالنخيلة واُخري بحرورا واُخري راکبها رأسها، تخبط الأرض شرقاً حتي عبرت دجلة، فلم تمر بمسلم إلّا امتحنته فمن تابعها استحيته ومن خالفها قتله، فخرجت إلي الأوليين واحدة بعد اُخري أدعوهم إلي طاعة اللَّه عزّوجلّ والرجوع اليه فأبيا إلّا السيف لا يقنعهما غير ذلک، فلما أعيت الحيلة فيهما حاکمتهما إلي اللَّه عزّوجلّ فقتل اللَّه هذه وهذه، وکانوا ياأخا اليهود لولا ما فعلوا لکانوا رکناً قوياً وسدّاً منيعاً فأبي اللَّه إلّا ما صاروا اليه، ثم کتبت إلي الفرقة الثالثة ووجهت رسلي تتري وکانوا من أجلّة أصحابي وأهل التعبد منهم والزهد في الدنيا، فأبت إلّا اتباع اختيها والاحتذاء علي مثالهما، وأسرعت في قتل من خالفها من المسلمين، وتتابعت إلي

[صفحه 390]

الأخيار بعضهم، فخرجت حتي قطعت اليهم دجلة، أوجه السفراء والنصحاء وأطلب العتبي لجهدي بهذا مرة وبهذا مرة- وأومي بيده إلي الأشتر والأحنف بن قيس وسعيد بن قيس الأرحبي والأشعث بن قيس الکندي- فلما أبوا إلّا تلک رکبتها منهم فقتلهم اللَّه ياأخا اليهود عن آخرهم، وهم أربعة آلاف أو يزيدون حتي لم يفلت منهم مخبر، فاستخرجت ذا الثدية من قتلاهم بحضرة من تري، له ثدي کثدي المرأة، ثم التفت عليه‏السلام إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟ قالوا: بلي ياأميرالمؤمنين، فقال عليه‏السلام: قد وفيت سبعاً وسبعاً ياأخا اليهود، وبقيت الاُخري وأوشک بها فکان قد.

فبکي أصحاب علي وبکي رأس اليهود وقالوا: ياأميرالمؤمنين أخبرنا بالأخري؟ فقال: الاُخري أن تخضب هذه- وأومأ بيده إلي لحيته- من هذه- وأومأ بيده إلي هامته- قال: وارتفعت أصوات الناس في المسجد الجامع بالضجة والبکاء حتي لم يبق بالکوفة دار إلّا خرج أهلها فزعاً، وأسلم رأس اليهود علي يدي علي عليه‏السلام من ساعته ولم يزل مقيماً حتي قتل أميرالمؤمنين عليه‏السلام، وأخذ ابن‏ملجم (لعنه اللَّه) فأقبل رأس اليهود حتي وقف علي الحسن عليه‏السلام والناس حوله وابن‏ملجم (لعنه اللَّه) بين يديه فقال له: ياأبامحمد أقتله قتله اللَّه، فاني رأيت في الکتب التي اُنزلت علي موسي عليه‏السلام أنّ هذا أعظم عند اللَّه عزّوجلّ جرماً من ابن‏آدم قاتل أخيه، ومن قدار عاقر ناقة صالح.[2].


صفحه 374، 375، 376، 377، 378، 379، 380، 381، 382، 383، 384، 385، 386، 387، 388، 389، 390.








  1. الأحزاب: 23.
  2. الخصال باب السبعة: 364، البحار 167:38، الاختصاص: 164، تفسير البرهان 301:3.