تصدير بقلم العلامة السيد محمّد صادق بحر العلوم















تصدير بقلم العلامة السيد محمّد صادق بحر العلوم



بسم اللَّه الرحمن الرحيم

ما کلّ من صنّف أحسن وأجاد، ولا کلّ من ألّف أصاب المراد، وما أبدع من قال: «إنّه ليس التّصنيف ضمّ کلمةٍ إلي کلمة، وجملةٍ إلي جملة، وسرد حلقات السّطور، وتنسيق نظام الألفاظ بطلاقةٍ ولباقةٍ، ولا کدّاً بالقلم، ونقشاً باليراع، وتحويل بياض إلي سواد، وإخراج سواد إلي بياض ولا الإسترسال بالقول، والإشباع في الکلام بتحويرٍ وتحبير، وتلفيقٍ وتزويق، ولا وضع المجلّد علي المجلّد، وتنضيد کتابٍ إلي کتاب، حتّي تتراءي صحفاً منشورة، وکتباً مسطورة، فانّ القلم قد يجري بما تنبو عنه الأبصار وتمجه المسامع.

کلّا؛ إنّ التصنيف معنًي دقيق المسلک، غامض المرمي لا يحوم حوله إلّا الأوحديّ من النّاس ومن تدارکه اللَّه بتوفيقه، فإنّ الأقلام مطايا الفطن وسفراء العقل ورسله، وترجمانه الأفضل، فان عقول الرجال تحت أسنان أقلامها.

التصنيف آثاره خالدة، وفوائده باقية، ينتفع به الحاضر والغائب، وتستفيد منه طبقات البشر، علي کرّ الغداة ومرّ العشيّ، فيبقي لصاحبه الأثر الزّاهي علي صفحة الدّهر وجبين الزّمان لا يبليه الجديدان، ولا تمحوه طوارق الحِدثان، ولذلک قد تمدّح اللَّه سبحانه وتعالي في کتابه المجيد مِنَّةً علي العباد بوصفه لنفسه «الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» وقد استفاض عن أئمة الهدي عليهم‏السلام أمر أصحابهم بکتابة ما يسمعونه من الأخبار قائلين: «سيجي‏ء علي الناس زمان لا يأنسون إلّا بکتبهم» ويُروي عن الصّادق عليه‏السلام قوله: «أکتبوا فانکم لا تحفظون حتّي تکتبوا»

[صفحه 87 مقدمه]

وقال عليه‏السلام أيضاً: «القلب يتّکل علي الکتابة» وقال عليه‏السلام أيضاً: «إحفظوا کتبکم فانکم ستحتاجون إليها» وقال عليه‏السلام للمفضل بن عمر: «أکتب وبثّ علمک في إخوانک فان صتّ فأورث کتبک بنيک، فانه يأتي علي النّاس زمان هرج لا يأنسون إلّا بکتبهم» والمراد بالکتب في الحديثين الأخيرين الأحاديث المروية عنهم عليهم‏السلام وقوله عليه‏السلام: «ستحتاجون إليها» أي لفقد من تسألونه من الأئمة عليهم‏السلام من جهة شدّة التقيّة أو حصول الغيبة، فينحصر أخذکم للأحکام بالکتب، وکذا قوله عليه‏السلام: «يأتي علي الناس زمان هرج، الخ» أي زمان فتنةٍ وقتلٍ وخوفٍ فلا يکون لهم مفزع في أخذ الأحکام إلّا کتبهم.

وجاء في کتاب (تقييد العلم) للخطيب البغدادي (ص 89) بسنده عن علي عليه‏السلام أنه قال: «قيّدوا العلم قيّدوا العلم» مرّتين، وفي روايةٍ أخري: «قال عليّ عليه‏السلام: قيّدوا العلم بالکتاب» وفي رواية أخري: «جمع الحسن بن علي عليه‏السلام بنيه وبني أخيه فقال: يا بنيّ إنکم اليوم صغار قومٍ أوشک أن تکونوا کبار قومٍ فعليکم بالعلم، فمن لم يحفظ منکم فليکتبه».

«فالتصانيف إذن هي الخزائن العامرة، والمدارس السيّارة، تلقي دروسها علي الحاضر والغابر، وتنفح في الأمة روح العلم والمعرفة، ولکن ليس کلّ من حرّک بالقلم أصابعه ينال الفوز والنجاح في حلبة التّصنيف، فربّ مؤلّفٍ يکون أثره الباقي عاراً عليه إلي الأبد، وسبّةً في وجه الدهر، يعوق منه جبين العلم، وتندي به جبهة الحقائق، وکم من کتابةٍ يقصد بها صاحبها الخير فتعود علي حياة الاُمّة شرّاً ووبالاً، ويکون إثمها أکبر من نفعها، فان عثرة القلم أدهي وأمرّ، وأشدّ وأفظع من عثرة اللّسان، وکم من مادٍّ بيمينه، وناقشٍ بيراعه لا يأتي إلّا بما سبقه إليه الأوّلون، فلا يکون غير صديً يتبع الصّوت في الآذان، فلا يلبث هنيئة إلّا وقد انمحي ذکره، وذهب عن الأسماع أثره، ولذا أصبح حماة العلم والنّاظرون إلي الحقيقة من کَثَب

[صفحه 88 مقدمه]

يدقّقون أمر التّصنيف، ويتحاشون عن الاسترسال فيه مهما بلغ بهم البحث والتّنقيب، ويرون طريقه أدقّ من الشّعر، وأحدّ من السّيف، فلا يسلکونه إلّا بعد أن أحسّوا من أنفسهم القيام بواجبه، هذا وهم اُمراء الکلام، ينحدر عنهم السّيل، ولا يرقي إليهم الطّير، ولکن التثبّت ودقّة النّظر تضرب دون مرادهم بالأسداد، ولقد سمعنا ممن بلغ به التّحقيق إلي الغاية في العلماء السّابقين أنّه کان يکتب أجزاءً وکراريس أودعها ما سمحت به الفکرة من الحقايق ثمّ يمزّقها تمزيقاً لتعاور الأفکار، وتوارد أنظاره العميقة، وربما يبلغ بأحدٍ علوّ همّته الي حيث لا يرضي الورود بمشرعٍ مورَدٍ، فلا يزال مترصّداً لموضوع لا يسبقه إليه سابق حتّي تکون درّةً لم تثقب، وعذراء «لم يطمثها إنسٌ قبله ولا جانّ» مع أنّه لو کتب في نفس الموضوع لأتي بما لم تنله عين ولا اُذن، لکنّ تثبّته في مواضع العثار وإباءه عن تحرّي المنهج المسلوک يمنعانه عن الإکثار في القول والاستطالة في التّصنيف».

هذا هو التّصنيف الذي لولاه لاندرست آثار الدين الإسلامي والذي هو غرّةٌ في جبين الدّهر ناصعة، تتلي آيات المدح والثناء لمضقه ما کرّ الجديدان واختلف الملوان، وکان له جنّةً واقية يوم توزن الأعمال وتنصب الموازين، «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ».


صفحه 87، 88.