طلائع الكتاب















طلائع الکتاب



اللّهمّ إنّا نحمدک وأنت الغنيّ الحميد، ونمجّدک وأنت ذو العرش المجيد، نستمدّ منک الحسني بالحمد الذي ألهمتَه، ونستزيدُ علي ما أنعمت به علينا من الهداية لدينک والتوفيق لسبيلک، ونصلّي علي أشرف أنبيائک ورسلک محمّد صلي الله عليه و آله الذي أرسلته رحمةً للعالمين، وأنزلت علي قلبه الرّوح الأمين.

وعلي أخيه ووصيّه الذي جعلته رِدءاً له وظهيراً، وأبنائه أقلام الحقّ وألسنة الصدق، الذين أذهبت عنهم الرجس وطهّرتهم تطهيراً، صلاةً تنجز لهم بها من المقام المحمود موعده، وتعذِب بها من الشرف مورده.

وبعد: فليس للمرء إلّا ما أفاض، وليس للمدرک إلّا ما سجّل، وليس للعالم إلّا ما علّم.

هذا کتاب سجّلتُ فيه ما وقفتُ عليه من أحاديث الإمام أميرالمؤمنين عليّ ابن أبي‏طالب- عليه من الصلوات أفضلها، ومن التحيّات أزکاها وأطيبها- وفقهه وفتاويه، وأقضيته، وسائر ما سُجّل عنه من ألوان العطاء المشعّ، والحکمة الهادية في

[صفحه 6]

مختلف مجالات الحياة، ففيها الأحکام وفيها الإحتجاجات، والقضاء والنصائح، والحکم وشتّي المفاهيم التي تنير للإنسان المسلم طريقه في الحياة.

ولم تکن محاولتي هذه لجمع تراث هذا الإمام العظيم في البداية إلّا تعبيراً عن اتّجاهي العاطفي والرّوحي والعقيدي العميق، إلي أن أعيش بفکري وقلبي ووجداني مع هذا الإمام، وأتفاعل مع کلّ کلمة منه، وأستضي‏ء بکلّ قبس شعّ به، فقد نشأت مشدوداً إلي عليّ بکياني کلّه، متطلّعاً فيه إلي کلّ ما يصبو إليه الإنسان من مُثُل وقِيَم وقوي جَذبٍ وشَدّ.

يشدّني إليه قبل کلّ شي‏ء أمر اللَّه سبحانه وتعالي بموالاته وحبّه واتّباعه، ونصب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله له بأمر ربّه عَلَماً لهذه الاُمّة، ومناراً لهذا الدين.

ويشدّني إليه بعد ذلک أنّي وجدته بحراً من العلم لا جزر له، ومعيناً من الحکمة لا ينضب، لم يتردّد في الحقّ لحظة، ولم تختف عن عينه النافذة الحقيقة، في أيّ مشکلة من مشاکل الدين والدنيا، فقد کان المسلمون دائماً يجدون عنده الکلمة الفاصلة والموقف الواضح، عندما تعُييهم المشکلة ويفتقدون القدرة علي الحلّ.

ويشدّني إليه إضافة إلي هذا وذاک، أنّي رأيت هذا الإنسان الأمثل فريداً في مظلوميّته، کما هو فريد في إيمانه وعلمه ومنزلته عند ربّه ونبيّه، وأيّ مظلوميّة يمکن أن تصل إلي مستوي ظلامة هذا الإمام العظيم الذي قام الإسلام علي ساعديه، وکان يحمل في کلّ معرکة من معارک هذا الدين الحنيف دمه علي کفه، باذلاً نفسه مضحياً بحياته في سبيل بناء هذا الدين وإقامة دعائمه علي هذه الأرض، لم يتردّد لحظة في العطاء، ولم يلتفت مرّة إلي الوراء؛ بل کان أبداً ودائماً ذلک الحارس الأمين الذي بدأ ليلة المبيت علي فراش النبيّ قصد الفداء، وظلّ فدائياً لا يعرف لحياته ثمناً أو قيمةً بين يدي الرسالة والقائد حتّي مکّن اللَّه تعالي لدينه في هذه الأرض فانتشر الإسلام ودخل الناس في دين اللَّه أفواجاً، وقامت لهذا الدين الذي بنيت قواعده

[صفحه 7]

علي الأرض بدم عليّ وعَرَق عليٍّ، وتضحيات عليٍّ، دولة تناطح السحاب.

