اهتماماته العلمية والدينيّة















اهتماماته العلمية والدينيّة



کان البُعد العلمي هو من أبرز معالم شخصيّة السيد القبانچي فرغم اهتماماته في المجالات الاُخري إلّا أنّ العلّامة المترجَم له کان قد کرّس الشطر الأعظم من حياته للکتابة والتأليف.

حيث نجده مغموراً بالاهتمامات العلمية إلي الدرجة التي لم تفارقه حتّي وهو في سجونه المتکرّرة، ويتجسّد هذا الأمر بوضوح في کيفية شروع المؤلف بتأليف کتابه هذا «مسند الإمام علي عليه‏السلام» فقد انبثقت فکرة تأليفه والعزم علي الشروع به أيام تبعيده من قبل حکومة عبدالرحمن عارف الطائفية إلي مدينة راوة في شمال العراق کما يذکر ذلک في خاتمة کتابه حيث يقول:

«وکان الشروع في تأليف هذا الکتاب سنة ألف وثلاثمائة والسابعة والثمانين هجرية والحمد للَّه أولاً وآخراً، وکانت فکرة تأليف هذا المسند تخامرني وأنا في المنفي في ناحية راوة وهي قرية تابعة لقضاء عانة تقع علي شط الفرات ومنها إلي سوريا حيث بعّدنا عبدالرحمن

[صفحه 36 مقدمه]

عارف رئيس الجمهورية يومذاک، فقضينا شهراً واحداً في التبعيد، وعند رجوعنا إلي النجف الأشرف سنة ألف وثلاثمائة وسبعة وثمانين هجريّة شرعنا في تأليف هذا المُسند وللَّه الحمد والشکر وله المن».

وبنفس الاندفاع العلمي، والشَغَف في الکتابة والتأليف، ورغم قساوة ظروف السجن[1] کان يواصل تدوين کتابه «جولة في ربوع الأدب» بعدما سُمح له في الأشهر الأخيرة بمواجهة بعض أولاده ومتعلّقيه.

وبهذا العشق والوله العلمي کان السيد القبانچي قد اندفع لتکوين خامس أو سادس أکبر مکتبة علميّة شخصيّة في مدينة العلم (النجف الأشرف) حيث کانت نفقاته في شراء الکتب تستغرق قسماً کبيراً من نفقاته الشخصيّة تبعاً للضرورة التي تفرضها عليه اهتماماته العلمية ذات الطبيعة الموسوعيّة، ولعلّ الأهم فيما يجب الاشارة إليه من حياته العلميّة هو طبيعة الموضوعات التي تناولها في مؤلفاته، حيث اتّسمت بمعالجة الفراغات الفکريّة التي يواجهها الجمهور المعاصر يومئذٍ، وبضغط الهجمة الفکرية الشرسة علي العالم الإسلامي، حيث نجده يقول في مقدمة کتابه «الجواهر الروحيّة» في المجلّد الثاني منه:

«وإنّي لأعتبره مجرد رسالة بسيطة للجامعة الإنسانية ومحبّيها، حملها أخ لهم سبقت إلي فؤاده لُمَع من أضواء المعرفة وأراد أن تنعکس علي

[صفحه 37 مقدمه]

أفکارهم واضحة جليّة جلاء الشمس تهدي إلي الرشد وتدعو إلي سواء السبيل، أو خطاباً متواضعاً موجّهاً إلي مثقفي أبناء الجيل، ليس له في نفسه قيمة سوي ما يهدف إليه من نزعة اخلاص وحب في فرد من أفرادها.

وفيما عدا ذلک فانّ نظرة شاملة إلي مؤلفاته تکشف لنا عن اتجاهه العام في الدفاع عن أهل البيت عليهم‏السلام، والدعوة للإستفادة من عطائهم العلمي والتربوي حيث واجهوا- في المجال العلمي کما هو في المجال السياسي- ظلماً واضحاً علي مرّ التاريخ.

وإذا قرأت ما کتبه المؤلف في مقدّمته لکتابه «مُسند الإمام علي عليه‏السلام» تجده قد توهّج قلبه بنور محبّتهم، وأنوار علمهم، وتجد أن جواره لمرقد الإمام أميرالمؤمنين عليه‏السلام في النجف الأشرف قد مسکه بحبل وثيق حتّي تجده في کلّ مؤلفاته يعود بمناسبة واُخري للانتهال من عطاء شخصيّة هذا الإمام العظيم وأحاديثه ومواقفه.[2].

