في فرائض الإيمان















في فرائض الإيمان



1/457- محمّد بن إبراهيم النعماني، عن أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة، عن جعفر بن أحمد بن يوسف بن يعقوب الجعفي، عن إسماعيل بن مهران، عن الحسن بن علي، عن أبي‏حمزة، عن أبيه، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي‏عبداللَّه جعفر بن محمّد الصادق عليهماالسلام في خبر طويل، عن أميرالمؤمنين عليه‏السلام أنّه قال:

فالايمان باللَّه تعالي هو أعلي الايمان درجة، وأشرفها منزلة، وأسناها حظّاً، فقيل له: الايمان قول وعمل أم قول بلا عمل؟ فقال عليه‏السلام: الايمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان، وعمل بالأرکان، وهو عمل کلّه، ومنه التام الکامل تمامه، والناقص البيّن نقصانه، ومنه الزائد البيّن زيادته، إنّ اللَّه تعالي ما فرض الايمان علي جارحة واحدة، وما من جارحة من جوارح الانسان إلّا وقد وکلّت بغير ما وکّلت به الاُخري، فمنها قلبه الذي يعقل به ويفقه ويفهم ويحلّ ويعقد ويريد، وهو أمير البدن وإمام الجسد الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلّا عن أمره ورأيه ونهيه.

[صفحه 185]

ومنها اللسان الذي ينطق به، ومنها أذناه اللتان يسمع بهما، ومنها عيناه اللتان يبصر بهما، ومنها يداه اللتان يبطش بهما، ومنها رجلاه اللتان يسعي بهما، ومنها فرجه الذي ألباه من قِبَلِه، ومنها رأسه الذي فيه وجهه، وليس جارحة من جوارحه إلّا وهي مخصوصة بفريضة:

ففرض علي القلب غير ما فرض علي اللسان، وفرض علي اللسان غير ما فرض علي السمع، وفرض علي السمع غير ما فرض علي البصر، وفرض علي البصر غير ما فرض علي اليدين، وفرض علي اليدين غير ما فرض علي الرجلين، وفرض علي الرجلين غير ما فرض علي الفرج، وفرض علي الفرج غير ما فرض علي الوجه، وفرض علي الوجه غير ما فرض علي اللسان.

فأمّا ما فرضه علي القلب من الايمان: الإقرار والمعرفة، والعقد عليه والرضا بما فرض عليه، والتسليم لأمره، والذکر والتفکّر، والانقيادإلي کلّ ما جاء عن اللَّه عزّوجلّ في کتابه، مع حصول المعجز فيجب عليه اعتقاده، وأن يظهر مثل ماأبطن إلّا للضرورة، کقوله تعالي: «إِلَّا مَنْ اُکْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْاِيمَانِ»[1] وقوله تعالي: «لَا يُؤَاخِذُکُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِکُمْ وَلکِنْ يُؤَاخِذُکُمْ بِمَا کَسَبَتْ قُلُوبُکُمْ»[2] وقوله سبحانه: «وَيَتَفَکَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً»[3] وقوله تعالي: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَي قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»[4] وقال عزّ وجلّ: «فَإِنَّهَا لَا تَعْمَي الْأَبْصَارُ وَلَکِنْ تَعْمَي الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»[5] ومثل هذا کثير في کتاب اللَّه وهو رأس الايمان.

[صفحه 186]

وأمّا ما فرضه علي اللسان فقوله عزّ وجلّ في معني التفسير لما عقد به القلب، قوله تعالي: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ»[6] الآية، وقوله سبحانه: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسناً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّکَاةَ»[7] وقوله سبحانه: «وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَکُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إلهٌ وَاحِدٌ»[8] فأمر سبحانه بقول الحقّ ونهي عن قول الباطل.

وأمّا ما فرضه علي الاُذنين: فالاستماع إلي ذکر اللَّه والإنصات لما يتلي من کتابه، و ترک الإصغاء لما يسخطه، فقال سبحانه: «وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّکُمْ تُرحَمُونَ»[9] وقال تعالي: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْکُمْ فِي الْکِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُکْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَءُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّي يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ»[10] الآية، ثم استثني برحمته موضع النسيان فقال: «وَإِمَّا يُنْسِيَنَّکَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّکْرَي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»[11] وقال عزّ وجلّ: «فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِکَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِکَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ»[12] وقال تعالي: «وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعَرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَکُمْ أَعْمَالُکُمْ سَلَامٌ عَلَيْکُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ»[13] وفي کتاب اللَّه ما معناه معني ما فرضه اللَّه علي السمع وهو الايمان.