أجل إن کان للتضحية الإنسانية- الفاضلة- کتاب، فأعمال علي صلوات اللَّه عليه عنوان لذلک الکتاب المشعّ بأضواء الخلود، وإن کان لمبادئ السماء التي جاء بها محمّد صلي الله عليه و آله تعبير عملي علي وجه الأرض، فعليّ هو تعبيرها الحيّ علي مدي الدهر والأجيال، وإن کان النبي صلي الله عليه و آله قد خلّف في اُمّته علياً والقرآن، فإنّما جمع بينهما ليکون القرآن تفسيراً لفظياً لمعاني عليّ العظيم، ولتکون معاني عليّ اُنموذجاً لمثل القرآن الکريم، وإن کان اللَّه تعالي قد جعل عليّاً نفس رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في آية المباهلة، فلأجل أن يفهم المسلمون أنّه امتداد طبيعي لمحمّد صلي الله عليه و آله وشعاع متألّق من روحه العظيمة.

وإن کان النبي صلي الله عليه و آله قد خرج من مکة مهاجراً خائفاً علي نفسه، وخلّف عليّاً علي فراشه ليموت بدلاً عنه، فمعني ذلک أنّ المبدأ المقدّس هو الذي کان يرسم للعظيمين خيوط حياتهما، وإن کان لابدّ للقضية الإلهيّة من شخص تَظهر به، وآخر يموت في سبيلها، فيلزم أن يبقي رجلها الأول لتحيي به، ويقدم رجلها الثاني نفسه قرباناً لتحيي به أيضاً.

وإن کان عليّ هو الذي أباحت له السّماء خاصّة النوم في المسجد والدخول فيه جنباً، فمفهوم هذا الإختصاص أنّ في معانيه معني المسجد؛ لأنّ المسجد رمز السّماء الصامت في دنيا المادّة، وعليّ هو الرمز الإلهيّ الحيّ في دنيا الروح والعقيدة.

وإن کانت السماء قد امتدحت فتوّة عليّ وأعلنت عن رضاها عليه إذ قال المنادي: «لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتي إلّا عليّ» فإنّها عنت بذلک أنّ فتوّة عليّ وحدها هي القوّة المعدّة لترکيز العقيدة القرآنية علي وجه الأرض، وأنّها وحدها هي الرجولة الکاملة التي لا يرتفع إلي مداها إنسان، ولا ترقي إلي اُفقها بطولة الأبطال وإخلاص المخلصين.

[صفحه 8]

وبالتالي وإذا بهذا الفدائيّ الأوّل في تاريخ الإسلام يُقصي عن مرکزه الطبيعي في قيادة هذه الاُمّة التي تتسَلسل في أيدي غيره، حتّي تصل بعد ربع قرنٍ أو يزيد، إلي الطلقاء وأولاد الطلقاء، الذين سخّروا منابر الإسلام ومنائره ألف شهر لسبّ عليّ والانتقاص منه، فکانت هذه المنابر والمنائر التي أقامها جهاد عليّ وأشادتها تضحياته وإخلاصه أشدّ من ظلم عليّاً وأنکر فضله واستباح حرمته.

وبالرغم من کلّ ما لاقاه هذا الإمام العظيم من غَبنٍ وحَيفٍ وظلم، فإنّه کان مستقرّ النفس مطمئن الضمير ثابت اليقين؛ لأنّه لم يعمل لأجل أمجاد الأرض وثناء هذه الأرض، وإنّما عمل لأجل أمجاد السماء ورضوانٍ من اللَّه أکبر، ولهذا خرّ صريعاً في بيت ربّه وهو يقول: «فُزت وربّ الکعبة» ولو کان يعمل لأمجاد الأرض لکان أتعس إنسان عليها.

ولئن تعدّدت مظاهر المظلومية لهذا الإمام الممتحن، فلقد امتدّت بعض هذه المظاهر إلي مجالات البحث العلمي أيضاً، فلم يجد التراث العظيم الذي خلّفه هذا الإمام ما يستحقّ من ضبطٍ واستيعابٍ وتنويهٍ من قبل الباحثين.