فنجده يقول:

«ولم تکن محاولتي هذه لجمع تراث هذا الإمام العظيم في البداية إلّا تعبيراً عن اتجاهي العاطفي والروحي والعقيدي العميق إلي أن أعيش بفکري وقلبي ووجداني مع هذا الإمام، وأتفاعل مع کل کلمة منه، واستضي‏ء بکل قَبَس شعَّ به، فقد نشأتُ مشدوداً إلي علي عليه‏السلام بکياني کله، متطلعاً فيه إلي کل ما يصبوا إليه الإنسان من مُثُل وقِيَم وقوي جذب وشد.

[صفحه 38 مقدمه]

يشدّني إليه قبل کل شي‏ء أمرُ اللَّه سبحانه وتعالي بمولاته وحبّه واتباعه....

ويشدّني إليه بعد ذلک أني وجدته بحراً من العلم لا جزر له، ومعيناً من الحکمة لا ينضب....

ويشدّني إليه إضافةً إلي هذا وذاک أني رأيت هذا الإنسان الأمثل فريداً في مظلوميته کما هو فريدٌ في إيمانه وعلمه ومنزلته عند ربّه ونبيّه....

ولئن تعدَّدت مظاهر المظلوميّة لهذا الإمام الممتَحَن فلقد امتدت بعض هذه المظاهر إلي مجالات البحث العلمي أيضاً....

وبالتالي فقد رأيتُ أن أدفع بدوري وبقدر إمکاناتي المحدودة المتواضعة هذه الظلامة عن الإمام صلوات اللَّه عليه من بين ظلاماته الکثيرة...».

ونجده من ناحية اُخري قد انفرد فيما کتبه عن أهل البيت عليهم‏السلام؛ فهو لم يکتب عن ترجمة حياتهم بالطريقة التقليدية، وإنما ابتکر مفردات جديدة في التأليف کانت- وما تزال- تفتقر إليها المکتبة الإسلاميّة.

فقد کان کتابه «علي والاُسس التربويّة» شرحاً موسّعاً لوصية الإمام أمير المؤمنين عليه‏السلام لولده الحسن عليه‏السلام.

فيما کان کتابه «شرح رسالة الحقوق» الضخم إبداعاً في مجال شرح رسالة واحدة للإمام زين العابدين عليه‏السلام.

أمّا کتابه الموسوعي «مُسند الإمام علي عليه‏السلام» فهو ابتکار لم يسبقه إليه أحد في هذا المجال إلّا الشريف الرضي في کتابه «نهج البلاغة» وفي إتجاهٍ أدبي وبلاغي فقط.

[صفحه 39 مقدمه]


صفحه 36، 37، 38، 39.








  1. يروي الحاج الوجيه الشيخ کامل الکندي والذي کان رفيقاً للسيد القبانچي في السجن انه تمّ اعتقاله في الشهر الخامس من عام 84م وتمّ اطلاق سراحه في الشهر العاشر من عام 80م. ولم تکن غرفة السجن التي لا تتجاوز 24م تتسع للعدد المکتظ في داخلها والذي لا أکاد أحصيه حتّي کنّا إذا أردنا النوم يقوم بعضنا وينام الآخر، وإذا أراد بعضنا أن يتقلب في منامه يميناً وشمالاً فعليه أن ينهض قائماً ثمّ يدير نفسه لينام من جديد علي الجانب الآخر. واستمر مکثنا في هذه الغرفة ستة أشهر، نقلونا بعدها إلي غرفة اُخري بمساحة 5*4 متر ونحن 45 شخصاً، ولشدة الزحام فيها وطبيعة التعامل، وحرارة الجو فقد توفي ستة من السجناء فيها. ولم تکن لدينا خلال هذه الفترة أية مقابلة مع أحد من ذوينا، وبعدها هيئوا لنا غرفة أکثر اتّساعاً وسمح لنا بالمقابلة مع ذوينا.
  2. ولم يکفِهِ ما کتبه عن الإمام علي عليه‏السلام، بل کان يقول متمنياً: «أين أولادي ليکتبوا عن أميرالمؤمنين عليه‏السلام، فإنّه بحر مهما نکتب عنه فهو قليل». وکان يقول: «أني حاولت في کل أحاديثي ومجالسي أن أربط الناس بشخصية هذا الإمام، وأستفيد من بعض خطبه وکلماته».