وأمّا ما فرضه علي العينين: فهو النظر إلي آيات اللَّه، وغضّ النظر عن ما حرّم عزّ وجلّ، قال اللَّه تعالي: «أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَي الْإِبِلِ کَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَي السَّمَاءِ کَيْفَ رُفِعَتْ

[صفحه 187]

وَإِلَي الْجِبَالِ کَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَي الْأَرْضِ کَيْفَ سُطِحَتْ»[14] وقال اللَّه تعالي: «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَکُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ»[15] وقال سبحانه: «انْظُرُوا إِلَي ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ»[16] وقال: «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا»[17] وهذه الآية جامعة لأبصار العيون وأبصار الظنون، قال اللَّه تعالي: «فَاِنَّهَا لَا تَعْمَي الْأَبْصَارُ وَلَکِنْ تَعْمَي الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»[18] ومنه قوله تعالي: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِکَ أَزْکَي لَهُمْ»[19] معناه لاينظر أحدکم إلي فرج أخيه المؤمن أو يمکّنه من النظر إلي فرجه، ثمّ قال سبحانه: «وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ»[20] أي ممّن يلحقهنّ النظر کما جاء في حفظ الفروج، فالنظر سبب إيقاع الفعل من الزنا وغيره، ثمّ نظم تعالي ما فرض علي السمع والبصر والفرج في آية واحدة، فقال: «وَمَا کُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْکُمْ سَمْعُکُمْ وَلَا أَبْصَارُکُمْ وَلَا جُلُودُکُمْ وَلَکِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ کَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ»-[21] يعني بالجلود هنا الفروج- وقال تعالي: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولَئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً»[22] هذا ما فرض اللَّه تعالي علي العينين من تأمّل الآيات والغضّ عن تأمّل المنکرات وهو من الايمان.

وأمّا ما فرضه اللَّه سبحانه علي اليدين: فالطهور، وهو قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَيْدِيَکُمْ إِلَي الْمَرَافِقِ، وَامْسَحُوا

[صفحه 189]

بِرُؤسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ إِلَي الْکَعْبَيْنِ»[23] وفرض علي اليدين الإنفاق في سبيل اللَّه تعالي فقال: «أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا کَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَکُمْ مِنَ الْأَرْضِ»،[24] وفرض اللَّه تعالي علي اليدين الجهاد لأنّه من عملهما وعلاجهما، فقال: «فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ کَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّي إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ»[25] وذلک کلّه من الايمان.

وأمّا ما فرضه اللَّه تعالي علي الرجلين: فالسعي بهما فيما يرضيه، واجتناب السعي فيما يسخطه، وذلک قوله سبحانه: «فَاسْعَوْا إِلَي ذِکْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ»[26] وقوله سبحانه: «وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحا»[27] وقوله: «وَاقْصُدْ فِي مَشْيِکَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِکَ»[28] وفرض عليهما القيام في الصلاة فقال: «وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ»[29] ثمّ أخبر أنّ الرجلين من الجوارح التي تشهد يوم القيامة حين تستنطق بقوله سبحانه: «اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَي أَفْوَاهِهِمْ وَتُکَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا کَانُوا يَکْسِبُونَ»[30] وهذا مما فرضه اللَّه تعالي علي الرجلين، وهو من الايمان.

وأمّا ما افترضه اللَّه سبحانه علي الرأس: فهو أن يمسح من مقدّمه بالماء في وقت الطهور للصلاة بقوله: «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِکُم» وهو من الايمان.

وفرض علي الوجه الغسل بالماء عند الطهور، وقال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ»[31] وفرض عليه السجود، وعلي اليدين والرکبتين والرجلين الرکوع، وهو من الايمان.

[صفحه 189]