بينما سُلِّطَت الأضواء علي ما أثر عن آخرين ممّن ليس لهم مثل عطاء الإمام وغزارة حکمته، حتّي بأن ختم جملة من أرباب الحديث أن ليس للإمام عليّ صلوات اللَّه عليه إلّا خمسمائة حديث فقط واُلّفت مسانيد جمّة: کمسند أحمد بن حنبل، ومسند أبي‏داود، ومسند أبي‏عاصم الشيباني، ومسند محمّد بن يحيي المدني، ومسند يعقوب الدوسي، ومسند أبي‏هريرة، ومسند القرطبي، ومسند أبي‏حنيفة، ومسند الحافظ بن أبي‏شيبة، إلي کثير وکثير من تلکم المسانيد، وقد استعرض أربابها نزراً يسيراً من أحاديث الإمام عليّ صلوات اللَّه عليه لم يتجاوز تقديرهم لها عن بضع مئات، وأغفلوا الجزء الأکبر من تراثه الشريف، ولم يؤدّوا بذلک الأمانة العلمية، مع العلم بأنّ أحاديثه صلوات اللَّه عليه قد بلغت عدداً أکبر لايبلغه

[صفحه 9]

الإحصاء إلّا بمزيد من المشقّة والعناء، کما يعرف ذلک کلّ من أوغل في التتبّع والإستقراء، قال الشيخ محمود أبورِيّة (خرّيج الأزهر) في کتابه «أضواء علي السنّة المحمّدية» ص204 ط سنة 1958:

«هذا هو عليّ رضي الله عنه الذي لو کان قد حفظ کلّ يوم عن النبيّ- وهو الفطن اللبيب الذکي ربيب النبيّ- حديثاً واحداً، وقد قضي معه رشيداً أکثر من ثلث قرنٍ- لبلغ ما کان يجب أن يرويه حوالي 12 ألف حديث علي الأقلّ، هذا إذا روي حديثاً واحداً في کلّ يوم، فما بالک لو کان قد روي کلّ ما سمعه، ولقد کان له حقّ في روايتها، ولا يستطيع أحد أن يماري فيها، ولکن لم يصح عنه کما جاء بکتاب الفصل إلّا نحو خمسين حديثاً».

وقال الشيخ محمّد أبوزهرة (وهو من کبار شيوخ الأزهر المعروفين) قال في کتابه «الإمام الصادق» ص162 ط أحمد علي فچير:

«يجب علينا أن نقرّ هنا أن فقه عليّ وفتاويه وأقضيته لم ترو في کتب السنة... وکان أکثر الصحابة اتّصالاً برسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقد رافق الرسول وهو صبيّ قبل أن يبعث، واستمرّ معه إلي أن قبض اللَّه تعالي رسوله إليه، ولذا کان يجب أن يذکر له في کتب السنّة أضعاف ما هو مذکور فيها.

وإذا کان لنا أن نتعرّف علي السبب الذي من أجله اختفي عن جمهور المسلمين بعض مرويّات عليّ وفقهه فإنّا نقول: إنّه لابدّ أن يکون للحکم الأموي أثر في اختفاء کثير من آثار عليّ في القضاء والإفتاء؛ لأنّه ليس من المعقول أن يلعنوا عليّاً فوق المنابر وأن يترکوا العلماء يتحدّثون بعلمه وينقلون فتاويه وأقواله للناس، وخصوصاً ما کان يتّصل منها بأساس الحکم الإسلامي...».

[صفحه 10]

قال العلامة محمّد جواد مغنية في کتابه «الحسين وبطلة کربلاء» ص112 ط سنة 1973:

«عليّ بن أبي‏طالب الذي لازم النبيّ صلي الله عليه و آله منذ طفولته إلي آخر يوم من أيّام الرسول صلي الله عليه و آله لا يروي عنه إلّا خمسون حديثاً!!...

عليّ الذي تربّي في حجر الرسول، وکان منه بالمنزلة الخصيصة، يتّبعه اتّباع الفصيل إثر اُمّه ويرفع له کلّ يوم نميراً من علمه وأخلاقه، لا يروي عن النبي إلّا خمسين حديثاً!! وأبو هريرة الذي لم يصحب النبي إلّا نحو ثلاث سنوات لا يراه فيها إلّا قليلاً والحين بعد الحين، يروي عنه 5374 حديثاً!... ولو أخذنا بهذا القياس وجب أن يروي الإمام 18216 حديثاً؛ لأنّه لازم النبي صلي الله عليه و آله رشيداً أکثر من ثلث قرن.

ومن هنا نعلم أنّ السرّ الوحيد لقلّة الرواية عن الإمام عليّ صلوات اللَّه عليه هو ما أشار إليه الشيخ أبوزهرة، هو عداء الأمويين وموقفهم من الإمام وممّن يذکره بخير.

فقد عاقبوا من يروي منقبة من مناقبه، أو ينقل حديثاً عنه، وتتّبعوا تلاميذه وخاصّته في کلّ مکان، کميثم التمّار، وعمرو بن الحمق الخزاعي، ورشيد الهجري، وحجر بن عدي، وکميل بن زياد وغيرهم وغيرهم، وقتلوهم الواحد بعد الآخر، ونکّلوا بهم شرّ التنکيل کي لا يتسرّب عن طريقهم أثر من آثار عليّ.

أجل؛ لقد بذل الأمويون أقصي الجهود واستعملوا التقتيل والتنکيل، وسلکوا السبل ليقضوا القضاء الأخير علي کلّ أثر يتّصل بعليّ من قريب أو بعيد إلّا السبّ واللعن... وقتلوا خاصّته کي لا يرووا شيئاً عنه، ولکن يأبي اللَّه إلّا أن يُتمّ نوره». إنتهي.

[صفحه 11]

وبالتالي فقد رأيت أن أدفع بدوري وبقدر إمکاناتي المحدودة المتواضعة هذه الظلامة علي الإمام صلوات اللَّه عليه من بين ظلاماته الکثيرة، فقد بذلت کلّ طاقاتي وکلّ ما في وُسعي من التتّبع والإستقراء والتنقيب عن روايات الإمام عليّ وأحاديثه وأقواله وآرائه ونصائحه، معتمداً علي أوثق المصادر التي نقلها أئمة الحديث والأثر من أصحابنا الإماميّة وغيرهم من العلماء الأماثل من السنّة.

ملتقطاً جواهرها من معادنها، جامعاً لنصوصها الشريفة من مظانها، جاعلاً لکلّ حديث باباً وعنواناً يختصّ به: ولم أزل علي هذا ونحوه- أکثر من عشرين سنة- أضع خطط العمل ومناهجه حتّي استقامت السبل ووضح المنهج واستنار.

فکان هذا الکتاب هو حصيلة ذلک الجهد، وقد سمّيته (والأسماء تنزل من السّماء) ب «مسند الإمام علي عليه‏السلام» واستهدفت فيه الجمع، تارکاً تمييز الصحيح والحسن والضعيف من الروايات والأحاديث إلي الباحثين.

ولا أدّعي الإحاطة التامّة بکلّ ما صدر عن الإمام صلوات اللَّه عليه فقد خفي عنّي الکثير وغاب ما هو أکثر، وإنّما هي محاولة أرجو أن تکون نواة لعمل أتمّ وبحث أوسع وأشمل في المستقبل، تضاعف فيه الجهود لإحراز نجاح أکبر في هذا السبيل.

ومن الجدير بالذکر أنّي لم أستعرض ما صدر عنه صلوات اللَّه عليه من خطب ورسائل وکلمات قصار؛ لأنّ السلف الصالح من علمائنا الأعلام رضوان اللَّه عليهم قد کفونا مؤونة ذلک، فأفردوا لها کتباً خاصة بها، کما وأنّي أعرضت عن طائفة من الأحاديث التي لا تتناسب ومکانة الإمام صلوات اللَّه عليه، وما أعطاه من مقاييس لقبول الحديث عنه وأحسبها من دسائس المناوئين له في عصره أو غير عصره للحطّ من کرامته، وهي بمنظر لکلّ بصير، وکما لا تخفي علي الفطن الذي ينظر إليها بعين مجرّدة وقديماً قيل:

[صفحه 12]

الذنب في العين لا في الشمس مشرقة
إن أنکرت مقلة الخفاش لئلاها


هذا جهدي ومهما کان فيه من نقص أو خطأ فإنّ عبير الإمام وعطر نفحاته المنتشرة في هذا الکتاب يغلب ذلک، وما توفيقي إلّا باللَّه عليه توکّلت وإليه اُنيب.

کما وأنّي أعلم أيضاً: أنّ باب الانتقاد مفتوح، ورايات الاعتراض تلوح، فسبحان من تفرّد بالکمال، وتنزّه عن شوائب النقص.

ونسأله تعالي أن يکفّ عنه ألسنة الحاسدين، وأقلام المغترين، إنّه علي ذلک قدير.

المؤلف

[صفحه 15]


صفحه 6، 7، 8، 9، 10، 11، 12، 15.