وقال فيما فرض علي هذه الجوارح من الطهور والصلاة، وسمّاه في کتابه ايماناً حين فرض عليه استقبال القبلة في الصلاة، وسمّاه إيماناً حين تحويل القبلة من بيت المقدس إلي الکعبة، فقال المسلمون: يا رسول اللَّه ذهبت صلاتنا إلي بيت المقدس وطهورنا ضياعاً، فأنزل اللَّه سبحانه: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي کُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَي عَقِبَيْهِ، وَإِنْ کَانَتْ لَکَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَي الَّذِينَ هَدَي اللَّهُ، وَمَا کَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيِمَانَکُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ»[32] فسمّي الصلاة والطهور إيماناً، وقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: من لقي اللَّه کامل الايمان کان من أهل الجنة، ومن کان مضيّعاً لشي‏ء ممّا افترضه اللَّه تعالي علي هذه الجوارح، وتعدّي ما أمر اللَّه به وارتکب ما نهي عنه لقي اللَّه تعالي ناقص الايمان، وقال اللَّه عزّ وجلّ: «وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّکُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ»[33] وقال تعالي: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُکِرَ اللَّهَ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَي رَبِّهِمْ يَتَوَکَّلُونَ»[34] وقال سبحانه: «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًي»[35] وقال: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًي وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ»[36] وقال: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَکِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ»[37] الآية، ولو کان الايمان کلّه واحداً لا زيادة فيه ولا نقصان لم يکن لأحدٍ فضل علي أحد، ولتساوي الناس في تمام الايمان، وبکماله دخل المؤمنون الجنّة، ونالوا الدرجات فيها، وبذهابه ونقصانه دخل آخرون النار.

[صفحه 190]

وکذلک السبق إلي الايمان، قال اللَّه تعالي: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِکَ الْمُقَرَّبُونَ»[38] وقال سبحانه: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرينَ وَالْأَنْصَارِ»[39] وثلّث بالتابعين، وقال عزّ وجلّ: «تِلْکَ الرُسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَي بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ کَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ»[40] وقال: «وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَي بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً»[41] وقال: «اُنْظُرْ کَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَي بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَکْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَکْبَرُ تَفْضِيلاً»[42] وقال: «دَرَجَاتٌ عِنْدَاللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ»[43] وقال سبحانه: «وَيُؤْتِي کُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ»[44] وقال: «الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ»[45] وقال: «لَا يَسْتَوِي مِنْکُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولئِکَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَکُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْني»[46] وقال تعالي: «وَفَضَّلَ اللَّهُ الُْمجَاهِدِينَ عَلَي الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً»[47] وقال: «ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْکُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلَّا کُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ».[48].

[صفحه 191]

فهذه درجات الايمان ومنازلها عند اللَّه سبحانه، ولن يؤمن باللَّه إلّا من آمن برسوله وحججه في أرضه، قال‏اللَّه تعالي: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه»[49] وما کان اللَّه عزّ وجلّ ليجعل لجوارح الإنسان إماماً في جسده ينفي عنها الشکوک ويثبت لها اليقين- وهو القلب- ويهمل ذلک في الحجج وهو قوله تعالي: «فَللَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاکُمْ أَجْمَعِينَ»[50] وقال: «لَئِلَّا يَکُونَ لِلنَّاسِ عَلَي اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»[51] وقال تعالي: «أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ»[52] وقال سبحانه: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا»[53] الآية.

ثمّ فرض علي الاُمّة طاعة ولاة أمره القُوّام بدينه، کما فرض عليهم طاعة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقال: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْکُمْ»[54] ثُمّ بيّن محلّ ولاة أمره من أهل العلم بتأويل کتابه فقال عزّ وجلّ: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم»[55] وعجز کلّ أحد من الناس عن معرفة تأويل کتابه غيرهم؛ لأنّهم هم الراسخون في العلم المأمونون علي تأويل التنزيل، قال اللَّه تعالي: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»[56] إلي آخر الآية، وقال سبحانه: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ».[57].

وطلب العلم أفضل من العبادة، قال اللَّه تعالي: «إِنَّمَا يَخْشَي اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»[58] وبالعلم استحقّوا عند اللَّه اسم الصدق وسمّاهم به صادقين، وفرض

[صفحه 192]

طاعتهم علي جميع العباد بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُو اللَّهَ وَکُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»[59] فجعلهم أوليائه، وجعل ولايتهم ولايته وحزبهم حزبه، فقال: «وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ»[60] وقال: «إِنَّمَا وَلِيُّکُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّکَاةَ وَهُمْ رَاکِعُونَ».[61].

واعلموا رحکمکم اللَّه إنّما هلکت هذه الاُمّة وارتدّت علي أعقابها بعد نبيّها صلي الله عليه و آله برکوبها طريق من خلا من الاُمم الماضية والقرون السالفة، الذين آثروا عبادة الأوثان علي طاعة أولياء اللَّه عزّ وجلّ وتقديمهم من يجهل علي من يعلم، فعقّبها اللَّه تعالي بقوله: «هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَکَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ»[62] وقال في الذين استولوا علي تراث رسول اللَّه بغير حق من بعد وفاته: «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَي فَمَا لَکُمْ کَيْفَ تَحْکُمُونَ»[63] فلو جاز للاُمّة الإئتمام بمن لا يعلم أو بمن يجهل لم يقل إبراهيم عليه‏السلام لأبيه: «لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْکَ شَيْئاً»[64] فالناس أتباع من اتّبعوه من أئمّة الحق وأئمّة الباطل، قال اللَّه عزّ وجلّ: «يَوْمَ نَدْعُوا کُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ کِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِکَ يَقْرَؤُنَ کِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً»[65] فمن أئتمّ بالصادقين حشر معهم، ومن أئتمّ بالمنافقين حشر معهم، قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: يحشر المرء مع من أحبّ، قال إبراهيم عليه‏السلام: «فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي».[66].

[صفحه 193]

وأصل الايمان العلم، وقد جعل اللَّه تعالي له أهلاً ندب إلي طاعتهم ومسألتهم، فقال: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»[67] وقال جلّت عظمته: «وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا»[68] والبيوت في هذا الموضع اللّاتي عظّم اللَّه بناءها بقوله: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْکَرَ فِيهَا اسْمُهُ»[69] ثمّ بيّن معناها لکيلا يظنّ أهل الجاهلية أنّها بيوت مبنيّة، فقال تعالي: «رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللَّهِ»[70] فمن طلب العلم في هذه الجهة أدرکه، قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: أنا مدينة العلم- وفي موضع آخر- أنا مدينة الحکمة، وعليّ بابها فمن أراد الحکمة فليأتها من بابها.

وکلّ هذا منصوص في کتابه تعالي إلّا أنّ له أهلاً يعلمون تأويله، فمن عدل منهم إلي الذين ينتحلون ما ليس لهم ويتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله بلا برهان ولا دليل ولا هدي، هلک وأهلک وخسرت صفقته وضلّ سعيه يوم «تَبْرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ»[71] وإنما هو حقّ وباطل وإيمان وکفر، وعلم وجهل، وسعادة وشقوة، وجنّة ونار، لمن يجتمع الحق والباطل في قلب امرئٍ، قال اللَّه تعالي: «مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ».[72].

وإنما هلک الناس حين ساووا بين أئمة الهدي وبين أئمة الکفر، وقالوا: إنّ الطاعة مفروضة لکلّ من قام مقام النبي صلي الله عليه و آله برّاً کان أو فاجراً، فاُتوا من قِبَل ذلک، قال اللَّه سبحانه: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ کَالْمُجْرِمِينَ مَا لَکُمْ کَيْفَ تَحْکُمُونَ»[73] وقال اللَّه تعالي:

[صفحه 194]

«هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَي وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ»[74] فقال فيمن سمّوهم من أئمة الکفر بأسماء أئمة الهدي من غضب أهل الحق ما جعله اللَّه لهم، وفيمن أعان أئمة الضلال علي ظلمهم: «أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُکُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ»[75] فأخبرهم اللَّه سبحانه بعظيم افترائهم علي جملة أهل الايمان بقوله تعالي: «إِنَّمَا يَفْتَرِي الْکَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ»[76] وقوله تعالي: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًي مِنَ اللَّهِ»[77] وبقوله سبحانه: «أَفَمَنْ کَانَ مُؤْمِناً کَمَنْ کَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُنَ»[78] وبقوله تعالي: «أَفَمَنْ کَانَ عَلَي بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ کَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ»[79] فبيّن اللَّه عزّ وجلّ بين الحق والباطل في کثير من آيات القرآن، ولم يجعل للعباد عذراً في مخالفة أمره بعد البيان والبرهان، ولم يترکهم في لبسٍ من أمرهم.

ولقد رکب القوم الظلم والکفر في اختلافهم بعد نبيّهم، وتفريقهم الاُمّة وتشتيت أمر المسلمين واعتدائهم علي أوصياء رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، بعد أن بيّن لهم من الثواب علي الطاعة والعقاب علي المعصية بالمخالفة، فاتّبعوا أهوائهم وترکوا ما أمرهم اللَّه به ورسوله، قال تعالي: «وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْکِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةَ»[80] ثمّ أبان فضل المؤمنين فقال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِکَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ».[81].

ثمّ وصف ما أعدّه من کرامته تعالي لهم، وما أعدّه لمن أشرک به وخالف أمره

[صفحه 195]

وعصي وليّه من النقمة والعذاب، ففرّق بين صفات المهتدين وصفات المعتدين، فجعل ذلک مسطوراً في کثير من آيات کتابه، ولهذه العلّة قال اللَّه تعالي: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَي قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»[82] فتري من هو الإمام الذي يستحقّ هذه الصفة من اللَّه عزّ وجلّ المفروض علي الاُمّة طاعته، من لم يشرک باللَّه تعالي طرفة عينٍ، ولم يعصه في دقيقة ولا جليلة قط؟ أم مَن أنفذ عمره وأکثر أيّامه في عبادة الأوثان، ثمّ أظهر الايمان وأبطن النفاق؟ وهل من صفة الحکيم أن يطهّر الخبيث بالخبيث، ويقيم الحدود علي الاُمّة من في جنبه الحدود الکثيرة، وهو سبحانه يقول: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَکُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْکِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ»[83] أولم يأمر اللَّه عزّ وجلّ نبيّه صلي الله عليه و آله بتبليغ ما عهده إليه في وصيّه وإظهار إمامته وولايته بقوله: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْکَ مِنْ رَبِّکَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُکَ مِنَ النَّاسِ»[84] فبلّغ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ما قد سمع، وعلم أنّ الشياطين اجتمعوا إلي إبليس، فقالوا له: ألم تکن أخبرتنا أنّ محمّداً إذا مضي نکثت اُمّته عهده ونقضت سنّته، وإنّ الکتاب الذي جاء به يشهد بذلک، وهو قوله: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِکُمْ»[85] فکيف يتمّ هذا وقد نصب لاُمّته عَلماً وأقام لهم إماماً؟ فقال لهم إبليس: لا تجزعوا من هذا فإنّ اُمّته ينقضون عهده ويغدرون‏بوصيّه من بعده، ويظلمون أهل بيته، ويهملون ذلک، لغلبة حبّ‏الدنيا علي قلوبهم، وتمکّن‏الحميّة والضغائن في‏نفوسهم، واستکبارهم وعزّهم، فأنزل‏اللَّه‏تعالي: «وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاًمِنَ الْمُؤْمِنِينَ».[86] [87].

[صفحه 196]


صفحه 185، 186، 187، 189، 189، 190، 191، 192، 193، 194، 195، 196.








  1. النحل: 106.
  2. البقرة: 225.
  3. آل عمران: 191.
  4. محمّد: 24.
  5. الحج: 46.
  6. البقرة: 136.
  7. البقرة: 83.
  8. النساء: 171.
  9. الأعراف: 204.
  10. النساء: 140.
  11. الأنعام: 68.
  12. الزمر: 18.
  13. القصص: 55.
  14. الغاشية: 17.
  15. الأعراف: 185.
  16. الأنعام: 99.
  17. الأنعام: 104.
  18. الحج: 46.
  19. النور: 30.
  20. النور: 31.
  21. فصلت: 22.
  22. الإسراء: 36.
  23. المائدة: 6.
  24. البقرة: 267.
  25. محمد: 4.
  26. الجمعة: 9.
  27. لقمان: 18.
  28. لقمان: 19.
  29. البقرة: 238.
  30. يس: 65.
  31. المائدة: 6.
  32. البقرة: 143.
  33. البراءة: 124.
  34. الأنفال: 2.
  35. الکهف: 13.
  36. محمّد: 17.
  37. الفتح: 4.
  38. الواقعة: 10.
  39. البراءة: 100.
  40. البقرة: 253.
  41. الإسراء: 55.
  42. الإسراء: 21.
  43. آل عمران: 163.
  44. هود: 3.
  45. البراءة: 20.
  46. الحديد: 10.
  47. النساء: 96.
  48. البراءة: 120.
  49. النساء: 80.
  50. الأنعام: 149.
  51. النساء: 165.
  52. المائدة: 19.
  53. السجدة: 24.
  54. النساء: 59.
  55. النساء: 83.
  56. آل عمران: 13.
  57. العنکبوت: 49.
  58. فاطر: 28.
  59. البراءة: 119.
  60. المائدة: 56.
  61. المائدة: 55.
  62. الزمر: 9.
  63. يونس: 35.
  64. مريم: 42.
  65. الإسراء: 71.
  66. إبراهيم: 36.
  67. النحل: 43.
  68. البقرة: 189.
  69. النور: 37.
  70. النور: 37.
  71. البقرة: 166.
  72. الأحزاب: 4.
  73. القلم: 35.
  74. الرعد: 16.
  75. الأعراف: 71.
  76. النحل: 105.
  77. القصص: 50.
  78. السجدة: 18.
  79. محمّد: 14.
  80. البينة: 4.
  81. البينة: 7.
  82. محمّد: 24.
  83. البقرة: 44.
  84. المائدة: 67.
  85. آل عمران: 144.
  86. سبأ: 20.
  87. البحار 73: 69؛ مستدرک الوسائل 143: 11 ح12660؛ رسالة المحکم والمتشابه: 56.